لم تعد المخاطرة بالحياة تعني شيئا للمتسللين النازحين من دول مجاورة، بحثا عن المال داخل المملكة من خلال امتهان التسول أمام المساجد وعند إشارات المرور وبجوار المستشفيات وداخل الأسواق وحولها. وتتجسد هذه الحقيقة في إحصائية أمنية تشير إلى ضبط أكثر من 107 آلاف مجهول ومتسول خلال سبعة أشهر فقط من محرم إلى رجب 1433. ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، تتحول أودية جازان وقراها الحدودية إلى صالات قدوم مفتوحة، حيث يتزايد عبور المتسللين بأعداد كبيرة أشبه ما تكون بالهجرات الجماعية من أجل احتراف التسول داخل المملكة. "الوطن" تتبعت مناطق عبور المتسللين وخط سيرهم، ورصدت كثيرا منهم أثناء عبورهم الحدود. واتضح أن التسلل كان للجنسيات الأفريقية واليمنية، ووجدنا أن التسلل تم في شكل جماعات، كان أغلبها في الأيام التي سبقت حلول شهر رمضان. وبعد أيام من الرصد، ظهر فارق مثير تمثل في تحول عمليات التسلل من الحدود السهلية إلى الجبلية بشكل ملحوظ، نظرا لاكتمال السياج الأمني على طول الحدود عدا مواقع في القطاع الجبلي لجازان، وهو ما أكده ل"الوطن" مسؤول بحرس الحدود بجازان. مع المتسللين أن نكون بينهم فكرة ترددنا في تنفيذها لاكتشاف عوالم المتسللين عن كثب، وانتهى القرار بخوض مغامرة تختلف درجة خطورتها بالنظر إلى جنسية المتسلل ومدى تمكننا من معرفة ردة فعله لحظة مشاهدته لنا، لننجح في إحدى المحاولات في الاقتراب من متسللين فرّ بعضهم لحظة سيرنا باتجاههم عدا كبار السن. المتسللون كانوا من الجنسية اليمنية، وما هي إلا دقائق حتى عاد الفارون منّا بعد أن طمأنهم آباؤهم بأننا لسنا من أفراد الجوازات. وبسؤالهم عن سبب تسللهم، أجابوا بأن "لقمة العيش" هي الدافع لعبور وقطع تلك المسافات الطويلة والمسالك الوعرة مشيا على الأقدام. وبلغة أكثر صراحة قلنا لهم: لكن بعضا يتسلل لتهريب الأسلحة والمخدرات.. فقالوا بتلقائية "أصابع اليد ما هي سوا". وفجأة، أنزل أحدهم كيسا يحمله خلف ظهره ونادانا بلهجته الدارجة، وقد بدا متوترا وغير مرتاح لوجودنا "ياخي لا تسأل ولا شي هذا كيسى بالله فيه مما تقول؟" وهنا تدخل أحد أقربائه ورد عليه بقوله" ياخي خلو يسأل مالك مزعل نفسك يشتي يعرف الحقيقة هذا صحفي"، لم نرد المكوث أكثر من ذلك الوقت، فعدنا إلى حيث أوقفنا سيارتنا، وفي منتصف الطريق صاح أحدهم قائلا "هل ستبلغون الحكومة عنا"؟ النساء والحليب أثناء قيادة السيارة بأحد الأودية، استوقفتنا أربع نساء متسللات واحدة منهن كانت تحمل رضيعا اقتربت من نافذة السيارة وطلبت منا مالا لتشتري "حليب أطفال"، فقلنا أين ستجدين بقالة هنا تبيع حليب أطفال؟ فلم تجب. واستمرت في طلب المال. لكن تسللهن دون وجود أي رجل معهن كان محرضا على التساؤل، فأجبن بالصمت، لكن واحدة منهن وبعد تردد قالت "نحن طالبين الله، وماذا نريد بالرجال، نريد أن نشقى على أنفسنا فقط". وعند سؤالهن ألا تخفن في هذه الأودية من السير لحالكن؟، قلن: إلا نخاف، نخاف حين ننام في العراء دون أكل أو ماء متوفر، ونخاف ممن لا يخافون الله! ومن هم؟ أجابوا بعد صمت وتردد وباختصار شديد "كثير الذين لا يخافون الله!". وعن الدافع والهدف من تسللهن، قلن إنهن يردن الدخول للمملكة بهدف العمل، فقلنا لهن: وماذا ستعملن؟ قلن: نعمل أي شيء، خادمات في رمضان، أو نتسول في القرى والأسواق وعند الإشارات ومعنا أطفالنا. عناء المواطنين بعد قطعهم لأكثر من 85 كلم مشيا على الأقدام، يلجأ المتسللون مع غروب الشمس لسفوح الأودية المطلة على الطرق تجنبا للدوريات الأمنية وبعيدا عن أعين المواطنين الذين قد يبلغون عن وجودهم. مواطنو جبال آل زيدان قالوا إن عناءهم مع المتسليين متواصل، فدائما ما يتعرضون للسرقة من قبلهم، إلى جانب معاناتهم مع المخلفات التي يتركونها في المساجد ودورات المياه الملحقة بها. وفي حديثه ل"الوطن"، قال شيخ شمل قبائل آل يحيى وآل زيدان وآل نخيف سلمان بن حسين اليحيوي "إننا نعيش في أمن وأمان في ظل حكومتنا الرشيدة، لكن تواجهنا مشاكل مع كثرة التسلل، ونحن والحمد لله قد قبضنا علي كثير من المتسللين وتم تسليمهم لحرس الحدود، ومنطقتنا وجبالنا وعرة ولا يحميها بعد الله إلا أهلها لدرايتهم بطرقها الوعرة جدا". وشدد اليحيوي على دورهم في حماية أمن الوطن من خلال تأكيده على المواطنين بالإبلاغ عن أي عملية تسلل من قراهم، مؤكدا أنه يجد كل التجاوب من المواطنين، لكنه أشار إلى قضية التنمية واحتياجهم كثيرا من الخدمات ومطالبة الأهالي له بإيصال الخدمات إلى قراهم وهي المشكلة التي قال إنه لم يجد لها حلا حتى اللحظة. وناشد اليحيوي حرس الحدود في القطاع الجبلي بمضاعفة جهوده وزيادة دورياته لكثرة المتسللين وخطورة كثير منهم لحملهم السلاح الأبيض، والعمل في التهريب، وترويج وبيع الممنوعات من المخدرات والأسلحة. وكشف عن مواقع تسللهم حيث يتم تسللهم عن طريق وادي المثاف وقرية امعينه، وجبل الجراثه، وجبل الصوفعه، ومن قرى الخربان والروحة وثهر الهجرة مشيرا إلى أن هذه المواقع تم رصدها من قبل المواطنين هناك. سر "الشاكوش" أثناء تجولنا في أودية جبال بني مالك وجبال فيفاء وهروب شاهدنا متسللين من الجنسية الإثيوبية والإريترية وهم الأكثر خطورة وانتشارا في القطاع الجبلي لجازان وحتى لمنطقة عسير حيث التقينا عددا منهم في أماكن متفرقة في أودية جبال بني مالك ومحافظات فيفا وهروب والريث. ومن هذه المواقع يبدؤون رحلة تسللهم من الحدود البحرية بمحاذاة القرن الأفريقي دخولا إلى اليمن ومن ثم التسلل إلى الحدود السعودية، رحلة تستمر قرابة الشهر، كما أخبرنا أحد المتسللين من الجنسية الإريترية سمّى نفسه "مصطفى" كان يحمل "شاكوشا" حاله كحال معظم بني جنسه من المتسللين. وبسؤاله عن الغرض من حمل الشاكوش، أجاب بأنه يستخدمه في عملية البناء بالحجر في البيئة الجبلية. وبمواجهته بحقيقة حمله للدفاع عن النفس لاسيما وأن أغلب حوادث المشاجرات تنتهي بالقتل فيما بين بني جنسه بمثل هذه الأدوات، اعترف مصطفى بأن الشاكوش هو الآلة التي يمكن حملها دون إثارة انتباه الناس، وقد يستخدمه سلاحا إذا تعرض للمضايقة أو السرقة. وفي جبال وأودية فيفا لاحظنا استقرارهم للسكن في أماكن قريبة من مزارع المواطنين واستخدام الأشرعة وسط الغابات الكثيفة للسكن. وعبر عدد من الموطنين عن قلقهم المتزايد جراء كثرة أعدادهم حيث طالب خالد الفيفي بمداهمة نقاط معينة لهم في جبال فيفاء كموقع الخطم، والعفاره، ودحرت، وآل عياس والعبسية، وناجد والعبسية البديع، على أن تكون المداهمة في وقت واحد لأن كثيرا منهم يتنقل بين تلك المواقع لحظة المداهمة. بيان الشرطة شرطة منطقة جازان التي لاحظنا وجود كثير من دورياتها في القرى والمدن الحدودية، تمكنت من القبض على عدد كبير من مخالفي نظام الإقامة من المتسللين حيث أوضح مساعد الناطق الإعلامي بشرطة المنطقة الرائد عبدالرحمن الزهراني، أن شرطة المنطقة أعدت خططا في جميع المواسم والمناسبات وخاصة مع حلول شهر رمضان لرصد وملاحقة المتسللين. وأكد أن الجهود الأمنية تتضاعف في أنحاء المنطقة كافة وخاصة فيما يتعلق بالقبض على مجهولي الهوية والمتسولين في رمضان. وكشف الرائد الزهراني عن إحصائية لأعداد المقبوض عليهم من المجهولين والمتسولين منذ بداية هذا العام وحتى نهاية شهر رجب الماضي حيث بلغ عددهم 107 آلاف و259 متسولا ومجهولا في منطقة جازان فقط. وأضاف أنه تم وضع آلية للسيطرة على المتسولين وضبطهم نظراً لكثرة وجودهم في هذا الموسم بالأسواق والمجمعات التجارية وعند الإشارات الضوئية، مهيبا بالمواطنين والمقيمين عدم التعاون معهم والإبلاغ عنهم أينما كانوا عبر الرقم الموحد 999.