يأتي هذا المقال امتدادا لمقالات سابقة تناولت العناصر المشتركة في معادلة التعايش بين مختلف الثقافات حيث يشكل الإبداع الأدبي والفني أحد هذه العناصر التي تتلاشى عند تخومها ثنائية (نحن وهم)، وهي الرطانة السائدة هنا وهناك منذ اقدم العصور. واذا كان الابداع الفني والادبي خارقا للعادة فان تلك الرطانة لا تعدو كونها افرازا لزجا للعادة. العادة فريدة لا تعلل ولا تشرح. انها، كما يعبر احد الفلاسفة، التسوية التي يحققها الفرد مع محيطه بكل معاييره وقيمه التي لا تناقش. الناس، اذن، اسرى هذه العادة ومشتقاتها. وقلة اولئك الذي يخضعونها للنقد والتمحيص والمساءلة. وقلة هم الذين يتحررون من اسرها فيجتازون حدود الالوان والاعراق والخصوصيات الثقافية اجتياز الطائر او السحابة للفضاء، او اجتياز النهر للحدود الجغرافية والاثنية وليس في ذاكرته الا العطاء دون تمييز او استثناء. لكن ثنائية (نحن وهم) لا تخفف من سطوتها بلاغة الخطب ولا قوة التنظير، او المنتديات والمؤتمرات وما تتمخض عنه من توصيات سرعان ما تلتحف الاضابير وتفترش الرفوف، فهذه الرطانة متأصلة في بنية النظام التربوي والاجتماعي الشفوي منه والمكتوب، وترافق المرء كظله منذ مرحلة التلقين الاولى، لذلك قد يكون الابداع الفني والادبي اقدر من كل تلك المبادرات والاجتهادات على تذويب المسافات والتقريب بين مختلف الثقافات، اذا ما اتيحت لذلك الابداع القنوات اللازمة للانتشار والوصول الى الآخر. اما ما يرسخ هذا الاعتقاد، فهو ان الابداع الفني بمختلف فروعه ونشاطاته لا يطرح اجابات مباشرة، ولا يميل الى لغة التلقين، بل يطرح اسئلة، ويفتح نوافذ مغلقة كي يتسلل منها الضوء والهواء. اسئلة تحض على التأمل والاستنتاج، فالناس غالبا ما تضيق صدرا بالاجابات والمسلمات الجاهزة، لان لكل منهم اجاباته الجاهزة التي رسخت في الذاكرة منذ نعومة الاظافر وبراءة الذاكرة. ومع ان الابداع الفني والادبي ليس حياديا، وان وراء كل عمل ابداعي رسالة جمالية او اخلاقية او فكرية الا انه لا يفرض رسالته فرضا، ولا يبلغها بشكل مباشر. الابداع الفني يميل الى التلميح لا التصريح، فيطرح الفكرة وضدها، والموقف ونقيضه، ويترك للمتلقى حرية المقارنة والاستنتاج والاختيار. ولذلك فان المسافات او الحدود الفاصلة بين ما يسمى بالشمال والجنوب تضيق على المستوى الابداعي، ولا فرق بين شمال الابداع او جنوبه، ان بؤرة الاهتمام، هنا وهناك، هي البحث عن القيمة الجمالية والفكرية والاخلاقية ايا كانت المرجعية او المنبع او التربة الثقافية. وعادة ما تكون مثل هذه العلاقات متكافئة ومكملة لبعضها، ولا وجود فيها للغطرسة والاحتواء او الهيمنة والاضطهاد. فكل البشر شركاء في العملية الابداعية، وفي هذه السمفونية الساحرة من الأخذ والعطاء قد يتفوق هذ الشريك في جانب، ويبرز ذاك في الجانب نفسه او في جانب آخر، كل يضيف لبنة الى البناء الحضاري حسب قدراته الابداعية وطاقاته الخيالية. ولذلك فان المبدعين هنا وهناك اكثر الناس احتفاء بذوبان الفوارق، وتلاشي المسافات بين بني البشر، واكثرهم تطلعا الى ترتيب بيت بشري واحد يسوده التناغم والتقارب، وانجاز مشروع انساني مشترك. كما يمتلكون رؤية صافية شفافة تدفعهم الى احتضان العالم واستيعاب تنوعه، واستنطاق ثقافاته المختلفة، ومرونة تساعدهم على الدخول الى عوالم اخرى خارج الزمان والمكان بحثا عن المعنى. وهم فوق هذا اكثر قدرة على الاصغاء للصوت الآخر، والاصغاء شرط لازم لاي حوار عالمي خلاق، ومحاولة جادة للفهم. ان هذا الموقف لا يتعارض بأي حال من الاحوال مع الخصوصية الثقافية باعتبارها اضافة الى الثقافة الانسانية، وعنصرا من عناصر التنوع الثقافي، وهو تنوع موجود حتى ضمن الثقافة الواحدة ، وان جمعها قاسم مشترك واحد. المحافظة على الخصوصية والحال هذه لا تؤدي بأهلها الى الانكفاء على الذات، والعيش في جزر معزولة، ورفض التماس مع الآخر، او التصادم معه كما هو شأن بعض المنافحين عن تلك الخصوصية لاسباب او دوافع غير بريئة. وفي الماضي، كما في الحاضر امثلة حية على هذا التكامل الثقافي، فقد كان الشرق دائما يشكل عالما من الاحلام وغابة للأساطير وموطنا للحكمة والفن والجمال والحضارات العريقة، وقد تركت الاعمال الابداعية الشرقية بصمات واضحة في الآداب الغربية، كما تأثرت النخب هناك فكريا وفنيا بمعطيات الحضارات الشرقية القديمة (الافريقية والصينية واليابانية). وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كان لعوالم الف ليلة وليلة تأثير بارز على اعمال الروائيين والشعراء والفنانين الغربيين منذ بداية القرن السابع عشر، حيث بلغ هذا التأثير ذروته في القرن التاسع عشر وامتد الى بداية القرن العشرين. وقد افرد جارودي في كتابه (حوار الحضارات) فصلا شيقا تحت عنوان: "الابعاد المطلوبة مجددا" استعرض فيه صورا من صور الاخصاب المتبادل بين الثقافتين الشرقية والغربية على كافة المستويات الادبية والفنية والفلسفية. اما على المستوى العربي الاسلامي فقد نشطت حركة النقل والترجمة في عملية انفتاح على الثقافات الاخرى منذ العصر الاموي، وبلغ هذا التماس الثقافي مع الآخر ذروته في عصر الخليفة العباسي المأمون. وكانت حصيلة هذا التماس الثقافي التعرف على فلسفة اليونان وآداب الفرس وعلوم وحكمة الهند. بل ان المجتمع العباسي نفسه كان عبارة عن (بيتزا اثنية) وكانت البنية الاجتماعية تتكون من حشد من الثقافات والاعراق والاصول والديانات المختلفة، حيث شكلت تلك التوليفة الثقافية العصر الزاهي لذلك الكيان الكبير، ولم تكن حركة التثاقف والاخذ والعطاء المعرفي تلك تتباطأ او تتوقف تماما الا اذا اصطدمت بصخرة الايديولوجيا او الطنطنة العرقية. ان الانسان يتطور ماديا بسرعة تفوق تطوره الفكري والثقافي، وقد بنى عالما يكاد يكون متجانسا تقنيا، فهل يحقق ولو جزءا يسيرا من التجانس يخدم التعايش والحوار الخلاق؟ ربما.. وللحديث في هذا الموضوع صلة.