في الشهر السابع من عام 1963 كان مالك بن نبي في طريقه مع عائلته نحو الجزائر من طريق طرابلس ليبيا التي مكث فيها حتى آخر الشهر بعد أن هاجر إلى القاهرة من عام 1956 الى عام 1963. كانت مذكراته التي تعود أن يدون فيها أحاسيسه ورؤياه وأفكاره، هي التي تكشف عمق مسيرته وانفتاحه على عمق عهد جديد، لكنه وهو في ليبيا وقبل وصوله إلى الجزائر بدأ يراقب الأحداث في مصر التي خلفها وراءه. ففي 11/7/1963 دون أول انطباعاته نحو ذلك الأفق الجديد،. إنه الضباب والغموض «إنني لا أرى أمامي طريقاً، فالضباب يحيط بي كما يحيط بأفكاري وخطاي إلى قدري في طريق لا ينتهي ولكن أين الفكرة وكيف الطريق؟». فتَحْتَ عنوان «ناصر يقلب الصفحة» كَتَبَ في مفكرته وهو ما زال في طريقه إلى وطنه في 29/7/1963 تعليقاً على اتخاذ جمهورية مصر العربية، قراراً بوجوب حصول الرعايا العراقيين والسوريين والأردنيين والسعوديين على تأشيرة دخول إلى مصر، إعلاناً عن سوء العلاقة بين هذه الدول التي سوف تلاقي الموقف بموقف مماثل، فكتب في مفكرته: «إن الرئيس عبد الناصر يعتبر رجل الدولة العربية الوحيد الذي يكتب بيده التاريخ العربي ظاهراً وتبقى اليد الخفية التي تكتب التاريخ، إنها يد الاستعمار، وهنا في هذا الموقف يحقق الاستعمار موضوعه الأول في قرار مصر أما موضوعه الثاني فهو الذي تقابله الدول العربية المعنية بقرار مماثل. وهكذا، فإن دولاب التاريخ يدور في الفراغ في سائر هذه البلاد منذ سنين عدة، وهو يبدو لي سِمة المرحلة المقبلة في «مسيرة الستينات» لسائر البلاد العربية الغارقة في الفراغ بسبب شخصانية حكامها أو خيانتهم، وهكذا يبحثون دائماً عن خطة جديدة للخروج من هذا الفراغ يثيرون فيها بواعث مرحلة جديدة، ولكن أين هي الفكرة؟ هل هي الشيوعية ثورة تفرض من الخارج؟ أم هي فكرة أخرى سوف تفرض ثورة من الداخل؟ أعتقد أنني أرى كل أهمية لهذا السؤال الأخير، ولكنني أترك للزمن أن يجيب عنه». هكذا يستعيد بن نبي سؤاله الأساسي الذي كان مرتكز كتابه «فكرة كومنولث إسلامي» التي خطط لها أولاً كخطة منهج للمؤتمر الإسلامي 1958، ثم انتهى بأن نشرها عام 1960 أساساً لروابط تتجاوز لعبة القرار السياسي لكل دولة لأنها في الأساس جزء من عالم تاريخي هو العالم الإسلامي، ذلك أن المسلم كما أوضح في مشروعه يستبطن من الوجهة النفسية بذور ثورة مكبوتة، ولذا سيجد نفسه أمام احتمالين: الاحتمال الأول: أن يكون بوسع العالم الإسلامي أن يقوم بثورة طبق تخطيط تراعى فيه العوامل النفسية والاجتماعية الخاصة به. الاحتمال الثاني: في حال عدم وجود قيادة حكيمة ترسم له خطته، سوف يرى العالم الإسلامي نفسه مندفعاً (بضرورة انسجامه في التطور العالمي الذي ما زالت سرعته تتزايد) مندفعاً إلى ثورة تأتيه من الخارج أي ثورة لن يكون في مقدوره التحكم فيها. كانت هذه رؤية بن نبي عام 1958 مع إعلان الوحدة بين مصر وسورية وهي في عمقها إحدى تداعيات دورة الحضارة الإسلامية من جديد في مشروعه الأساسي «الفكرة الإفريقية الآسيوية» كطريق من الطرق الجديدة التي أشار إليها بن نبي في كتابه «وجهة العالم الإسلامي». وهو يحمل كل ما في هذه الوجهة من خروج نحو عالم جديد، لذا كانت أفكاره تتجه وهو في طريقه للجزائر نحو البناء والحرية في مرحلة جديدة كان