يتنقل لؤي صباح بدشداشته التقليدية البيضاء في شوارع سامراء شمال بغداد وهو يصيح “سحور سحور”، وفي يده طبلة صغيرة محاولاً تأدية دور المسحر المهدد بالنسيان في العراق بسبب الأوضاع الأمنية. واستطاع لؤي الذي ورث شغفه هذا عن والده التنقل بعد منتصف الليل بحرية في شوارع سامراء إثر قرار السلطات إعفاء ليالي رمضان من حظر التجول المفروض عادة على المدينة بين الواحدة بعد منتصف الليل (10 غرينتش) والرابعة فجراً (1 غرينتش). ويقول صباح لوكالة فرانس برس إن “المسحر اختفى تماما بعد سقوط النظام السابق ولا يوجد إلا بعض منهم الآن، وهم يأتون بشكل متقطع وليس يومياً”. وفي مجتمع يعتز بتقاليد شهر الصوم، يفتقد كثير من العراقيين لأصوات المسحرين الذين كانت صرخات حناجرهم ودوي طبولهم تضج في سماء كل مدن العراق أثناء السحور، ولم تعد تسمع إلا بين الحين والآخر وفي مناطق محددة. ويروي أبو جاسم (82 عاماً) وهو يتكئ على يد كرسي مهترىء عند بائع للخضار في الكرادة وسط بغداد “أيام زمان كان لكل زقاق مسحراتي يضرب الطبل عند السحور، حتى أن أصوات المسحرين كانت تتقاطع أحياناً لكثرتهم”. ويضيف “كان الأطفال يخرجون لاستقباله بصرخات الفرح عندما يدخل شارعنا، لكن الخوف، وانعدام الأمن، يغيبانه اليوم”. وكان الزي البغدادي القديم، الدشداشة والشماغ والكوفية على رأسه، أكثر ما يميز المسحر، ويعكس صورة بغداد القديمة. ومنذ سقوط النظام السابق عام 2003، والاجتياح الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة، تشهد البلاد أعمال عنف يومية قتل فيها عشرات الآلاف، وبلغت أوجها في موجة عنف طائفي بين عامي 2006 و2008. وازدادت حدة أعمال العنف في الأشهر الأخيرة في العراق، إذ قتل 325 عراقياً في يوليو الماضي، بحسب ما أكدت أرقام رسمية، ما يجعله الشهر الأكثر دموية في العراق منذ أغسطس 2010. وقتل 50 شخصاً على الأقل في الأيام الخمسة الأولى من الشهر الحالي معظمهم عناصر في الشرطة والجيش. ودفعت أعمال العنف اليومية السلطات العراقية إلى فرض حظة تجول منذ سنوات على معظم المدن بدءاً من منتصف الليل، وحتى ساعات الصباح الأولى. وفي بعقوبة شمال شرق بغداد، كبرى مدن محافظة ديالى، يؤكد المسحراتي أحمد عباس (27 عاماً) أنه لا يستطيع تأدية دوره هذا بدون موافقة من الجهات الأمنية، على أن يتجول في المناطق المستقرة فقط. وقال مسؤول محلي في بعقوبة التي تعد من أكثر مدن البلاد توتراً أن “عدد المسحراتية انخفض إلى النصف بعد أن كانوا أكثر من ستين العام الماضي”. أما في الكوت جنوب بغداد فيؤدي المسحرون دورهم تحت إشراف المجلس البلدي للمدينة، تجنباً لتعرضهم لأعمال عنف، بحسب أحمد ميرا (40 عاماً) الذي يعمل في بلدية المدينة، وبدأ ممارسة دور المسحراتي عندما كان طفلاً مع والده. ويقول ميرا لفرانس برس “أخطط مع أصدقائي لتشكيل جمعية خاصة للحفاظ على هذا المورث الديني والشعبي الجميل المهدد بالضياع والنسيان”. وبالفعل، خسرت مدن عراقية تماماً صوت المسحر. ففي الموصل شمال بغداد، اختفى المسحرون عن شوارع المدينة، كما هو حال أغلب مناطق محافظة نينوى. ويؤكد محمد خالد العريبي، أحد مسؤولي الوقف السني في نينوى، أن “المسحرين اندثروا تماماً منذ سنوات في الموصل، بسبب الأوضاع الأمنية، وغياب دعم المسؤولين المحليين لهم”. ويقول عامل البناء مخلص جار الله إن “حارات كبيرة، مثل باب الجديد، وراس الجادة، كانت تصحو على صوت جدي أيام زمان”. ويتابع “الاجتياح قضى حتى على المسحر”. أ ف ب | بغداد