إن الحياة انتقال دائم من حال إلى أخرى، وترحال مستمر من مكان لآخر -وهذا ديدنها- حتى تكون رحلة المغادرة الأخيرة في نهاية المطاف! انتقلت في الأسبوع الماضي إلى سكن جديد، وصليت الجمعة في مسجد الحي -لأول مرة- وجلست عن يمين رجل كبير من حي آخر في الصف الأول -كان يقرأ من قصار السور بصوت مرتفع قليلا من حفظه- واستمعنا إلى الخطبة الأولى التي كان جزء منها عن الشيب وتوقير الكبير، لكن الخطيب نزل بعدها مباشرة، ووجه المؤذن بإقامة الصلاة! تفاجأ الرجل الذي كنت إلى جانبه أكثر مني، وضرب كلتا يديه ببعضهما بشدة، وقال: «وحدة» ؟ يعني: «خطبة واحدة»، واستمر استغرابه واضحا -يتمتم ويهز رأسه- أثناء قيامه للاستواء في الصف! تأكد لي -فيما بعد- من بعض المصلين في المسجد أن الأمر لم يكن سهوا، بل هو فعل يقوم به الخطيب بين فترة وأخرى، فمرة يخطب خطبتين ومرة خطبة واحدة، كما أن هذه الحالة سبق أن قام بها خطيب آخر -لكنني حينها اتهمت نفسي بعدم التركيز ولم أسأل- وأكد لي بعض الأصدقاء -عندما أثرت الموضوع معهم- أن تركيزي ما زال بخير! أعتذر لمن كان عنوان مقالي صارفا لأذهانهم إلى وجهة لا أقصدها -ولكن لكل شخص وجهته ومقصده- إن ما أقصده هو خطبتا الجمعة، حيث يقول جمهور العلماء: إن خطبة واحدة لا تصح بها صلاة الجمعة؛ لأن الهدي النبوي جاء باثنتين! وقد سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -يرحمه الله- سؤالا في قيام خطيب ناب عن إمام المسجد في صلاة الجمعة لغيابه، وخطب خطبةً واحدة، وصلى بالناس، ثم اختلفوا بعد ذلك، هل صلاتهم صحيحة أم لا؟ فكان جواب سماحته: «الصلاة غير صحيحة، فعليه أن يرجع ويخطب الخطبة الثانية ثم يعيد الصلاة، لا بد من خطبتين كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهما شرطٌ لصحة الصلاة، هذا هو الأصح، فعلى هذا الرجل أن يعيد الصلاة هو وأصحابه، عليهم أن يعيدوا، عليه وعلى أصحابه أن يعيدوا الصلاة ظهراً، وفي المستقبل لا بد من خطبتين قبل الصلاة». ولما عقب السائل بقوله: إن لم يعيدوا تلك الصلاة، سماحةَ الشيخ؟ أجاب: يعيدونها ظهراً أربع ركعات. وسئل الشيخ محمد بن عثيمين -يرحمه الله- هل تجوز صلاة الجمعة بخطبة واحدة؟ فأجاب -يرحمه الله- بما ملخصه: -لا بد لصلاة الجمعة من خطبتين، ولا تصح إلا بهما؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب خطبتين. -لو اقتصر الخطيب على خطبة واحدة لكان على غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-. -يفصل الخطيب بين الخطبتين بجلوس، وهو سنة مؤكدة، ولا يكفيه الفصل بينهما بالسكوت، حيث لا يتحقق الفصل إلا بالجلوس. وجاء في الفتوى رقم 1957 في 2011/11/29 الصادرة عن لجنة الإفتاء الأردنية وموضوعها: «حكم ترك الخطبة الثانية في صلاة الجمعة» وكان سؤالها يقول: «ما حكم ترك الخطيب الخطبة الثانية في صلاة الجمعة سواء كان متعمداً أم ناسياً، وماذا يتوجب على المصلين أن يفعلوا؟ «. جاءت الفتوى مفصلة تفصيلا دقيقا للمتلقي، وقد أكدت على: -أنه يشترط عند جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن تتقدم صلاة الجمعة خطبتان يجلس بينهما الإمام. -الاستدلال بخبر الصحيحين: (كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا). -أن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكل خطبة مكان ركعة، والإخلال بإحدى الخطبتين كالإخلال بإحدى الركعتين، فكما لا يجوز الاقتصار في صلاة الجمعة على ركعة واحدة كذلك لا يجوز الاقتصار على خطبة واحدة. -أنه تبطل صلاة من تابع الإمام إذا ترك الخطيب الخطبة الثانية عمداً أو سهواً إذا تم تذكيره، ولم يتذكر. -وجهت الفتوى إلى ما يتوجب على المصلين لصحة صلاتهم. -أكدت أن الواجب على الخطيب مراعاة مذهب عامة أهل البلد، وعدم مخالفة المألوف المتقرر، وعدم إثارة الفتن، وتشكيك الناس في دين الله تعالى. وقفة: كان -ولا يزال- لسماحة الشيخين عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين -يرحمهما الله- منزلة كبيرة في المملكة والعالم، وقبول لفتواهما؛ لما كانا عليه من العلم والأمانة، والصدق في الدعوة، أما ما يفعله بعض خطباء الجمعة من مخالفة لجمهور العلماء في أمر العبادة فهو خطأ كبير، وخلل فكري جسيم يستدعي أن تقول لهم الوزارة المعنية: من أنتم؟