أن تبوح هو أن ترفع غطاء الكتمان؛ أن يظهر إلى العلن شيءٌ شخصيّ ربما يكون سرّا.. ربما يكون وضعاً أو حالة أو أمراً أخذَ منكَ الجسدَ والأنفاس حتى توشك على الغرق؛ فتحتدم طَرقاتُ التوتّر وتضيقُ السُّبُل على يدٍ تبحثُ عمّا تتشبّث به فيهديها طوقَ العبور. البوحُ هو هذا الطوق نتعلّقه لأننا لا نريدُ النجاة بقدر أن نعرف ونتعرّف على ألمنا ومعاناتنا، ويتعرّف آخرون على درسٍ في الحياة مكتوبٍ بالدمع وبخبرة الألم، حيث التجربة الشخصية معراجٌ يبدأ في الداخل ويتطوّر في المحيط الاجتماعي ويبلغ جمرةَ نضجه حين ينسابُ على الورق. الكاتبة هناء حجازي تسردُ بوحَها في "مختلف.. طفل الأسبرجر: مختلف، لكن ليس أقل" (جداول للنشر والتوزيع والترجمة، بيروت 2012) وتتحوّط منذ الإهداء عن "جرح" الكتاب لأي قارئ وصلتْهُ شظايا الكلمات لأنها بقلبِ الأم كتبتْ وبحديدةِ الألم التي كوتْها في التعامل مع مشكلة طفلها "يوسف" دوّنتْ عذابَها في التشخيص والحصول على مقعد دراسي في مكانٍ يستوعب طالب الأسبرجر ويتفهّم خصائصه ويقدّم له الدعم الذي يستحقّه دون نظرة الشفقة التي تتدبّر اختلاف حالة يوسف، ومن هم على شاكلته، على أنها مرتبةٍ أدنى وغير سويّة. الكتابُ كتلةٌ مائجة هادرة من الانفعالات، لم أستطع أن أتصوّر هناء في عذابها وألمها وحيرتها إزاء يوسف إلا وأقرنها في الذاكرة بقصة السيدة هاجر وطفلها إسماعيل متروكيْن بلا زاد ولا ماء وهي تنهب الجهات بين الصفا والمروة تتلمّسُ ما يكفكف جوع صغيرها وظمأه. بين صفا الصفحة الأولى ومروة الصفحة الأخيرة تركض هناء حجازي بفؤادها وكأنها تضرب في صحراء العبث، وما حصل معها من أكثر فصول الألم والغرابة في مجتمعنا، تدافع عن طفلها.. وتدفع عنه شبح المجتمع وشبح المستقبل؛ النظرة الظالمة والحصة الخائنة من الحياة. "مختلف" يمسّ الشغاف (حالة يوسف التي أحب، نعم، لقد اكتشفتُ سريعا أنني أحب حالة ولدي، وكثيرا ما أعترف لنفسي أنني ربما لم أكن سأحبّه كل هذا الحب لو أنه كان بشخصية مختلفة عن هذه ص 104) ويعلن التقبل غير المشروط لفلذاتنا دون عقدَتَيْ الكمال أو النقص، وفي الوقت نفسه صرخة احتجاج في وجه تسيير مؤسساتنا التعليمية؛ إداريا وتربويا. ولأجل هذه الصرخة ومداها الطويل المعجون بالألم، شاءت الكاتبة ربما، أن يأتي الكتاب في جملة واحدة لا يعترضها تقسيم إلى فصول أو أبواب أو حتّى عناوين. جملة واحدة تضرب وتقول: مختلف، لكن ليس أقل. عبدالله السفر* * كاتب سعودي