إن الحديث عن محمد أسد رحمه الله ليس حديثاً عن فرد مبدع فقط فقد كان له على الاتجاهات الإسلامية المعاصرة تأثير واسع وحاسم وارتبط به وبفكره على غير مراده رفض عنيد صارم لثقافة الغرب وانكفاء شديد على الذات لذلك فإننا ونحن نشيد به ونكتب عن تميزه وعظيم جهده وصادق جهاده لابد أن نشير إلى حقيقة هامة وهي أن تأثيره على الاتجاهات الإسلامية المعاصرة كان تأثيراً قوياً لكنه خلافاً لما أراد كان في بعض جوانبه تأثير سييء فقد فصلت أراؤه عن سياقها ولم تربط بالعوامل الظرفية التي دفعته إليها فأدى الأخذ المطلق بها إلى الإمعان في دعاوى الاكتفاء والانغلاق على الذات وعدم الاستفادة من التغيرات النوعية التي استجدت على الثقافة الإنسانية وبدلاً من أن يتجه المسلمون لبناء الذات على أسس حديثة مستفيدين من أفكار وتجارب الآخرين اكتفوا باستيراد المبتكرات الجاهزة وتجاهلوا الثقافة التي كانت خلف انجازها فظلوا كما هم يدورون في مسارات التخلف المزمنة وبهذا جاءت النتائج عكس ما أراد محمد أسد فالذين أخذوا عنه ودفعوا باتجاهه إلى النهاية القصوى اقتصر أخذهم عنه على الشق السلبي منه فهو قد رأى أن المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين يسيطر عليهم الشعور بالعجز والهوان في مواجهة ثقافة المستعمر فأراد أن يعيد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم فركز على أهمية الإحساس بالتميز دون أن تخطر على باله هذه النهاية المأساوية البائسة، فعلينا الآن أن نعيد دراسة أفكاره وأن نتعرف على الأسباب التي دفعته في ذلك الوقت إلى تبني الهجوم على ثقافة الغرب وأن نعلم بأن تركيزه على نقائص الثقافة الغربية لا يعني أنه ينكر مزاياها العظيمة وإنما كان يعدها مزايا واضحة ولا يمكن أن تخفى على أحد فقد كانت مهيمنة هيمنة مطلقة وكانت لها السلطة المادية والمعنوية على البلدان الإسلامية المستعمرة فلا يوجد آنذاك سبب يستدعي التنويه بها بل كان يراها غامرة بشكل يستوجب مواجهة طوفانها الجارف وربما لم يخطر على باله أن وهم الاكتفاء سوف يدفعنا إلى هذه النهاية المأساوية من الانغلاق والعجز الشامل لكننا كعادتنا ونحن ننقل عنه ونستشهد به لا نربط المواقف بظروفها ولا نبحث عن الأسباب ولا نراجع الرؤى ولا نعيد النظر في المواقف رغم ان كل شيء في الدنيا بات يتغير بسرعة شديدة مما يقتضي التلاؤم الدائم مع المتغيرات ولكن المفكرين والكتاب والباحثين الإسلاميين احتفلوا احتفالاً شديداً ضمنا أو تصريحا بموقف محمد أسد الناقد لثقافة الغرب والمنادي باعتداد المسلمين بثقافتهم وذهبوا بالموقف إلى أقصاه وبدلا من الاعتزاز الضروري بالذات والاعتداد الصحي بها بالغنا بالانتفاش والتباهي والغرور والقطيعة مع ثقافة العصر مما أدى إلى انقطاع التغذية عن ثقافتنا وتوقف النمو وحصول التراجع وتنامي الكراهية وتفاقم الانفصال عن قيم العصر الجوهرية والبقاء في مرحلة الدوران التي تجاوزتها الحضارة الإنسانية الصاعدة مما أصاب حياتنا بالإمحال ووجودنا بالتفكك وأفكارنا بالاضطراب وقد غابت عن هؤلاء المحتفين أسباب إغفال محمد أسد لإيجابيات الثقافة الغربية كما غاب عنهم بأننا نعيش في عصر تتضاعف فيه المعارف والقدرات الإنسانية كل بضع سنين وأن من يتعامى عن ذلك ولا يستثمره يلحق الضرر بنفسه ويصبح خارج حركة التاريخ. أما محمد أسد فقد كان مدفوعاً إلى ذلك الموقف المنحاز بأسباب ظرفية زالت فيما بعد نجملها بما يلي: العامل الأول أنه كان يفكر ويكتب وينشر في النصف الأول من القرن العشرين حينما كانت البلاد الإسلامية تحت سلطة الاستعمار الغربي وكانت الثقافة الغربية مسيطرة ماديا