بين دول عربية وأخرى أجنبية تنقل وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء سابقا الدكتور مدني علاقي، فمن مسقط الرأس جازان إلى أطهر بقاع الأرض مكةالمكرمة، ثم القاهرة أول نقطة باتجاه العالم الخارجي، رحلات سفر مرت بتجارب شعوب عدة تخللتها مواقف وذكريات لم تمح رغم تقادم السنين.. مواقف وذكريات رمضانية في حياة الدكتور علاقي في ثنايا الحوار التالي: • قضيتم رمضان في بلدان عدة، حدثونا عن تجربتكم مع الصيام إبان هذه الفترة. أول رمضان صمته خارج المملكة أثناء دراستي في القاهرة في الستينيات الميلادية لمدة أربع سنوات، صمت أيضا في لندن، والولاياتالمتحدة، وطبعا لا يمكن أن تقارن الصيام خارج المملكة بمتعة الصيام في الوطن، إذ أن متعة الصيام تختلف من منطقة لأخرى، لكن صيامي في مكةالمكرمة أثناء الدراسة كان له طعم آخر مميز، أثناء الدراسة في الثانوية العامة، حيث صمت هناك سنتين أفطر بجوار الحرم وأصلي فيه الفروض والتراويح، فكانت هذه متعة لا تقدر، فقد امتازت العاصمة المقدسة في حقبة السبعينيات الهجرية بروعة أحيائها القديمة وأسواقها القريبة من الحرم ما أعطى ليالي رمضان نكهة خاصة. • صفوا لنا اللحظات التي كانت تسبق أذان المغرب في تلك الفترة. كنا نفك الريق في المغرب أمام الكعبة المشرفة مباشرة في صحن الطواف، وأحيانا في الصف الأول من صحن الطواف، فكانت متعة لا تقدر، فكان رمضان في مكةالمكرمة له بهجة خاصة، سواء في الصيام نهارا أو في الصلاة والقيام ليلا، ناهيك عن استبشار المجتمع المكي بشهر رمضان والحفاوة والاستعداد الذي يقومون به لاستقبال الشهر الكريم. • كم كان عمركم عندما بدأتم الصيام؟ على ما أظن في سن سبع أو ثماني سنوات، ولكن كان صياما من «وراء الزير»، كما يقولون، كانت محاولات صيام وليس صياما، لكن المحاولات الجادة في الصيام بدأت من بعد سن 10 سنوات في جازان. • كيف كان رمضان في جازان في طفولتكم؟ خرجت من جازان عندما كنت في الخامسة عشرة لأواصل تعليمي في مكةالمكرمة، ما قبلها لا أستطيع الحديث عن فترة الطفولة المبكرة، لأنني لم أصم فيها، ولكن ما بعد العاشرة إلى الخامسة عشرة أعتقد أنني ما زلت أذكرها، وعموما الأجواء الرمضانية كانت جميلة في جازان بطبيعة الحال، وقتها لم يكن هناك تلفزيون، فقط الراديو، كان الوالد رحمة الله عليه يذهب إلى العمل، وكان رئيسا لبلدية جازان، وأذكر أنهم كانوا يذهبون للعمل بعد صلاة الظهر إلى بعد صلاة العصر، ومن ثم يعودون إلى منازلهم. وأذكر في تلك الفترة كنت أنا المعني بتلبية احتياجات الأسرة في رمضان من مقاضي رمضان ومقاضي الإفطار وخلافه، لم تكن هناك ثلاجات فبالتالي الطلبات يومية، إذ لم يكن هناك تخزين، فمن بعد صلاة الظهر أتفرغ لتلبية احتياجات الأسرة من مأكولات وطلبات واحتياجات وجبات الإفطار والعشاء والسحور، ولأنني كنت أصغر إخواني الذكور الخمسة فقد ألقيت هذه الأعباء علي. • وماذا عن انتقالكم لمكةالمكرمة؟ كان معي زملاء من جازان، كان معي الأخ علي بن عبده طبيقي والأخ علي بن أحمد عارف - رحمة الله عليه - وعبدالله اليحيى، كان هؤلاء معي من جازان. وكنا في بداية دراستنا في مكة في القسم الداخلي في المدرسة الرحمانية، فالقسم الداخلي يؤمن الإفطار والسحور، وبعد إلغاء القسم الداخلي قضينا أحد أشهر رمضان في معاناة شديدة مع الإفطار والسحور، كنا عزابا بطبيعة الحال، وكان رمضان في فترة الدراسة ولم يكن إجازة مدرسية. فأذكر أننا اتفقنا مع أحد المطاعم الجاوية في مكةالمكرمة لتأمين الإفطار والسحور بمبلغ مقطوع مقداره 90 ريالا لكل شخص منا طوال الشهر. وكنا نعود من المدرسة قبل العصر بقليل ولم يكن لدينا وقت ولا جهد لإعداد الطعام بأنفسنا، وكان المطعم قريبا من الحرم في منطقة القشاشية، فنفطر ونتجه للحرم ومعنا كتبنا ودروسنا، ونظل في الحرم نذاكر ونصلي العشاء والتراويح إلى ما قبل السحور فنتجه إلى المطعم لتناول وجبة السحور ثم نعود إلى المنزل ثانية لننام ونستعد للمدرسة في اليوم لتالي، وكان هذا برنامجنا يوميا طوال أيام رمضان في مكةالمكرمة. • يعتبر صيامكم في القاهرة أول صيام لكم خارج المملكة حدثونا عن هذه التجربة. صيامي في القاهرة كان أيضا لمدة أربع سنوات، ورمضان في القاهرة جميل بلا شك، رغم أن الأجواء بالطبع مختلفة، فالمصريون في رمضان يتجهون إلى المساجد وتعمر المساجد بشكل ملفت للنظر وجميل وتسمع أصوات المآذن من الجوار وتسمع أدعية ما بين أذان وإقامة صلاة الفجر. أيضا الشوارع في رمضان في النهار تكاد تكون خالية وتبدأ الحركة والنشاط من بعد صلاة الظهر، وفي الليل في الأحياء الشعبية مثل منطقة الأزهر والسيدة زينب تعج بالنشاط الثقافي والديني والتسويقي من بعد التراويح حتى بعد صلاة الفجر. ليالي رمضان في القاهرة جميلة جدا، خاصة في الأحياء الشعبية، لكن كنا نعاني في شهر رمضان، إذ كانت الدراسة لا تتوقف، وتبدأ المحاضرات من الساعة 7 صباحا، وهناك محاضرات تستمر إلى ما قبل الإفطار مباشرة، ولم يكن هناك وقت لإعداد الطعام بأنفسنا. وكان لدينا من يقوم بالخدمة في المنزل، يعد طعام الإفطار والسحور ولكن ليس جيدا، ولكن «يمشي الحال»، لكن أذكر أحد الرمضانات وأظنه أول رمضان لي في القاهرة اتفقنا مجموعة من السعوديين على أن نتسحر عند أحدنا بالاشتراك «بالباي» وقد استضافنا الأخوان محمد علي اشموني ومعتوق سرور الزايدي من أهل الطائف. اتفقنا معهما على أن نشترك في سحور رمضان بمساهمات، وكان لديهما طباخ، وكنا نذهب أنا وزميلي محمد حبابي، يرحمه الله، إليهما ونتسحر عندهما، وفي إحدى الليالي حدث نقاش حاد بيننا في موضوعات لا تتعلق برمضان ولا بالسحور، فانسحبنا من مسألة السحور هذه. وحاول الأخوان استرضاءنا - جزاهما الله خيرا - ولكن نحن صممنا على موقفنا بالانسحاب من السحور، بل المطالبة بالمبلغ المتبقي لنا من قيمة المساهمة في السحور. • ما أبرز الذكريات التي لا تزال عالقة في أذهانكم؟ من الأمور الجميلة التي أتذكرها في تلك الفترة كنا نسكن معا أنا وزميلي الأستاذ محمد حبابي، يرحمه الله، وكان كل منا يتولى المصروفات شهرا ثم الآخر وهكذا، وكان من سياسته أو طريقته أنه كان يغدق علينا في أول الشهر، فراخ وحمام ودجاج ولحم وكل ما لذ وطاب، لكن بعد أسبوعين من الشهر نبدأ نتجه للكشري والفول. • وماذا عن تجربة الصوم في لندن؟ قضيت رمضان في لندن مع الأخوين محمد علي اشموني وسامي علاء الدين، كنا في بعثة من الخطوط السعودية لدراسة الطيران، وكانت دراستنا تبدأ من الصباح الباكر، وكان رمضان يأتي في الشتاء، وتستمر الدراسة من الصباح الباكر حتى قبل صلاة المغرب بدقائق، فكنا نحتفظ ببعض العصائر والتمور في الفندق الذي كنا نسكن فيه، ثم بعد صلاة العشاء نتوجه للعشاء في أحد المطاعم، يسمى سريا، وهناك نجد وجبات دسمة من الرز واللحوم والكباب وغيرها، كانت هي الوجبة الرئيسية، لأنه في وجبة السحور لا نجد مكانا مفتوحا، المحلات تغلق أبوابها، فكانت هذه الوجبة هي الفطور والسحور والعشاء، وفي آخر الليل نضطر لبعض التمر والعصائر التي كنا نحتفظ بها في السكن. • تعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية تجربة أخرى لكم في رمضان بودنا أن تسلطوا الضوء على هذه الفترة. صمت رمضان في الولاياتالمتحدة أثناء الدراسة لمرحلة الماجستير والدكتوراه، في السنتين الأولى والثانية عانيت معاناة شديدة في رمضان، وأذكر أنني في إحدى هاتين السنتين صمت اليوم الأول من رمضان فقط ثم أفطرت بقية الشهر كله بسبب الدراسة التي كانت مستمرة إلى الليل ومطعم الجامعة يغلق بعد وجبة العشاء، وكانت وجبة العشاء تأتي قبل موعد إفطار الصيام، وبالتالي لا أدرك الوجبات أبدا، اليوم الأول كان تجربة قاسية ثم أفطرت بقية الشهر. • تحدثوا لنا عن برنامجكم في رمضان وكيف تقضون يومكم؟ يبدأ برنامجي بعد الساعة 12 ظهرا، أستيقظ حينها وأبدأ بالقرآن الكريم ثم صلاة الظهر ثم أتصفح الجرائد وأتحول لمشاهدة الأخبار في التلفزيون، ثم بعد العصر أعود لقراءة القرآن، وقبل الإفطار أقرأ بعض الكتب مما يتوفر منها، غالبا ما تكون دينية أو تاريخية حتى يحين أذان المغرب والإفطار. وبعد الإفطار ترويح عن النفس مع الأسرة في مشاهدة برامج التلفزيون والحديث معا حتى موعد أذان العشاء والتراويح، وبعد صلاة العشاء والتراويح إذا كانت هناك زيارات للأقارب والأرحام والأصدقاء حتى الثالثة صباحا، وبعد السحور أواصل قراءة القرآن الكريم ثم انتظار صلاة الفجر ثم النوم. وبالنسبة لبرنامج الأسرة ككل فالحمد لله أبنائي يسكنون بجواري، فيوميا نجتمع على مائدة الإفطار عندي في البيت ونصلي معا المغرب، ويستمر البرنامج نفسه إلى نهاية الشهر الكريم الذي نختمه بإفطار جماعي عندي أيضا بعد صلاة العيد، وهو إفطار متعارف عليه من أكلات شعبية معروفة في منطقة جدةومكة (الدبيازة والملوخية والبامية والكنافة والفول والشكشوكة وغيرها). • في