كنت واثقاً أنك ستقع في حب هذه الداراما من الدقائق الأولى. هاجس خفي أخبرني بذلك...إنها المزيج المفضل لديك و الذي يثير مكامن النشوة في روحك، تماماً كما تتذوق عصيراً ممزوجاً لا تعرف اسمه لكنك تدرك أنك ستحبه منذ الرشفة الأولى.. شيء ما مألوف و لذيذ ضمن مكوناته يجعلك منجذباً دائماً نحو الرشفة التالية. بعدها تأتي العقلانية التي تجعلك تحلل مكوناته، هل كانت النكهة الحامضة برتقالاً أم ليموناً، و ذلك الطعم الحلو اللاذع بعض الشيء ربما كان التوت البري أو الفراولة و ماذا عن القوام الكثيف ربما هو الموز..لكنك تشعر برائحة المانجو كذلك..ربما؟ لم لا!. كذلك كان هاوس.. المسلسل الأمريكي الذي يندرج تحت قائمة الدراما الطبية و التي بدأها المسلسل الذائع الصيت ER أو غرفة الطوارئ منذ عقد و نصف من السنين و توالت المسلسلات الطبية من بعده حتى صار المشاهد الأمريكي يعرف تفاصيل غرف العمليات أكثر مما يعرف حجرات منزله! و يفهم في الإنعاش الرئوي و الصدمات الكهربائية أكثر مما يعرف عن أنظمة شركته التي يعمل فيها، لكن ثمة شيء مخادع في مسلسل هاوس، فهو على الرغم من كونه الأكثر إخلاصاً لتصنيفه كدراما طبية و على الرغم من أن الحدث الرئيسي في كل حلقاته معضلة طبية تستعصي على التشخيص و العلاج و تدور كل المشاهد حول فك طلاسمها و التفاعل مع تطوراتها و مضاعفاتها إلا أن ذلك ليس مصدر الجاذبية الفاتنة للدراما..ثمة نكهة حريفة و حاذقة لم أستطع تمييز مصدرها في البداية، نكهة تذوقتها و استمتعت بها كثيراً من قبل لكنني لا أتذكر متى و أين!؟ شيء ما يدور حول شخصية البطل ذاته..شخصية دكتور هاوس، الخليط المعقد من العبقرية و التمرد و العذاب النفسي، الرجل الوسيم الذي يرفض ارتداء المعطف الأبيض و يعاني من عرج بيّن يجبره على السير مستنداً إلى عصاه طوال الوقت، حاذق ذكي قوي الملاحظة، لكنه وقح و متعجرف و لا يتورع عن إبداء امتعاضه من غباء الآخرين و جهلهم طوال الوقت، يجاهر بعنصريته و احتقار زملائه و ميله للهو , يتعاطى المسكنات طوال الوقت لتخفيف ألم ساقه فلم يلبث أن أدمن على تعاطيها، يتجنب التواصل مع الآخرين قدر المستطاع يرقب مرضاه عن بعد و يستخدم فريقه الصغير في معاينة المرضى و إجراء الفحوصات التي يطلبها، لا يتورع عن طلب أنواع غريبة من الفحوصات كالتسلل إلى منازل المرضى و تفتيش حاجياتهم بحثاً عما يحتمل أن يكون سبباً في علتهم، و طبعاً يفعل ذلك سراً لأنه لا يثق في كلام مرضاه و يعتقد أن كل الناس تكذب كل الوقت و أنهم يقولون الصدق في حالات استثنائية لا يعتد بها، صديقه الوحيد الذي يثق به هو طبيب الأورام الوقور المهذب د. ويلسون و الذي يكاد يكون النسخة المناقضة لهاوس في كل شيء تقريباً ما عدا البراعة في العمل و علاقة الصداقة القوية بينهما. تبدأ معظم حلقات المسلسل بذات السيناريو تقريباً، منظر عام لأشخاص عاديين في نشاط عادي، احتفالي في أكثر الأوقات ثم يحدث عارض صحي غير متوقع لأحدهم، إغماء، نزيف ،هلاوس أو نوبات صرعية أو أي شيء آخر يستدعي نقل المصاب إلى المستشفى لتبدأ بعدها أحداث الحلقة، غالباً ما يفشل الأطباء في تحديد سبب الأعراض التي أصابت المريض لغموضها أو تناقضها، و لا بد أن تزداد الحالة سوءاً بعد دخولها المستشفى إما لتأخر الأطباء في تحديد المشكلة أو لشروعهم في علاج خاطئ زاد من تعقيدها، هنا تزداد سخونة الوقائع و تجد د. هاوس يدور حول نفسه كالنحلة يكتب و يشطب سطوراً كثيرة فوق سبورته البيضاء و عندما ييأس