كل مجموعة بشرية تنتظم في مهمة ما، يجب أن يكون لها قائد تجتمع حوله محركا ومنظما وملهما، يعينها على أداء مهمتها على أكمل وجه، ويعمل على حل المشكلات والعوائق، وتسريع حركة المجموعة وتطويرها باستمرار، وهذا حل إداري لا خلاف عليه منذ فجر التاريخ، فوجود القائد سنة كونية ضرورية، حتى في المجموعات الحيوانية المنظمة كالنمل والنحل وبعض الحيوانات التي تتحرك في قطعان، وما أكثرها. مقالتي تتجه إلى ثقافتنا نحن عن المنصب، وفهمنا الحقيقي له، سواء أكان منصبا صغيرا أم كبيرا، لكن قبل ذلك يجب أن نتحدث عن المنصب في ذاته، فهو مهمة يفترض أن توكل إلى ذي كفاءة حقيقية يستطيع قيادة المؤسسة أو القسم وإحداث أثر إيجابي حقيقي فيه، تختصره العبارة الدارجة (تكليف لا تشريف)، فالمنصب لا يكون مكافأة، بل أسه وروحه وعموده الفقري (الكفاءة)، وعلى أن عبارة (تكليف لا تشريف) دارجة لكنها غالبا ما تكون جدارا يتدرع به المكلف، يخفي خلفه عوامل نفسية تغذيها الثقافة الاجتماعية، تظهر في تصرفاته وبعض قراراته لاحقا. الثقافة الاجتماعية حول المنصب مقلقة كثيرا، وأراها أحد عوائق التنمية، فالقيمة الحقيقية للفرد شبه مغيبة في هذه الثقافة، فهو عادي حتى تأتيه القيمة المضافة (المنصب) ليكون ذاتا أعلى، تكال له عبارات الثناء والمديح والتبجيل، وتشد إلى رضاه الرحال، ويكثر المتزلفون والمنافقون حوله، وعلى أنه ابن مجتمعه المغذى بذات الثقافة، تزيد هذه التصرفات من تمكن الأمر في نفسه، ويظل هاجس استمرار هذا المناخ شاغله الأكبر، حتى عن مهامه التي كلف بالمنصب من أجلها، وهنا تبدأ السلوكات المدفوعة (برهاب السقوط) تكتب سيناريوهات معقدة داخل منشأته، فينشغل بملاحقة كل شخص يشعر أنه مصدر (تهديد) ولو في خيالاته، ويتحرك إلى بسط نفوذه ومركزيته،لذلك تجد النائب أو الوكيل أو المساعد شبه مهمشين في الإدارات التي يديرها المسكونون برهاب السقوط، وربما يكون خوفه حقيقيا؛ لأن أولئك تغذيهم الثقافة الاجتماعية ذاتها، وربما يريد بعضهم بشدة الوقوف مكانه في هالة البريق الوهاجة التي تحيط بسعادته. رهاب السقوط هو خوف مغادرة المنصب، وفقدان القيمة المضافة، عامل خطير في نفسيات شاغلي المناصب؛ لأنه يصنع التوجس والأعداء الوهميين، والثقافة الاجتماعية في المنصب هي باعث هذا الرهاب الرهيب، وما تزال عالقة بذهني مقالة في صحيفة المدينة قبل مدة لأحد المسؤولين الكبار، وهو يعاتب الدنيا، والأصدقاء والزملاء، فبعد أن كانوا متحلقين حول هالته انفضوا، فلم يسأل عنه إلا القليل بعد تقاعده، وقال بصراحة إن زملاءه الذين ما يزالون يشغلون مناصبهم، وبعد أن كانوا يبجلون سعادته، تحول حالهم فأصبحوا لا يردون على اتصالاته، وقد فقد قيمته المضافة. أضف إلى ذلك أن الإعلام أيضا ساهم في تكريس الثقافة الاجتماعية، فالفرد والموظف لا قيمة لهما في نظر بعض الإعلاميين، بل القيمة الحقيقية للمدير أو القائد، فلا يشعر الإعلامي أن خبره أو تغطيته لشأن ما ذوي قيمة إن لم يحشر اسم (سعادة المنصب) فيها، ولا شأن له بكل المتماسين الفعليين مع الحدث أو الواقعة، وهذا ما يجب أن يلتفت إليه القائمون على الإعلام. إن أردنا تنمية حقيقية فيجب أن نتخفف كثيرا من هذه الثقافة، ويجب أن يدفع المثقفون وقادة الرأي والإعلاميون بهذا الاتجاه، وأن يبادر المسؤولون في إداراتهم إلى تخفيف البروتوكولات الوهجية للمنصب، والتلميعية للمسؤولين إلا إن حققوا منجزا (نوعيا) يصنع فرقا حقيقيا، وأن تبادر (نزاهة) وهي قديرة إلى دراسة حالات (المركزية الإدارية) في كثير من القطاعات، وتعمل على إعادة هيكلة الإدارات التي يثبت تورط مسؤوليها في هذه البؤرة الموحلة، التي لا تزيد المؤسسة إلا رهقا، ينعكس على أداء الجهات وخدمتها للمجتمع، ويبطئ حركة عجلة التنمية، ولسنا بحاجة إلى مثل هذه العُقد المرهقة. نقلا عن صحيفة مكة