الدرس الأكاديمي يمثل سلطة، مناهجه ومؤسساته وكوادره هي قوام الثقافة التي تدعمها الدولة، وتحاول تكريسها وترسيخها من خلال النظام التعليمي. الطلاب والأساتذة والباحثون هم جميعا خاضعون لذات السلطة، كانوا على وعي بذلك أم لم يكونوا، فسلطة الضبط المنهجي لا ينفلت منها أحد، ما دام الجميع طالبا كان أم معلما مصالحهم ومنافعهم الدنيوية مرتبطة بها ارتباطا كليا. والخروج على سلطة الضبط من البعض، يشكل خروجا على النظام، والدخول في فوضى لا تقبلها ثقافة السلطة ولا الدولة على الإطلاق. هذا ما يعلمنا إياه درس النقد الثقافي، المعرفة أو الثقافة وثيقة الصلة بالمصلحة والمنفعة، ومادامت الدولة تحتكر سلطة المعرفة فإنها تفرض على الآخرين شروطاً تقبلها وشروطاً تعلمها وتلقيها، ضمن نظام صارم لا يحيد عنه أحد وإلا نبذ وطرد. وهكذا كل فكر يخرج عن نظام المؤسسة يعد غير جدير بالاحترام والتقدير، بل يشن عليه الهجوم حتى يخبو نوره ويغور في غياهب النسيان. هو أشبه ما يكون بقانون تاريخي لا تنجو منه ثقافة سواء كانت أوروبية أو إسلامية. والمتأمل في التاريخين ذاتهما سيجد من الشواهد كثيراً على أفكار عاشت خارج المألوف أو النسق، البعض منها الظروف السياسية والاجتماعية ساعدتها على أن تظل تعيش على الهامش، ليصل لنا منها الفتات، والبعض الآخر غمرها النسيان. خذ كتاب الفهرست لابن النديم أو كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي، أو موسوعة الفيلسوف الفرنسي المعاصر غيدوروف عن تاريخ الأفكار والفلسفة الأوروبية، ستجد بلا شك جملة من الأفكار والكتب التي لا يوجد إلا اسمها فقط. فمن جملة أسباب ضياعها هو تضييق السلطة الثقافية والسياسية على هذه الأفكار أو أصحابها كي لا ينتهكوا حرمة نظام المجتمع ويشيعوا الفوضى وبالتالي الفتن. هذا الأنموذج من السلطة صغر أو كبر نراه يتكرر أمامنا في كل عصر وفي كل مجتمع. أتذكر عندما أنهيت محاضرة لي في إحدى المؤسسات الثقافية بادرني أحد الحضور بالاعتراض على أن ما قلته لم يخضع للدرس الأكاديمي ولا إلى الرؤية المنهجية التي تمثله، وبالتالي ما تقوله يفقد مصداقيته أو موضوعيته. كان جوابي: ربما كان اعتراضك صحيحا من وجهة نظر السلطة (السلطة الأكاديمية) لكن من وجهة نظري هي ليست كذلك. لسبب لا أرى ما يعادله في أهميته من أسباب أخرى، إذ الكتابة بالنسبة لي هي استرداد مجال الحرية التي افتقدها الفرد جراء تراكم السلطة في حياته. وهذا في نظري هو النهر، وما عداه من أسباب يمثل روافد. سيختلف معي الأكاديمي الحريص على سمعة مؤسسته وعلى مصالحها، بل الحريص على هويته ووجوده من خلال حرصه عليها من العمق. سينعتني بالفوضوي. لكن أليست الفوضى هي الوجه الآخر لحرية الكاتب حين يغرد خارج السرب. لا أريد هنا أن يفهم كلامي بأني ضد الأكاديميين بإطلاق أو ضد الدرس الأكاديمي، فهناك من هم أساتذة لنا نعتز بهم، لم يتقيدوا بسلطة النظام بل خرجوا عليه في لحظة من اللحظات واسترجعوا حريتهم من خلال البحث والكتابة، ولا أريد أن أضرب الأمثلة، فالساحة تزخر بأسمائهم. ما يهمني أولاً وأخيراً هو خيار الحرية في الكتابة إزاء سلطة المنهج والنظام .