ظلت مقاهي المثقفين خالية في شهر رمضان هذا العام ولم تعد كما كانت قبل سنوات تستقبل ضيوفها من الفنانين والروائيين والشعراء والنقاد الذين تأخذهم الاحاديث حتى ساعات السحور, فالخوف لا يحمي المغفلين والمغامرين الذين يخرجون في ظلمات الليل من ان تصيبهم رصاصة امريكية طائشة او يتعرض لهم لصوص في هذا الطريق او ذاك. حوارات المثقفين كانت غائبة عن ليالي رمضان مثلما غابت طقوس العائلات العراقية الاخرى التي كانت تقضي ليالي الشهر بالزيارات المتبادلة بين الاقارب, او بالاعتكاف في المساجد الكبيرة في بغداد لتلاوة القرآن الكريم وسماع المحاضرات حتى صلاة الفجر, فالدوريات الامريكية التي تطوف الشوارع لا تفرق بين احد وآخر, واصوات العبوات الناسفة التي تتفجر في طرق بغداد مستهدفة القوات الامريكية تنذر الكثيرين من التنقل ليلا.وقد رمى هذا الخوف بثقله على احد ابرز ملامح رمضان في العراق التي عرفها العراقيون منذ مئات السنين. فالمسحراتي او ما يسميه العراقيون (ابو السحور) او (ابو الطبل) لم يعد يوقظ العراقيين في شهر رمضان عند ساعات السحور, فاصوات الانفجارات كانت اقوى من صوته فاعتزل المهمة واختنق صوته, كما ان اصوات الطائرات المروحية والحربية الامريكية التي تجول السماء ليلا ونهارا لم تدع للناس متعة سماع الاذان وترتيل القرآن الكريم من مساجد العراق, وكأن كل ذلك اصبح من الزمن الغابر.واذا كان العراقيون يبدأون موسم بهجتهم اليومي بعد الافطار كما هو الحال في كل شهر لم يعودوا يشعرون بهذه البهجة فلا فسحة لاحد الا الوصول الى المسجد القريب من منزله لقضاء صلاة التراويح, فالمسافة وسط الخوف من كل شيء تصبح بعيدة جدا حتى لا يكاد يجربها الا المغامرون. اما المقاهي التي كانت تضج بصخب روادها طيلة الليالي المباركة فهي اليوم خاوية ولا احد يجيء ولا احد يذهب. وبينما كان شارع الرشيد منتجع الصائمين للفطور والسحور فهو اليوم اطلال خوف, فقبل سنوات كانت منطقة (المربعة) وسط شارع الرشيد التي كان يقطنها المصريون المقيمون في العراق غالبا شلال نور بغدادي مع ليالي الشهر الفضيل, وقد اصبحت مظلمة ولا تمر فيها سوى الكلاب السائبة في عتمة الليل الموحش, بعد ان كانت تتلاطم اقداح وصحون الطعام الشعبي العراقي والمصري في ازقة هذه المنطقة التي يرتادها الناس من كل بغداد. وكذلك الحال في منطقتي الكاظمية والاعظمية التي يؤمها الناس ليلا كما في كل رمضان فقد بدت مع منتصف الليل خالية ولا تمر فيها سوى بعض المدرعات والعجلات الامريكية مسرعة وقد سدد الجنود فوهات بنادقهم على كل ما يحيط بالطريق. باعة الحلوى وحدهم ظلوا يعبرون عن نكهة رمضان بصحون البقلاوة الكبيرة, ولكنهم هذه المرة لم يسهروا كما كانوا حتى الصباح فاغلب المحلات تغلق ابوابها في ساعة مبكرة من الليل, وعلى الزبائن الحضور ظهرا او عصرا لشراء ما يحتاجونه, فالخوف سيد الموقف ولا احد يسأل عن احد اذا ما جن الليل وسكن الناس في البيوت. الاحتلال الامريكي سرق بهجة رمضان من العراقيين ومقاهي المثقفين اصبحت خالية ولاشيء لدى الناس سوى الدعاء بان يبعد الله عنهم هذه الغمة.