ضمن احتفاء العاصمة اليمنية صنعاء باختيارها عاصمة للثقافة العربية لهذا العام عقد في الفترة ما بين 13 و 16 من شهر أبريل الماضي ملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب وكان المحور الأساسي لهذا الملتقى يحمل عنوان "التسعينيون وآفاق الكتابة الشعرية". الشعراء المشاركون جاءوا من مختلف أرجاء العالم العربي إضافة إلى عدد كبير من الشعراء اليمنيين. وعلى الرغم من انتمائهم إلى جيل شعري وعمري واحد على وجه التقريب إلا أنهم مثلوا حساسيات شعرية مختلفة ومتفاوتة في خلفياتها الثقافية ومنتجها الإبداعي وإن كان الحضور الأكبر هو لشعراء قصيدة النثر التي يفضل الكثير من الشعراء الجدد اتخاذها وسيلة وحيدة في العديد من الأحيان للتعبير عن ذواتهم شعريا. الجديد في هذا الملتقى هو أنه أتاح الفرصة للجيل الجديد من الشعراء كي يقدم نفسه بهذا الشكل الاحتفائي الذي ينطوي عليه معنى المهرجان الشعري. خصوصا حين نضع في الحسبان أن المهرجانات الشعرية الموسمية وغيرها مما يعقد في مختلف أرجاء العالم العربي وخارجه غالبا ما تطغى عليها أسماء معينة مكرسة يتكرر حضورها في معظم إن لم نقل كل المهرجانات. لقد كان هذا الملتقى بمثابة الفرصة النادرة وغير المتوقعة من قبل العديد من الشعراء ذوي الحضور الإعلامي الضعيف مقارنة بالشعراء النجوم الذين يصرون على البزوغ في كل المهرجانات والملتقيات الشعرية دون أن يصيبهم الملل أو الكلل. المملكة تمثلت في هذا الملتقى من خلال الشعراء عيد الخميسي ومحمد حبيبي وعلي الحازمي وطلال الطويرقي وعبدالله ثابت ومحمد مسير مباركي (وجهت الدعوة للشاعرين أحمد الملا وإبراهيم الحسين ولكنهما اعتذرا) والناقد محمد العباس. اليوم الثقافي استطلع آراء الشباب المشاركين حول الملتقى فاتفقوا جميعا على أن الملتقى كان ظاهرة إيجابية و"كان يبدو استثنائيا من حيث كونه الفرصة الأولى لشعراء الهامش لارتياد المنصة" كما يقول محمد العباس. فرصة للالتقاء ويشير علي الحازمي إلى الأهمية التي يشكلها الملتقى من حيث إتاحة الفرصة للالتقاء بعدد كبير من شعراء الوطن العربي إذ يرى في هذا الأمر حدثا ثقافيا مهما "من شأنه العمل على ردم كل المسافات القائمة بين أبناء الجيل الشعري الواحد" كما يقول. كما رأى محمد العباس في الملتقى "فرصة نادرة" للإصغاء "للشاعر خارج وداخل نصه". إشارات ثقافية أما عيد الخميسي فقد قرأ فيه "العديد من الإشارات والظواهر الثقافية والشعرية" ويعدد منها: انمحاء التمركز الثقافي والشعري المتوهم والذي كان سائدا في الذهنية الثقافية العربية . فالمركز في قرية كونية كالتي نعيشها لم يعد المكان بقدر ما هو الفعل. هناك تحولت صنعاء إلى مركز ثقافي. وقد تتصدر المشهد أية مدينة عربية أخرى تقدم فعلها الثقافي لا إرثها وسيرتها. غياب الخصوصيات الإقليمية والقطرية إلى حد كبير فالتجارب الشعرية التي قدمت كانت تنتظم في مشاريع شعرية لا يغلب عليها طابع المكان أو الهوية الضيقة أو حتى الانتماءات الثقافية. كان الشعر رحبا ويملك فسيفسائية إنسانية جديدة على