يرى تيري إيجلتون أن الحروب الثقافية ثلاثية الأطراف. الثقافة بوصفها كياسة، والثقافة بوصفها هوية، والثقافة بوصفها تجارة. أو بتعبير آخر يراه إيجلتون أكثر بلاغة هو: الرفعة وروح الجماعة والاقتصاد. والمقصود بالكياسة هنا الجانب الجمالي من الثقافة. وهو ما سأركز عليه في السطور التالية باعتباره العنصر الأكثر رسوخا وديمومة في التاريخ الإنساني، وباعتباره ترمومتر التحضر ومعيار التوازن بين المادي والروحي. فإذا كانت جعجعة أو طنطنة الهويات في جانبها السلبي وسعار البحث عن الأسواق وحمى الاستهلاك تمثل بعض دوافع الصدام بين الثقافات المختلفة فقد كانت الثقافة الجمالية، وما زالت، جسرا للتواصل والتقارب بين بني البشر. حيث يصبح الآخر وثقافته مزيجا يسكن الذات ويكملها، ويخفف من غلواء (الأنا الصغرى). قد تتحول الهوية إلى غطرسة واستعلاء لسان حالها يقول: "لنا الصدر دون العالمين أو القبر" أو يقول:"ونشرب إن وردنا الماء صفوا.. ويشرب غيرنا كدرا وطينا" وقد تكون التجارة دافعا إلى الهيمنة والاستغلال وسببا في إشعال نار الأزمات والحروب بالرغم من بعض الأدوار الإيجابية للنشاطات الاقتصادية والعسكرية التي ساهمت في نشر وتبادل الإبداعات الفنية والخبرات العلمية. أما الثقافة في جانبها الجمالي، أي الثقافة بوصفها "كياسة" أو فطنة فإنها لا تفرض وجودها بالقوة بل بالإقناع، لذلك فإنها تتسلل إلى الوجدان والذاكرة لتبقى. تأمل تلك الحدود السياسية التي رسمتها السيوف وحوافر الخيول، وستجد أنها قد تغيرت، أما حدود الأدب والفن وبقية فروع الثقافة الجمالية فقد بقيت إرثا إنسانيا مشتركا على مر العصور. ولم تكن تلك القيم الجمالية حكرا على شمال العالم أو جنوبه، كما لم تكن نتاج ثقافة أو هوية أو منطقة جغرافية واحدة. فقد تركت الآداب والفنون البابلية، على سبيل المثال، بصمات واضحة في آداب وفنون الشعوب الأخرى إما عن طريق التجارة أو الحروب. كذلك تغيرت الخريطة السياسية التي رسمها الإسكندر المقدوني في أفريقيا وآسيا ولم يبق منها سوى الآثار التي حملت اسمه. وتغيرت الحدود التي رسمها بطليموس الأول والثاني وبقيت مكتبة الإسكندرية مستودعا للفكر والفن والجمال. وتقلصت حدود الإمبراطورية الفارسية القديمة التي امتدت من شمال أفريقيا وجنوب شرقي أوروبا غربا إلى الهند شرقا، ومن خليج عمانجنوبا إلى جنوب تركستان وروسيا شمالا، وبقيت آثار الثقافة في جانبها الجمالي حاضرة في لغات وآداب وفنون الثقافات الأخرى التي كانت تحت السيطرة الفارسية. وفي الاجتياح المغولي لبلدان الخلافة الإسلامية أصبح الغازي نفسه، فيما بعد، هدفا لغزو ثقافة البلدان التي اجتاحها. وبكى أبو عبد الله الصغير وهو يغادر آخر معاقل الوجود العربي الإسلامي في أسبانيا، وبقيت آثار ذلك الوجود في الفكر والأدب والفن. وباختصار فإن الثقافة في جانبها الجمالي أكثر رسوخا وديمومة من بقية النشاطات الإنسانية الأخرى. تتعدد الهويات وتتباين المصالح الاقتصادية والأطماع المادية وتبقى تلك القيم المشتركة ميدانا للتفاعل النقي بين الثقافات المختلفة. لذلك فإنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، فصل الثقافة الأدبية والفنية (عناصر الشق الجمالي) عن القيم الرفيعة كالحب والحرية والعدالة والجمال، ومن ثم فإن الأدب والفن الذي يزيف الحقائق ويدافع عن قوى الشر والظلام ويصور القبح جمالا هو أدب أو فن لا يتحرك ضمن بعد أخلاقي، ولا يمكن أن يمت إلى الشق الجمالي من الأدب والفن حتى ولو امتلك الأدوات الأدبية والفنية للتعبير عن نفسه. كما أن الذين يحولون حوار الثقافات إلى صدام ومواجهة، ويشيدون حيطان القطيعة والعزلة بين بني البشر لا يمتون إلى تلك القيم الجمالية بصلة، سواء كانوا من الشرق أم من الغرب، وسواء كانت الوسيلة في التعبير عن أنفسهم القلم أم الخنجر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يعيق القيم الجمالية من التوسع والانتشار، أو ما الذي يحدّ من حركة التفاعل الإيجابي بين الثقافات المختلفة؟ يعزو السيد يسين في كتابه (حوار الحضارات) تلك الحال إلى ما يسمى ب (الانفصام الثقافي)، ويعني بذلك الفجوة المعرفية والفكرية بين النخبة المثقفة والجماهير في المجتمع الواحد. وكذلك الاختلافات العميقة في الحساسية الفنية والأذواق والاتجاهات الجمالية بين هاتين الشريحتين الاجتماعيتين، أو بين (الثقافة العالمة) ثقافة النخبة و(الثقافة الشعبية) ثقافة الجماهير. وهذه الأخيرة هي الثقافة السائدة والمسيطرة ولا يمكن التقليل من تأثيرها على مجريات الأمور لأن لها منابرها وقنواتها الثقافية والإعلامية، ولها القدرة على استنفار العواطف وتجييش المشاعر وإذكاء نعرات الهوية. أما العائق الآخر الذي يحد من حركة الجانب الجمالي فلا يلعب دوره في التقريب بين الثقافات المختلفة بسرعة وفعالية، فهو أن المساحة المتاحة له إعلاميا وتسويقيا أقل بكثير من المساحة المتاحة لعنصري المعادلة الثقافية الآخرين (الهوية والاقتصاد) اللذين يجدان جميع الأبواب مفتوحة للتسلل منها. فعلم الجمال، مثلا، لا يحتل المكانة التي تحتلها العلوم والتقنيات الأخرى، ولا المساحة التي تحتلها النشاطات التجارية المختلفة، مما يشكل فجوة بين المادي والروحي. إن موليير وجاك بريفير وبيكاسو، مثلا، لا يستطيعون، على المستوى الشعبي، منافسة كريستيان ديور وبيير كاردان وشانيل ورونالدو. بل إن الشق الجمالي يكاد يكون معزولا حتى في بيئته الأم نظرا للأمية الثقافية والتفاوت بين مستوى الإبداعات الفنية والأدبية ومستويات التلقي.