جاء ديوان الشاعر جابر الدبيش «سيرتها الأولى» الصادر مؤخراً عن دار طوى، ليقدم للمشهد المحلي شاعراً جميلاً يقدم إنتاجه المطبوع للمرة الأولى، وإن كان قد بدأ النشر في الصحافة منذ فترة مبكرة من مسيرته الشعرية. «الشرق» طلبت من الشاعر الدبيش الدخول إلى تفاصيل البدايات والظروف التي أسهمت في تكوّن تجربته الشعرية، فكانت اللوحات التالية التي تكشف، ولو جزئياً، عن بعض ملامح سيرته الشعرية الموعودة بمجموعة ثانية يتوقع أن تصدر قريباً. دلالات الصوت لم تكن تلك الهمهمة، التي تجتر القوة من مكامن الضعف، وتتطاول مشكّلة رؤية جديدة للسنابل، ذلك الصوت الجماعي «هه هه هه هه» إلا قصيدة ينسجها الفلاحون عندما يجزون بمراجهم سيقان القصب، وكان أبي أحدهم، ذلك النغم الذي ترسخ في ذاكرتي قبل أن أصل إلى مقاعد الدراسة وقبل أن أعرف المورفيم والصرفيم في الجامعة من البروفيسور خليل عمايرة، والبروفيسور منذر عياشي ودلالات الصوت.. ولم يكن تغريد البلابل وهديل القماري وجلجلة العشرق وحفيف الأشجار وأزيز الرياح وثغاء خرافي وأنا أرعى بها في وادي خلب وعمري لم يتجاوز السبعة أعوام، إلا قصائد تتفلت في البراري والوديان لتنسج أنشودة للحياة تشربت منها حتى الثمالة. المرحلة الابتدائية كم كانت الفرحة عندما قرأ لنا معلم اللغة العربية أبياتاً من قصيدة البحتري في الصف الرابع ابتدائي: «أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً/ من الحسن حتى كاد أن يتكلما/ وقد نبه النيروز في غسق الدجى/ أوائل ورد كان بالأمس نوماً». كنت أرفع صوتي مردداً هذه الأبيات فتجري نحوي الأرجاء كعاشقة مدت ذراعيها لتحتضن صوتي وأنا مع خرافي بين العُشر والسُعِّيد والأروى والسُحم والأثل والعروج، فيتناغم شدوي مع صوت ناي علي مهارب حامي الحقول.. كم كان فرحي وأنا أستعذب هذا الجمال ولا أدري ما كنهه.. ربما تكون البدايات لشيء في نفسي لا أفهمه. جواهر الأدب عندما كنت في التاسعة من عمري وقع بصري على كتاب «جواهر الأدب» في مكتبة الحكمي في أحد المسارحة، وكان سعره خمسين ريالاً يشكل عقبة في اقتنائه، نقودي خمسة ريالات، حينها فكرت أن أنميها، كنت استثمر ليالي الأعراس في قريتي الدغارير، وأقطع مسافة أربعة كيلو مترات مشياً لقرية الغصينية المشتهرة بالردائم لتجني لي الصبايا الفل عشرين جعباً بريال وأعود إلى قريتي لأبيع خمسة منه بريال، حتى اكتملت الخمسون ريالاً، كم كان فرحي عندما نقدت بائع المكتبة واشتريت «جواهر الأدب» وأبحرت فيه. ليلى وعبلة لجدي يحيى معلي «الطبيقي» حدائق ذكرى وأعراس قصيدة عندما كنت أتسمر أمامه بعد صلاة المغرب وهو ينشد من دلعه «من معالي ممخشب حتى حميضة مرعدٌ هزَّ بحور»، وأنا الطفل يتشرب من معينه روائح السيل وعذوق القصيدة. ولعنترة العبسي وقيس بن الملوح محطات في الروح وتلويحات جسد.. كانت أشعارهما وسيرتاهما لا تفارق مخيلتي، كنت أبكي لموت قيس ولم يلتق بليلى وأتحسر لعنترة بعد هذه المعارك لم يتزوج بعبلة.. كتبت بحثاً عن قيس في الجامعة وما صدمني أن قيس لم يثبت على اسمه، فمرة مهدي وأخرى فتى من بني أمية. أما شعره فتقاسمه قيس بن الذريح وجميل بن معمر وكثير عزة، وكنت أنا المخدوع… آمنت بالشعر وألغيت الأسماء وبقيت المرأة هي ليلى وعبلة وعزة وبثينة يحركننا كيفما يشأن ونحن أرواح مجندة للتشبب بهن وكفى. ذاكرة المكان - لبئر عقيل الحميدة وعرجه ذاكرة مكان لا تنفك مني ما حييت، أقضي جلَّ وقتي أتلهى تحت ظل العرج والمسافة بين العرج والبئر سبعة أمتار، ظل العرج واقفاً وفاءً للبئر التي وأدها أهل القرية بمائها، 17 عاماً وهو واقف يرتجيها، حتى جاء التطور ودفنت البئر وجز العرج، وجز معه تاريخاً من ذكرياتي، إلا أنهما ترسخا في نفسي ولن يموتا.