الصعيد العربي. الكتابة الشعرية الجديدة كما هو معلوم وكما أكدته صنعاء ليست على درجة واحدة من الجدة أو النضج أو الطموح ولأن الأمر كذلك فإن النماذج الشعرية التي قدمت كانت تتراوح بين هذه المستويات- دون أن يعني ذلك حكما على قيمة أي تجربة. الملتقى كان كرنفالا شعريا .. احتفالا بالشعر وبالإنسان.. كانت روح اللقاء وحميميته أكثر اختبارا من طبيعة النصوص ومغامراتها الفنية. الحركة الشعرية الجديدة في اليمن باتت تعزز تواجدها و بقوة.. وهي حركة نشطة وتعمل على ذاتها بدأب كما أن لديها القدرة على التمدد والتفاعل مع حركة الشعر العربي بعامة.. ومع الكثافة الشعرية هناك فإنها تتحول يوما إثر آخر إلى بؤرة شعرية جاذبة وناشطة. التجاور هو الصيغة الأمثل-ربما- للفنون بعامة وللشعر خصوصا وما يحدث من إقصاءات واحتكارات شعرية هنا وهنا ليس ناتجا إلا عن عدم رؤية هذه المنطقة أو عدم الإيمان بها أصلا. حضور قصيدة النثر وقد أجمع المشاركون في الملتقى على الحضور الطاغي والكبير لقصيدة النثر في مجمل ما ألقي من نصوص. وحين سؤالهم عن مدى نجاح قصيدة النثر في تجسير الهوة بينها وبين المتلقي العادي رأى عيد الخميسي أن هذا السؤال "نتاج بيئة ثقافية لا تؤمن بالتجاور والتعدد" إذ أن الأمر كله يرتبط حسب رأيه "بالمناخ الثقافي الذي لا يؤلب وبالمنبر الرحب الذي لا يحتكر ويتسع للجميع". في حين ذهب علي الحازمي إلى أن "الحكم على قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة منبريا أمر في غاية الصعوبة في ظل وجود المتلقي العادي الذي لا يبذل جهدا مضاعفا للتماهي مع معطيات النص الحديث". عبدالله ثابت من جهته يرى "أن الإلقاء فن مستقل بذاته فمن يملكه يستطيع أن يحعل من قصيدة النثر أوركسترا عظيمة، ومن لا يملكه سيسقط من أعلى درجات النص الموسيقية". نجاحات لافتة أما محمد العباس فيقطع بأن (قصيدة النثر بالفعل كانت الأبرز وقد حققت نجاحات لافتة فقد تحطمت على المنبر أكذوبة التلقي الناقص أو المجزوء لقصيدة النثر "رغم استدراكه بأن" البعض كان يقدم قصيدة نثرية بمواصفات العمود الشعري، والبعض الآخر كان يعوض عوز نصوصه باختراق التابو لدرجة أن البعض كان منبريا وتوقيعيا أكثر من العموديين). غير أن هذا التلقي الإيجابي من قبل الجمهور ربما كان راجعا إلى "نوعية هذا الجمهور الذي طغى عليه ذلك العدد الكبير من الشعراء والنقاد والمثقفين" كما يقول علي الحازمي. هوة معرفية هذا الأمر الذي يؤكده عبدالله ثابت أيضا بقوله إن " ربع الجمهور على الأقل كان من المشتغلين بالهم الثقافي". وإن كان يرى أن "الهوة ليست هوة النص والتواصل معه من الجماهير فحسب" بل إنها "هوة معرفية أكثر فقصيدة النثر تتحرك من نواة ذهنية فلسفية أكثر مفارقة للذائقة العربية التي يلذ لها التراقص على الإيقاع". تعددية التجارب ولا يخفي محمد حبيبي اندهاشه في ظل حضور قصيدة النثر الطاغي من حيث الكم من "تعددية التجارب وتنوعها واستقلالية الأنساق والأصوات" وإن كان يرى أن "الحضور الأجمل كان لتلك التجاورية الحميمة للشعر بكافة أطيافه