يتطلع الى دور له فيها ولمشروعه في أرض وُلدت فيها تجربته من ثنائية الاستعمار والقابلية للاستعمار، ومنها ينطلق مع الاستقلال إلى أفق جديد. من خلال هذه الثنائية نرى بن نبي يطرح حضوره في اساس معنى الاستقلال الحضاري باعتباره ساحة البناء الاستراتيجي للثورة. لذا فهو ليس استقلالاً ظاهره خروج الاستعمار وباطنه دور جديد له في ساحة القابلية للاستعمار. فبن نبي العائد الى الجزائر يعود وفي حقيبته ما حملت شهادته على العصر في العقود الثلاثة السابقة على الاستقلال 1930-1963 وهي مملوءة بدءاً من عام 1930 مرحلة دراسته في باريس وما حملت الثلاثينات من السياسة المتسلقة الى السلطة عبر «البوليتيك» ثم الثقافة المتثيقفة التي انتجت تزوير النتائج على سطح المجتمع الجزائري وروحه الشعبية. ثم كانت مرحلة الهجرة الى القاهرة 1956-1963 والثورة الجزائرية في بدايتها وقد دخلت مرحلة خطيرة هي فقدانها خطط المسار الثوري حين استسلمت لرسل السياسة الخفية التي افتتحها غي مولييه رئيس وزراء فرنسا. وهكذا خرجت الثورة من بنائها الداخلي بناء روح « قصة لبيك» وأمكن للسياسة في فراغ القيادة الثورية وهشاشتها ان تبطل الدولة الفرنسية فاعلية البداية ثم تزوير النهاية. ففي 18/5/1959 كان فيلسوفنا في القاهرة يتلقى انباء الثورة ويتابع حركة الحكومة الجزائرية الموقتة وقد وضع الحروف الأولى لدراسة نقدية للثورة تحت عنوان «التاريخ النقدي لثورة الجزائر» ويمكن لنا ان نتبين مساره النقدي في اوراقه حيث يقول: «ان المؤرخ اذا ما وضع الثورة الجزائرية والشعب الجزائري على مائدة البحث والتحليل كما هو شأن كل شعب فسوف يفاجأ حين يرى الشعب الجزائري يتمتع بقيم شعبية محورية حضارية لكنها تبدو في شكل مخيف عارية في حركتها من مفاصل اساسية اعني تلك التي نسميها النخبة ذات الصفات الإيديولوجية والأخلاقية والثقافية». في 26/7/1959 وفي صيف ذلك اليوم الدمشقي امتلأت إحدى قاعات كلية الآداب بصفوة المثقفين يتقدمهم رئيس الجامعة حكمت هاشم ومختلف أساتذة الفلسفة. لقد كان عنوان محاضرة بن نبي «خواطر حول نهضتنا العربية». ففي ظل تفاؤل الناصرية والوحدة بين مصر وسورية وشعارات الثورة والوحدة كان بن نبي يرسم مخاوف في خواطره إذا لم تتخذ النهضة القائمة سبل التأسيس لدورها في بناء الفاعلية في الثقافة والتربية تؤسس لمعادلة شخصيته تصنع تاريخها. لقد كان بن نبي وكأنما كان يخاطب المناخ الجديد بأننا أصبحنا على أبواب عهد جديد لا نعرف اسمه بعد وإنما بدأنا نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا في عالم تبصر فيه عيوننا إلى بعد المئات من الكيلومترات ويمتد حضورنا إلى أي مكان من العالم بسرعة الضوء. إن ذلك يتطلب نظرة تتحدد فيها الخيارات نحو العالم بما يوفر شروط انسجامها مع ضرورات السير العالمي في نظرة إلى الداخل أولاً تحافظ على الاتجاه الصحيح نحو واجبات نظرتنا إلى الخارج، وهذا ما يلزمنا ثانياً بتجديد منهجية النهضة في بناء عالمنا العربي، فحين نقارن أسباب تخلفنا عن مسار النهضة منذ عام 1868 أي في أول اتصال بأوروبا بالمقارنة مع اليابان نرى أن الأسباب تعود إلى: 1- عدم تشخيص غاية النهضة تشخيصاً واضحاً. 2- عدم تشخيص المشكلات الاجتماعية تشخيصاً صحيحاً. 