يبدو أن بلوى سوء الظن والرؤية السوداوية في كل مناحي الحياة قد تجاوزت حدودها، وأصبحت لوثة عقلية عند البعض. لقد أضحى التحريم "شهوة" تضاف إلى قائمة الشهوات كشهوة الطعام والكلام والمنام وغيرها. قد يخرج متفيقه ويقول وأنتم أيضاً تتحدثون عن شهوة التحليل وتناسى أن الأصل في الأشياء الإباحة من لدن الكريم الوهاب. مؤخراً، استنتج أحدهم بالاستقراء وغرد للناس بأنه "لا يجوز متابعة كأس العالم لأنهم نصارى كذبوا وافتروا على الله". والمؤسف أن هذا الداعية أكاديمي ويحمل شهادة عليا. إنها فقط لغة الممانعة والرفض لكل شيء قديما أو حديثا. تصدر هذه الدعاوى من أعداء الحياة وقتلة الفرح والسرور. اعلموا أن العصر اختلف وسيُخلّفكم وراءه. اعلموا أن الناس وعت، وأُشربت الوعي من مصادر شتى حين انتهى زمن المصدر الواحد الأوحد. الناس أضحت تمج الخزعبلات ولا تقبل بالسهولة كل ما تقولون كما عهدتموهم. اعلموا أن الحياة ماضية، وستجعلكم فعلا ماضيا مبنيا على السكون والجمود والتخلف. في المجتمع علماء وطلاب علم معتدلون يُظهرون الأحكام المعتدلة بالرأي المقارن بعد أن كان يتوجس الخيفة من يخالف الرأي المهيمن. لقد ولى وتولّى عصر الرأي الواحد المجمع عليه الذي لا خلاف فيه "قولاً واحداً، "على وجه قطعي الثبوت والدلالة" "لا مساغ للاجتهاد فيه" وكل ما قيل في مصطلح أصول الفقه. انقضى زمن إخفاء الخلافات الشرعية في المسألة الواحدة خوفاً على عوام الناس ودهمائهم. حلت "فتح الذرائع" محل قاعدة "سد الذرائع"، تلك العبارة التي كانت "عبادة" سدت الآفاق أمام حياتنا التنموية والثقافية والاجتماعية. حرّمت ما أحل الله وبدلت زينة الله التي أخرج لعباده. أضحت المعلومة متوفرة، وبضغطة زر واحد تدلف لعشرات الأقوال في المسألة في مظان أمهات الكتب الإلكترونية وليست مظان متون الكتب الصفراء العتيقة وحواشيها المحشوة بالكراهية لكل من يدب على وجه الدنيا، كما زعموا مما تبرأ له الشريعة النقية الصافية. ومع توفر المعلومة توفرت الجرأة - الغائبة - لطرح المعلومة. فأصبحنا نرى في المسألة قولين وثلاثة وأربعة أقوال. فمن كان يجرؤ أن يقول هناك قولان في الحجاب، وقولان في الغناء، وقول آخر في استحباب صلاة الجماعة وليس الوجوب. وغيرها من المسائل الخلافية العظمى التي كان يتم التعتيم الفقهي عليها إما تشدداً أو خوفاً من التشنيع. "المسألة خلافية" لم نكن نسمعها إلا في رفع السبابة وأحكام الحيض وتحية المسجد ونحوها من المسائل الصغرى جدا لخوف العالم والشيخ من سوط التيار الإيديولوجي والاجتماعي. أين آيات الوعيد فيمن كتم العلم؟.