وتجلياته الشكلية ، من العمودي إلى التفعيلي ، وصولا إلى النثري". تقييم الأوراق أما فيما يرتبط بالأوراق والقراءات النقدية التي كانت مصاحبة للقراءات الشعرية فقد تباينت حولها الآراء ففي حين يرى عبدالله ثابت أن "الأوراق النقدية كانت في غالبها استعراضية وبعيدة كما النقاد في أغلبهم عن التجارب الشابة والجديدة" ولا يخفي استغرابه من جرأة هؤلاء النقاد " على تصنيف هذه المرحلة والحديث عنها وهم لا يعرفون أسماءنا ولم يطلعوا على هذه التجارب إلا من بعد أن وزعنا عليهم مطبوعاتنا" ويطالب في آخر الأمر هؤلاء النقاد بأن يقدموا " خبراتهم وأن يعدوا دراسات جديدة غير ما يجترونه من أسطوريات أدونيس والماغوط وغيرهم" ويضيف بقوله "نحن لنا كلمتنا ولدينا ما نقدمه ونقوله .. ليعتنوا بما ننتجه فقط". النقد القادم ويرى علي الحازمي أن "الحضور الذي سجله النقد في المهرجان يبدو مشجعا ومبهجا ويشي بقادم واعد يسهم وبقوة في تحريك وتعاطي المناخات الشعرية الجديدة" فالأسماء النقدية التي دعمت التجارب الشعرية الجديدة في الوطن العربي "هي نفسها كانت حاضرة هناك بأطروحاتها ودراساتها النقدية الأمر الذي يفصح عن وعي عميق من قبل تلك الأسماء لمهمة النقد كرافد مهم للتجربة الإبداعية". عيد الخميسي الذي لم يحضر إلا ندوة نقدية واحدة اكتفى بقوله إن غياب النقد لا يعنيه كثيرا. التنظيرات النقدية مواكبة وليس جاهزة من جهته يرى محمد حبيبي أن الأوراق النقدية المشاركة وفقت إلى حد كبير في التعاطي مع التجربة الشعرية الجديدة "ولا سيما النقاد المتجايلين طرحيا مع القصيدة الجديدة كالدكتور حاتم الصكر والناقد محمد العباس ، وكان مبعث التوفيق انطلاق القراءات من استنطاق التجارب والنصوص التي تراكم إهمالها، وأن القراءات لم تأت بحمولات تنظيرية ذات صبغة جاهزية فرضتها نظريات سابقة، بل إنها صبغت مفاهيمها من أطياف التجارب وأعطافها ، متباسطة في أطروحات عميقة في دلالاتها". الإصغاء والتجادل الناقد محمد العباس الذي قدم ورقة بعنوان ( اليومي والميتا لغوي بين أبناء وآباء القصيدة العربية) والتي حظيت باستقبال جيد يرى أن الأوراق النقدية المعدة سلفا "قد راقبت المنجز في صيرورته وتحولاته من زوايا مختلفة، فالدكتور حاتم الصكر قرأ جانبا من التجربة اليمنية ، والدكتور إبراهيم الجرادي اقترب من التجربة السورية ، ولا مست الدكتورة وجدان الصائغ جانبا من المقروئية أو الاستقبال وفق مقارنة بين الشكل الأرسطي للتلقي وما يقابله اليوم" أما ورقته هو فيقول العباس عنها "لقد حاولت التأسيس المعرفي أو تفكيك بعض المفاهيم المتعلقة بشكل التلقي". ويؤكد محمد العباس على أن الأوراق النقدية قد أسهمت فعلا في إضاءة التجربة الشعرية الجديدة على الرغم من محاولة بعضها ممارسة "بعض الوصاية الأبوية وتعقيم النص" ويرى أن ما أسهم في نجاح تلك الأوراق هو "حميمية اللقاء والتواصل الفردي والشعور العام بالحاجة إلى شيء من الإصغاء والتجادل الموجب لفهم ما يجري من تحولات إزاء مفهوم الشعر وعلاقة كل ذلك بالذائقة ومستوجبات العصر".