3- عدم تحديد الوسائل تحديداً يناسب الغاية المنشودة. فالنهضة افتقدت في السبب الأول: اعتبار التاريخ عملية اجتماعية محددة الأسباب والنتائج ومرتبطة بمصير الإنسان ترفع من حظه أو تلقيه في الحضيض. لذا فالتاريخ ليس مجرد تسلسل حوادث على شاشة الزمن كما اتجه إليه فكرنا فسار بنا مركبه في نهر التطورات إلى مصير انتظاري في أساس تكويننا المتخلف عن مسيرة العالم. فقد أشار بن نبي إلى أن الضعف في تلقائية هذا المسار في القرن العشرين أدى إلى السبب الثاني أي إلى غياب تشخيص المشكلات، مشكلات النهضة لجهة ضرورات الخارج إذ لا نزال نفكر خارج طبيعة المشكلات، فكثير من المشكلات تعرض لنا لكننا لا نتعرض لها بفكرنا ولكن بعاداتنا الفكرية وقد يكون نصيبنا من النجاح قليلاً من دون أن نشعر بذلك أحياناً لأننا نفقد وسائل الرقابة ثم أنه ليس في أيدينا المقاييس لتقدير النتائج تقديراً صحيحاً، فالقضية الاجتماعية مهما كانت ظروفها لا تعالج بالبديهيات التي ترى العلاج النافع في وضع النقيض أمام كل داء. أما السبب الثالث فإننا إذا حللنا مسيرة النهضة منذ عام 1868 حتى عام 1905 مثلاً بالمقارنة مع نهضة اليابان في تلك الفترة نفسها وجدنا أن النهضة اليابانية استوردت من أوروبا وسائل لبناء حضارة بينما غرقت النهضة العربية الإسلامية في عالم أشياء لم تكن تعرفها فاستوردتها من دون ربطها بأية دوافع تحرك هذه الأشياء بالفكرة التي تقحمها بالعملية الاجتماعية وهكذا انساقت النهضة بين التفريط والإفراط. من هنا تبدو أهمية المعادلة الاجتماعية التي حدد عناصرها في دراسته وهي الربط بين الإنسان، التراب والوقت، إذ كل منتوج حضاري هو حصاد هذه العناصر الثلاثة. مالك بن نبي ربط مشروعه بالعالم الاسلامي الذي يستبطن ثورة في اطار من الجغرافيا السياسية وذلك يتجلى في كتابه «فكرة كومنولث إسلامية» حين لم تجد فكرة الافريقية الآسيوية نجاحاً كطريق جديد للثقافة الاسلامية على رغم شروعها في تتفاعل حركتها على حدود ثقافة اللاعنف في الهند وذلك مسار غير مسبوق في تجدد حيوية الفكر الاسلامي في مداه العالمي. هذا الرصيد الذي حمله بن نبي العائد الى الجزائر أسس له أملاً يغشاه ضباب القابلية للاستعمار. فالسنوات العشر في الجزائر التي انتهت بوفاته لم تضف الى تراث ما قدم في جزائر الولادة والنشأة والقاهرة ثانياً إلا تفصيلاً كتابه «بين الرشاد والتيه» وانهاء كتابه «مشكلة الافكار في العالم الإسلامي» وأخيراً في «المسلم في عالم الاقتصاد».أما كتابه «ميلاد مجتمع» وهو يتهيأ لعودته للجزائر فقد أسس به فقه فاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية. وهكذا أرسى وهو على عتبة مسؤولياته كمدير عام للثقافة ورئيس لجامعة الجزائر خطة منهج لسائر ما حملت حقيبته العائد بها للجزائر لكنها لم تجد ملاذاً في خطط العهد الاستقلالي ولا في تنمية وعي جديد يؤسس كما أشار في مقالاته لعلم اجتماع خاص بالبلاد التي خرجت من الاستعمار ومن القابلية للاستعمار. ونشير هنا الى ندوته الاسبوعية لجيل جاء من بعده ينشر فكره. لقد كان بن نبي عام 1965 بالغ الاحباط والقلق. ومع ايمانه بصحة مشروعه انتهى الى استحالة تطبيقه على رغم إيمانه بوعد النور الإلهي. * نائب ووزير لبناني سابق، من المتخصصين في فكر مالك بن نبي، ويصدر له كتاب عنه في جزءين