"تصبح الكتابة لمن لم يعد له وطن مكانا للعيش".. هذا ما كان يقوله ثيودور أدورنو الذي يعده سعيد الضمير الفكري المهيمن لمنتصف القرن العشرين، وقد أمضى سنوات في أميركا وسمته بعلامات المنفى إلى الأبد. الناقد والباحث في التاريخ الثقافي حسين بافقيه استثمر جوهر تمثيل أدورنو للمثقف ك"منفي دائم"، يتفادى مجابهة القديم والجديد كليهما ببراعة متكافئة، وهو يقدم المفكر والكاتب السعودي الراحل عبد الله عبد الجبار "1919 -2011" الذي تعده الدراسات التاريخية أول ناقد سعودي اعتمد المنهجية في كتاباته، بالإشارة إلى كتابه / المرجع "التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية"، و"قصة الأدب في الحجاز"، وأنهى أخيرا كتابه الذي ظل يشتغل عليه على مدى سنوات عن عبد الجبار، وأختار "العيش في الكتابة" عنوانا له، وصدر في بيروت عن دار المؤلف. خاطب بافقيه عبد الجبار في غلاف الكتاب الآخر قائلا: "لقد جعلت أيها الشيخ الجيل الحياة شاقة علي، ولقد كلفت من عرقك معرفتي بك، من أمر شططا، وكنت المثل الأعلى إباء وشموخا وأنفة ومروءة، فما كنت أيها الأستاذ الجيل غادرا، ولم تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعجب لك كيف احتملت طول الطريق، وبعد المسافة، نقيا، حين ردع في الوحل الطغام ، وشامخا، حين رتع اسمك الصغار، وكنت في كل أطوار حياتك ذا مروءة، وما تنكبت عن طريقها، وما لنت، وما خرت، وما خنت". وبعد أن قضى بافقيه مسافة زمنية وهو ينقب في تراث الراحل عبد الجبار الذي شغل مهام مدير البعثات السعودية التعليمية بمصر آنذاك، وصدرت أعماله الكاملة في أكثر من عشر مجلدات قبل 3 سنوات، قال ل"الوطن": هو كتاب أودعته صوب عقلي وثمرة اجتهادي، وأنفقت في صوغه وتأليفه أجمل سنوات العمر، وكان رجائي أن أتعلم وأفهم، وأن أجلو شيئا من حياة عبد الله عبد الجبار ونقده، ما وسعني الحول والجهد. ويوضح بافقيه أسباب اختياره هذا العنوان المستوحى من مقولة أدرنو: اخترت "العيش" في الكتابة عنوانا قاصدا به بعض ما عناه أدورنو، حين جعل الكتابة وطنا يعيش في الغريب والمنفى، ولقد عاش عبد الجبار زهرة العمر نائيا عن وطنه، فعاش في الكتابة واتخذها وطنا. ويضيف بافقيه ذاكرا أن الكتاب "أظهر خلة في نقد عبد الجبار أنه ذو نزعة إنسانية مثالية، وغلب إيمانه بالإنسانية على أن يقيد الأدب بقيود تحدرت عليه من فلسفة سياسية أو فكرية ما. ولا مراء في أن عبد الجبار يستهويه من الأدب ما جنح به منشئه إلى قضايا مجتمعه، وهو يريد أن يكون الأديب ملتزما وأن يكون متصلا ببيئته ومجتمعه، ومرد ذلك عنده أن ينبع اتزان الأديب من نفسه ومن ضميره. وموقفه من الشعر واضح لا غموض فيه، أن عليه أن يكون ملتزما، وأن صدوره عن الخيال والعاطفة لا يحول بينه وبين أن يكون شعرا هادفا. في إهداء الكتاب كتب بافقيه "إلى الصديقين العزيزين المستشار محمد سعيد طيب والأستاذ محمد حسن حافظ لولا تشجيعكما ما أنجزت هذا الكتاب فلعلي حققت بعض ما ترجوانه". ويسعى بافقيه من خلال الكتاب إلى إضاءة الموقف من اتجاه عبد الجبار ورؤيته للكتابة والفن والحياة، محاولا حسم جدل كان قد أثير في سنوات عبد الجبار الأخيرة، وكان بافقيه أحد أطرافه. ويتساءل بافقيه محيلا إلى الحقبة الزمنية التي عاشها عبد الجبار خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في مصر، وأبان شغله منصب الأمين العام لرابطة الأدب الحديث: أين يجد عبد الجبار نفسه، وقد نهبت الأفكار السياسية والاجتماعية الحياة الثقافية في مصر؟ أي رأي اعتقد، وأي نحلة انتحل؟ وإلى أي فريق مال؟ وهل كان متروكا لأديب أو مثقف أن يسلك طريقه بعيدا من دعاوى السياسة ومضطرب الأفكار؟ متوقفا عند اتجاهاته الأدبية موضحا: ليس بمقدور الأديب أو الناقد، ولو أراد أحدهما أو كلاهما، إلا أن يخوض في أحد اتجاهين أدبيين: أحدهما يلح على حرية الأديب وصدوره في أدبه عن ذات نفسه وما يمليه عليه ضميره؛ والآخر على أن الأديب إنما يريد بأدبه أن يكون صوتا للجماهير، ويغدو أداة من أدوات التثقيف السياسي. مال عبد الجبار إلى التوسط بين هذين المذهبين. كان أدنى إلى تصور طه حسين للأدب "الجميل"، ذلك الذي يصدر فيه صاحبه عن ذات نفسه وما يدعو إليه ضميره الحر، ولكنه وقف عند هذه الحدود، ورجا من وراء ذلك أن يكون الأدب أداة من "أدوات المعركة"، وأن يصيخ إلى وقع الجماهير وهتافاتهم، حمله على ذلك اصطفاؤه منهجا وسطا، فيه أثر من تعبيرية الرومنطيقيين، وفيه مسحة من الواقعيين. وحول اللغط الذي كانت قد أثارته بعض الكتابات إبان عزلة عبد الجبار الاختيارية في منزله وانصرافه عن الناس، حول ما إذا كان ميالا للشيوعية، ذكر بافقيه: "إذا رمنا البحث في كتب عبد الجبار، وغالبها نتاج ذلك العهد، فلن نجد لأفكار اليسار، ولا لمنتحلي الشيوعية أثرا بينا، وأكبر الظن أن عبد الجبار اجتوى أفكارهم، وأعرض عنها، وكان أديبا وناقدا "إنسانيا"، على نحو ما كان عليه محمد مندور، ومصطفى عبد اللطيف السحرتي، ولويس عوض، وعبد القادر القط، وأنور المعداوي من النقاد الواقعيين، ولن يعييك البحث ولا التأمل في أن تهتدي إلى أصول "تعبيرية" فيما يكتبه أولئك النقاد، ولن تجوز القصد إذا عددت عبد الجبار ناقدا "واقعيا"، ولكن على نحو ما، سنزيده بيانا بعد حين ليس ببعيد. ويشتمل الكتاب مقسما على 16 فصلا "موجز حياة 1- عصر يتغير، هتاف الشعب، رأسمال ثقافي، جذوة التحديث. 2- المهمه المعلوم، هبة النفط، حرب الأفكار، زمن الجماهير.3- طفل من شعب علي، سنوات النشأة، موسم الأحزان، ألا حبذا صحبة المكتب!، في المدرسة الفخرية، في مدرسة الفلاح، موعد مع الثقافة. 4- في دار العلوم، طالب بعثة، بسم الله مجراها ومرساها، الحلمية الجديدة، أساتذة وطلاب، وجهة مصر. 5- معلم في جبل هندي، في المعهدين، مرب وكاتب، معلم وكفى، ندوة المسامرات الأدبية، كاتب إصلاحي، تعليم الفتيات.6- التحليل النفسي للأدب، الأديب الناقد، علم نفس الأدب، مركب النقص، جبرية..!. 7- مصر.. الدار والقرار، مدير البعثات السعودية مصر.. خبز وعدالة وثورة، جيل نقدي جديد. 8- إما الأدب.. وإما الحياة، صيحة طه حسين، الواقعية، واقعيات، ليس بالواقعية وحدها يحيا الأدب" إضافة إلى فصول أخرى.