الكاتب والمفكر المغربي عبدالسلام بن عبد العال تنبه إلى هذه المشكلة. فالاشتغال بالفلسفة وبأفكارها المجردة ضمن أسلوب نسقي منهجي صارم في الكتابة، يفضي إلى انحسارين: الأول انحسار التواصل مع جمهور عريض من القراء وبالتالي عدم التفاعل بين الأفكار ومتلقيها. الثاني هو نتيجة الأول بحيث عدم التفاعل يجعل من تخلق الأفكار وتجديدها أمرا في غاية الصعوبة والتحقق. لذلك رأيناه كيف بدأ ينجز أفكاره في كتب صغيرة، وبأسلوب أقل ما يقال عنه بأنه السهل الممتنع. والأهم تفوح منها حرية الأسلوب في التعبير كما نريد،لا كما تريد سلطة الدرس المنهجي. هناك تجربة أخرى لها دلالتها في هذا الإطار،عاشها الأديب الألماني ايريش أورباخ -وليس الفيلسوف فيورباخ- عندما ألف كتابه “محاكاة: الواقع كما يتصوره الغرب” وفيه قام بترجمة نصوص العصر الوسيط من لغتها الأم (أي اللاتينية)، والكتاب مكتوب برؤية تأويلية دلالية “متجاوزا التطبيق المدرسي أو الشروح النظرية، ماضيا إلى رؤى تطبيقية على نصوص أدبية من عصور مختلفة وبلغاتها الأصلية، إذ يصبح فهم الواقع في هذا الكتاب مختلفاً عما هو سائد مثيل الواقع، وتكون المحاكاة التي أطلقها أرسطو تفاعلا تأويليا حول نظرة الإنسان الغربي لعالمه الممتد قرابة ثلاثة آلاف سنة في نصوصه الأدبية”. هذا العمل أصبح من أهم الأعمال في النقد الأدبي التي ألفت في القرن العشرين. أثره امتد على جيل بأكمله. ظروف تأليفه هي ما تدعم موقفنا هنا، فقد ألفه بعيدا عن الوطن منفيا في إسطنبول هاربا بيهوديته من جحيم النازية. في هذا المنفى لم تكن المراجع والمصادر أو المكتبات التي يعتمد عليها في الدراسة متوفرة بين يديه. بمعنى آخر لقد كان منفصلا تماما، بسبب ظروف الحرب والمنفى، عن مصادر ثقافته الأوروبية الأم. يقول إدوارد سعيد عنه في كتابه العالم والنص والناقد، ” ..إن أورباخ يكشف علانية عن سر تلك المفارقة التي مفادها أن بعده بالتحديد عن موطنه -بكل المعاني التي تنطوي عليها هذه العبارة- هو الشيء الذي أتاح له فرصة ذلك الإنجاز الرائع لكتاب المحاكاة. فكيف تراه انقلب المنفى من تحد أو مخاطرة، لا بل ومن صدمة عنيفة لذاته الأوروبية، إلى مهمة إيجابية، ومهمة سيكون نجاحها عملا ثقافيا ذا أهمية فائقة” ص11. إذن وفق هذه الفكرة أجد أن التحرر من سلطة المركز الثقافي تتيح للباحث حرية التأويل في موضوعه، وأخذه إلى مناطق أكثر جدة في الرؤية والتصور. أليست صورة الإسلام التي أنتجها المسلمون الآسيويون والأفارقة هي صورة أكثر تسامحا منا نحن الذين نملك الأصل والمصدر. أليست هذه مفارقة؟ بل صورة الإسلام التي تشكلت في أذهان الجاليات العربية التي تعيش في أوروبا لم تعرف ثقل الأصول وعقده التاريخية على وعيها وهويتها الإسلامية.هي صورة لا تنتمي لا إلى الإسلام السلطوي ولا إلى الإسلام الأصولي. ملامحها يغلب عليها التعايش بالضرورة. فهل المنفى يصبح جزءاً من الحل حين يعوزنا التجديد في تصوراتنا للثقافة والدين والمجتمع والتاريخ؟ في كتابه السنة والإصلاح أشار المفكر عبدالله العروي إلى الإقدام على فكرة تأمل القرآن الكريم، والكتابة عنه في فترة ستة أشهر، بعيدا عن كل مرجعياته الموروثة المتعلقة به من تفاسير وأحاديث وفقه وعلم الكلام والشعر والنحو، وعندما اقترح على إحدى المؤسسات التي أرادت استضافته كباحث، رفض هذا المقترح. فكرة المنفى داخل الكتابة تبدو لي جديرة بالتأمل، على الأقل كي نحرك مجرى الثقافة الراكد.