يرسل فريقه لعمل المزيد من الفحوصات أو للتسلل لمسكن المريض أو حتى للبحث عن أحد أقاربه و يجلس منهكاً يحدق في الجدار أو يلعب بعكازه حتى قبل نهاية الحلقة بدقائق حيث تكون الأمور قد تأزمت لأبعد حد و لم تفلح كل المحاولات السابقة إلا في تعقيد مشكلة المريض أكثر. هنا تأتي لمحة العبقرية الغامضة حيث تتراص قطع الصورة المتاثرة إلى جوار بعضها البعض لتصنع صورة منطقية. هنا يقفز هاوس ليتجه لغرفة المريض ربما لأول مرة منذ بدء الحلقة و في أحيان كثيرة يسرع لغرفة العمليات لإيقاف جراحة خطرة على وشك أن تجرى للمريض..و مشهده الاستعراضي المفضل هو عندما يقتحم بعكازه و سترته الأنيقة غرفة العمليات المعقمة ليطلب من الجراحين التوقف عن شق جسد المريض و يخبرهم بفخر مستفز بالحل الذي وجده و الذي غالباً ما يكون مرضاً نادراً جداً لم يفكر أحد في إحتمالية إصابة المريض به قبله! حسناً..ألا يذكرك د. “هاوس” بشخص من عالم الخيال كنت تعرفه من قبل؟ تعال لننحي جانباً الغلاف الطبي المخادع قليلاً..انس المستشفى و المرضى و اللغز الطبي..فقط تذكر أن لدينا معضلة لا يستطيع أحد حلها، وهناك شخص واحد حاد الذكاء متعجرف قليلاً لكنه يستخدم حواسه و ملاحظاته بطريقة مذهلة لحل المعضلة، رجل يكرهه منافسوه لكنهم يلجأون إليه لأنه بارع..رجل لديه صديق واحد يفهمه و يتقبله رغم طباعه السيئة..رجل و ياللمصادفة لا يخلو اسمه من جناس لفظي مع اسم “هاوس” ...شخصيه خيالية لا تمارس الطب لكن مبتكرها طبيب! هل عرفته؟ إن كنت عرفته فبإمكانك أن تكمل الاستمتاع بكوب العصير.. يمكنك أن تسترخي في مقعدك و تستحلب بقايا الطعم العالق في لسانك و تقول في ثقة...إنها نكهة “هولمز” .. شيرلوك هولمز! أجل إنه هو “هولمز”. “هاوس” ليس سوى النموذج العصري لشيرلوك هولمز، نموذج متنكر في ثياب طبيب لا أكثر، نفس سمات الشخصية الكلاسيكية للمخبر الأسطورة بعدأن تنكرت في ثياب القرن الحادي و العشرين، لو كنت قد قرأت شيئاً من تراث هولمز لعرفت مدى فخره بنفسه و اعتداده بقدراته و أناقته و احتقاره لمفتشي سكوتلانديارد تماماً مثلما يفعل هاوس، هاوس الذي لا يثق في كلام المرضى مثلما لا يثق هولمز في كلام عملائه حتى يحل لغز الجريمة، هولمز الذي يرفض الإيمان بالخرافات و الأشباح يشبه هاوس الذي تمادى في هذا العصر ليصبح ملحداً لا يثق في معجزات الرب، لكنه يثق إلى حد ما في صديقه د. ويلسون رغم اعتقاده بأن ذكاءه محدود لكنه يستلطفه، هل هي مصادفة أن الصديق الوحيد لشيرلوك هولمز أسمه د. واطسون؟ هل هناك تشابه أسماء هنا؟ هل تريد المزيد من المقابلات؟ إليك واحدة أخيرة.. “هاوس” مدمن لنوع قوي من المسكنات سبب له عدة مشاكل في المسلسل.. و د. “واطسون” يروي عن صديقه هولمز أنه كان يحقن نفسه بالكوكاين عندما يصيبه الإحباط من الفراغ و قلة النشاط الذهني! إذا كنت من الذين افتتنوا بشيرلوك هولمز فأنصحك بشدة بمشاهدة الأداء العبقري للمثل “هيو لوري” الذي يقوم بأداء دور هاوس فهو في نظري أفضل من نقل شخصية هولمز إلى الشاشة بتمكن و اقتدار حتى لو ادعى أنه طبيب أمريكي في القرن الحادي و العشرين. أما إن كنت من الأغلبية التي شاهدت المسلسل و لم تقرأ عن شيرلوك هولمز من قبل وليست لديك الحماسة لتفعل فأنصحك بمشاهدة فيلم شيرلوك هولمز للمخرج جاي ريتشي لترى مقدار التشابه الغريب بينهما. و في كلا الحالتين أرجوك لا تنس العبقري الأول الذي صنع المزيج البديع من المتعة و الإبهار الذي لازال الجميع يغرف منه إلى الآن!