حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. نهج الثعالبي يبدو كتاب "التوفيق للتلفيق" غريبا في عنوانه وفريدا في أسلوب تصنيفه ومعناه هو الجمع بين الأشياء المتجانسة والتوفيق بين شيئين يمكن الجمع بينهما بوصف أو لمح شبه أو تفريغ كلام، والتلفيق يعني نحو هذا المعني، ومؤلفه أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري (350 - 429) أجمع من ترجم له - وهم خلق كثير من علماء السلف - على أنه كان فريد عصره في الأدب نظما ونثرا، وحسبنا أنه كان قبلة أنظار المؤلفين بعده، فاحتذى حذوه وسار على نهجه جماعة، في شرق العالم الإسلامي وغربه، كالباخرزي في دمية القصر وابن بسام في الذخيرة، والشهاب الخفاجي ومحمد الأمين المحبي في كتب عديدة، ومن مؤلفاته المشهورة "يتيمة الدهر في محسن أهل العصر"، وخاص الخاص، والكناية والتعريض، والتميل والمحاضرة وتحفة الوزراء، وثمار القلوب، وفقه اللغة وسر العربية ولطائف المعارف ونثر النظم وغيرها كثير. وكتاب التوفيق للتلفيق الذي حققه إبراهيم صالح، ألفه الثعالبي للشيخ السيد مسافر بن الحسن، وجعله فيما علق بحفظه "من أجناس حر الكلام وبديع سحر البيان في التلفيق بين الشيء وجنسه، والجمع بين الشيء وشكله، نظما ونثرا، وجدا وهزلا"، وجعله في ثلاثين بابا منها أبواب في التلفيق بين أوصاف خصائص الأشياء ورد بعضها في التشبيهات إلى بعض، وفي التلفيق بين السحاب والبرق والرعد والمطر، وفي التلفيق بين الطيور والاستعارات فيها، وبين أحوال النساء في التزويج والولادة والمولود، وفي التلفيق بين ذكر البلاد وخصائص وغير ذلك. مما ذكره الثعالبي 1 قيل للحسن البصري: إن فلانا يعيب الفالوذج، فقال: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم. 2 حكى الجاحظ عن الحارثي أنه كان يقول: الوحدة خير من جليس السوء، وجليس السوء خير من أكيل السوء، وكل أكيل جليس، وليس كل جليس أكيلا، فإن كان لا بد من المؤاكلة فمع من لا يستأثر بالمخ، ولا ينتهز بيض البقيلة، ولا يلتهم كبد الدجاجة، ولا يبادر إلى دماغ السلافة ولا يختطف كلية الجدي ولا ينتزع خاصرة الجمل، ولا يزدرد قانصة الكركي، ولا يعرض لعيون الرؤوس ولا يستولي على صدور الدجاج، ولا يسابق إلى استعاط الفراخ. 3 قال الجاحظ: لما هجا شعراء المشركين النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: اهجهم، فإن روح القدس معك، وآت أبابكر يعلمك مساوئ القوم، ووالله إن هجاءك أنكأ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، فأخرج حسان لسانه وضرب به طرف أنفه وقال: والله ما يسرني به من مقول في معد، فوالله إني لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه، قال الجاحظ: فلا ينبغي أن يكون حسان قال إلا حقا، وكيف يقول باطلا والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره، وجبريل يسدده، وأبوبكر يعلمه والله يوفقه. 4 كان أبوبكر الخوارزمي يقول: من روى حوليات زهير واعتذارات النابغة، ونقائص جرير والفرزدق، وهاشميات الكميت وخمريات أبي نواس ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري وأهاجي ابن الرومي وروضيات الصنوبري وتشبيهات ابن المعتز، وكشاجم وظرف السري، وقلائد المتنبي وروميات أبي فراس ولم يتخرج في الشعر فلا أشب الله قرنه. 5 وصف أبو بكر بن مكرم رجلا شريف الأصل وضيع النفس، ولفق بين المحاسن والمساوئ فقال: هو من الطاووس رجله، ومن الورد شوكه، ومن الماء زبده، ومن اللجين خبثه، ومن النار دخانها، ومن الخمر خمارها، ومن الدار كنيفها. 6 ذكر بعضهم رجلا يتيه بفضائله ومحاسنه فقال لو جمع جود حاتم وبلاغة سبحان وحكم لقمان ووفاء السموأل ونفس عصام وعدل العمرين وفضائل علي وشرف الحسن والحسين لما زاد. 7 ومن غرر أبي تمام في التلفيق بين ذكر البلاء وخصائصها قوله: بالشام داري، وبغداد الهوى وأنا بالرقتين وبالفسطاط إخواني وما أظن النوى ترضى بما صنعت حتى تجاوزني أقصى خراسان