ودع الوسط الأدبي يوم الجمعة الأديب والناقد والعلم الكبير الأستاذ عبد الله عبد الجبار الذي رحل بعد أن قدما نتاجا نقديا ثريا . رحمه الله رحمة واسعة . يعد الأستاذ عبد الجبار من الذروات العلمية الشامخة والرموز الفكرية الشاخصة لا على المستوى المحلي وإنما على المستوى العربي . عالم نذر نفسه لتعفية الظلام المطبق على أفهام الناس. وإن من يقرأ كتبه يدرك غزارة علمه ووعيه بالأدب وفنونه ومتابعته للتحولات التي تعرض لها الأدب العربي. انتقل الأستاذ عبد الجبار إلى مصر وأقام فيها مدة طويلة . وكانت هذه الإقامة فرصة له كي يطلع على التحولات النقدية التي شهدتها البلاد العربية عموما ومصر على وجه الخصوص. فالنقاد المصريون الذين ذهبوا يتعلمون في أوروبا من أمثال طه حسين و أحمد ضيف وزكي مبارك وغيرهم عادوا وهم مشبعون بروح المنهجية التي تعلموها من كبار النقاد الفرنسيين مثل جوستاف لانسون وغيره ممكن كانوا يتحمسون للمنهج التاريخي في النصف الأول من القرن العشرين. وأحدثت عودتهم حراكا نقديا أثرى الساحة الأدبية. كتب الأستاذ عبد الله عبد الجبار عن الغزو الفكري وعن التيارات الأدبية المعاصرة . وعن قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي . وأريد أن أتوقف عند الكتاب الأخير لأنه يكشف عن طبيعة الدراسة النقدية عند الأستاذ عبد الجبار. وان الأستاذ عبد الله عبد الجبار يبحث في بداية النصف الثاني من القرن العشرين عن منهج علمي يتيح له أن يدرس التراث العربي وفق أصول منطقية للوصول إلى نتائج علمية ذات قيمة، إذ (لا بد من كتابة التأريخ العربي من جديد على منهج علمي صحيح وأساس سليم بحيث يكون تأريخ الشعب في حركاته وانتفاضاته منذ أقدم العصور حتى الآن في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية عاكسا لشخصيتها وحضارتها . وعملية الكتابة بالنسبة للأستاذ عبد الجبار إثبات لهذا التأريخ بكل أبعاده الثقافية والسياسية والأدبية. وهذا الإثبات يؤكد هوية الأمة، ويحميها من الذوبان في الثقافات الأخرى، لذلك فإن الإثبات لا يتم إلا بالنفي (نفي العناصر الدخيلة على كيانه، أي التأريخ، وإبراز قوته وخصائصه وأصالته والعوامل الحقيقية التي أثرت في مجرى حياته، وجعلته في الظروف الحالكة كثيراً ما ينسى الخلافات ويلتحم التحاماً ضد الغزو الأجنبي أياً كانت صوره وأشكاله. إن الأستاذ عبد الجبار يؤكد على أهمية الجمع بين إثبات المعطى الحضاري، أي كتابته وفوق أصول منهجية، وبين نفي الدخيل الذي لا يمثل أصالة الأمة. إن ذلك يؤدي إلى تعميق الإحساس بالوحدة العضوية الحية بين الزمان والمكان في الضمير الجمعي للأمة العربية. وقد وجد الأستاذ عبد الله عبد الجبار ضالته في المنهج التاريخي، فهو كفيل بربط الأمة بتراثها وتوثيق صلتها بماضيها، فألف بالاشتراك مع الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي كتاب قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي. واللافت للنظر أن المؤلفين عدلا عن كلمة تاريخ التي كانت دارجة في ذلك الوقت عند من يسعى لدراسة التراث الأدبي على ضوء المنهج التاريخي، واستخدما كلمة قصة، وذلك لأنه يريد أن يتحدث عن الأدب من خلال انتظامه في نسيج الحدث الاجتماعي الذي يتحرك وفق إطاري الزمان والمكان. وهذا الكتاب يمثل جهد الأستاذ عبد الله عبد الجبار العلمي في شبابه. ورغم أن الكتاب يحمل اسم مؤلفين، إلا أن المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب هو الأستاذ عبد الله الجبار. ومن حسن حظنا أن المقدمة حددت جهد كل مؤلف. وإذا تأملنا هذا التحديد ألفينا أن صفوة الكتاب من نتاج جهد الأستاذ عبد الله عبد الجبار العلمي، وقد ذكرت المقدمة أن هذا الكتاب ثمرة تعاون وثيق صادق، لكنه في الحقيقة عصارة جهد الأستاذ عبد الجبار. وإذا كان تاريخ الأدب جزءا من تأريخ الحضارة كما يرى لانسون ، فإن عبد الله عبد الجبار ينطلق من هذا المنطلق الذي يؤكد على أهمية الأدب بوصفه السجل الحضاري الذي يدون مآثر العرب الحضارية . فالشعر العربي في بعض صوره – فضلا عن بلاغته وروعته ، غني بالمضامين الحية ، وبالروح الإيجابية ، والثورة على الخرافات والأوهام والأوضاع الفاسدة ، والقيم الموروثة البالية. الغزو الفكري وهو إلى جانب ذلك سجل دقيق يصور بيئتهم القلقة المضطربة ، وحاك أمين يحكي لنا عن مذاهبهم في الحياة ، وأساليبهم في العيش ، وطرائقهم في التفكير والتعبير. والذي يقرأ كتاب قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي يلحظ هذا الاهتمام الكبير بالبيئة المكانية. فالحجاز بحسب تعبيره كان البوتقة التي انصهرت فيها الخصائص الأساسية للأمة العربية ،وتخلصت فيها من الشوائب و المثالب، حتى غدا جوهرها صافيا نقيا .. انصهرت في الحجاز العقائد و اللهجات و التقاليد و العنعنات ، والسجايا و الأخلاق ، فصفاها من أوشابها وأدرانها ، حتى برزت تلك العناصر الفعالة التي استندت إليها القومية العربية الإسلامية في نشوئها وتكوينها ومراحل تطورها.. إن كتاب قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي محاولة لدراسة الأدب العربي على ضوء الجنس أو العنصر البشري و البنية والعصر. وبهذه العناصر الثلاثة حاول أن يفسر اختلاف الأدب العربي في الحجاز عن الأدب العربي في أماكن أخرى ( إن خصائص الأدب في بيئة نجد لا يمكن أن تكون هي نفس خصائصه في الحجاز، و الشاعر الجاهلي الذي قضى حياته في ربى نجد لا يصح أن تكون حياته مطابقة تمام المطابقة لشاعر جاهلي عاش في الطائف أو مكة أو المدينة إن عبد الله عبد الجبار في تعليله لاختلاف الأدب باختلاف البيئة لا بد أن يكون قد اطلع على نظرية هيبوليت تين والعوامل التي حددها بوصفها المؤثرة في التطور الأدبي. رحم الله الأستاذ عبد الله عبد الجبار كان ناقدا حصيفا وباحثا متعمقا وصاحب رؤية نقدية متميزة.