إيجاز تحدثوا إلينا عن أبرز الذكريات الرمضانية التي لا تزال عالقة في ذاكرتكم. لا أعرف من أين أبدأ ولكن في جازان وأنا طفل، أعتقد في سن الثانية أو الثالثة عشرة، اشتركت في مضاربة مع أحد بائعي السمبوسة، لا أذكر ماذا كانت ظروف المضاربة وملابساتها، ولكن ما حدث أن البائع استطاع أن يمسكني بحكم أنني الأصغر وأحدهم دفعني ومن حسن حظي أنني لم أسقط على صاج القلي والزيت يغلي فيه فجاءت رجلي في قدر العجين وغطست فيه، إخواني وأبناء عمي اجتمعوا على الرجل وضربوه فذهب واشتكى على الوالد - يرحمه الله - وأيضا أنا «أتمسكت» قبض علي وضربني الوالد والبقية فروا وأنا من عوقب بالضرب قبل الإفطار. والذي دفع الوالد لضربي أنه رأى آثار العجين في رجلي وقال لي «خسرت الرجل في رزقه»، هذا من المواقف التي لا أنساها في الطفولة. وهناك موقف آخر عندما كنت أدرس في القاهرة كنت أسكن مع زميلي الأستاذ محمد حبابي - يرحمه الله - وكان عندنا «شغال» اسمه سيد، يجهز لنا الفطور وقبل صلاة المغرب يذهب يفطر مع أهله وأسرته، وقبل الأذان أحدنا أنا أو زميلي يقوم يسخن الأكل ويغرفه، فمرة من المرات كان الأخ سيد جهز لنا وجبة ملوخية، وكان الأخ محمد حبابي يرتب السفرة وإنا ذهبت لأحضر الملوخية، فأمسكت بقدر الملوخية فانخلعت يده وسقط القدر وانسكبت كل الملوخية، ولم يكن عندنا غيرها وبعض الرز، فأكلنا الرز ناشفا وتحسرنا على الملوخية، خاصة أننا كنا صائمين وجائعين طوال اليوم ونفسنا فيها، والملوخية سائلة لا يمكن إن تلمها من الأرض، وانتهى الإفطار بالرز فقط والحمد لله. وموقف أيضا أثناء عملي في الوزارة كلفت في أول ليلة من رمضان في إحدى السنين بالسفر بشكل عاجل إلى الأرجنتين، وكان ذلك ليلة دخول رمضان، توجهت إلى الأرجنتين ومعي مدير مكتبي الساعة التاسعة ليلا، وكان الإقلاع من مطار جدة، وبعد عدة وقفات وصلنا إلى مطار بيونس ايريس في الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت الأرجنتين، وكان قد مضى على صيامنا وقت وصولنا تقريبا 14 ساعة، وكان موعد الإفطار هناك الساعة الثامنة مساء، أي بعد وصولنا بست ساعات، هذا الموعد تماما يتصادف مع موعد المناسبة التي كلفت بحضورها، وهي الاحتفاء بتنصيب رئيس الجمهورية، وكان هناك حفل استقبال، وكان لا بد أن نحضر في هذا الموعد. حفل الاستقبال هذا ليس فيه أي نوع من الأطعمة أو عصائر تقدم للضيوف، كنت وقتها أمضيت حوالي 20 ساعة صيام فأفطرت على نصف كوب عصير، ورغم أنه كان يجوز لنا الإفطار بحكم السفر، لكن شعرت في داخلي بصعوبة أن أفطر أول ليلة في رمضان، رغم أننا أحضرنا معنا علبة تمر وجالون ماء زمزم وكانت في الفندق، وفي اليوم التالي أيضا كانت هناك مناسبة في الموعد نفسه، وكان معنا القائم بالأعمال السعودي، لكن جزاه الله خيرا بعدما انتهت المناسبة أخبرنا أنه أحضر معه فطورا في السيارة، فكنا سعداء بذلك، حيث أحضر السمبوسة والتمر والشوربة ودلة القهوة.