ومعنويا سيطرة كاملة وجارفة وكانت الشعوب المسلمة مستعمرة ومسلوبة الحرية ومكبلة الإرادة بسلطة أجنبية وكان المسلمون يشعرون بالعجز والهوان أمام الثقافة المهيمنة وكان التخلص من ذلك الشعور الذليل ومقاومة المحتل يقتضيان إعادة الثقة بالنفس وشحذ العزائم حتى تتحرك وتقاوم الغزاة وتستعيد حريتها المسلوبة وتسترد إرادتها المقهورة كما أن التخلص من الاستعمار وحده لم يكن يكفي وإنما كان لابد أن تتحد هذه الشعوب وهي لن تفعل ذلك إلا إذا اقتنعت بوجود محور جامع تتحد حوله فكان لابد من إقناعها بأنها تملك من المقومات الذاتية ما يؤهلها بأن تكون ندا للغرب في ثقافته ومقومات وجوده وأن هذه الندية لا تتطلب سوى الالتفاف حول دينها والاعتزاز بثقافتها وتوحيد صفوفها والعمل على استئناف بناء ذتها. ولكن النتائج جاءت مروعة وبائسة فساءت الأحوال بدلاً من أن تتحسن فقد رحل الاستعمار منذ أكثر من نصف قرن فخلفته حكومات عسكرية متسلطة انحدرت بالأوضاع إلى الحضيض فصادرت الحريات وقمعت الأفكار وطمست فرديات الناس واستنزفت طاقة المجتمعات في الهتاف لها أو في التناحر فلم يتحد المسلمون كما كان يتوقع محمد أسد بل أصبحوا أكثر تشرذما وتعددت دولهم حتى بلغت الستين وازدادوا تخلفا ولم يكتفوا بتخلفهم بل صاروا يجذبون العالم ويشدونه نحو التخلف وضاق بعضهم ببعض إلى درجة الاقتتال الشنيع المتكرر وهيمن الاستبداد في الكثير من بلدانهم واستمرأوا ثقافة الانغلاق والوصاية والاتكال حتى أصبح الناس نسخاً مكررة وقمعت الحريات حتى انطفأت الطاقات واختفت الأصوات الناقدة ولم يعد هناك سوى صوت السلطة وأطبق على المجتمعات الإسلامية الرأي الأوحد المغلق وصار التسلط مدعوما ومدفوعاً بأيديولوجيا قامعة وطامسة تبرمج الناس على الاستسلام المطلق للسلطة فاندحر العقل وتدهورت الثقافة وانكمشت قدرات الإنسان لقد غاب منطق الإقناع وهيمن منطق الاخضاع فأنتج ثقافة العنف الفظيعة التي شوهت الإسلام وجعلت المسلمين موضع اشمئزاز وارتياب ووحشة وليس أشد تعاسة من أمة تستطيب الرعب وتنشره وتتباهى به. العامل الثاني الذي جعل محمد أسد يبالغ في نقد الثقافة الغربية وينادي بالاستعلاء عليها بالثقافة العربية هو أن الغرب في ذلك الوقت ومنذ بداية عهد الاستعمار كان يعلن الازدارء لثقافات الآخرين ومنها ثقافة العرب وقد أسهم بذلك الانثروبولوجيون الغربيون والمستشرقون فكان رد الفعل عنده هو مواجهة الاستعلاء باستعلاء أشد ولكن المعروف أن موقف الغرب من الثقافات الأخرى قد تحول تحولاً جذريا بعد الحرب العالمية الثانية أي بعد صدور مؤلفات محمد أسد وأفرط الغربيون في احترام ثقافات الآخرين إلى درجة ضارة بهؤلاء الآخرين حيث تغريهم بالبقاء متخلفين وملتزمين بالدوران بمساراتهم التاريخية فقد انتهى علماء الانثروبولوجيا حاليا إلى تزكية وتبجيل حتى الثقافات البدائية وصاروا إلى القول بعدم تفاضل الثقافات وأن كل ثقافة لا يحكم عليها بمعايير غيرها وإنما لا يصح الحكم عليها إلا بمعاييرها ومن داخلها وهذا الموقف الغربي الأخير لا يقل بعداً عن الحقيقة من موقفه الأول فإذا كان الموقف الأول استعلائيا عنصريا فإن الموقف الثاني جاء مائعاً ورومانسيا ويساوي أحط الثقافات بأرقاها ويعود هذا الإفراط في المساواة الثقافية إلى أنه قد جاء رد فعل على الدعاوى العنصرية النازية كما يرجع إلى توسيع مقولة أنه لا يصح أن يحكم على أية ثقافة بمعيار من خارجها ولكن الحقيقة أن الثقافات شديدة التفاوت صعوداً نحو الازدهار أو بقاء في حضيض التخلف الذي هو الأصل في كل الثقافات والحقيقة أيضا أنه مع وجود ثقافات متمايزة ذات منظومات قيم مختلفة فإنه يوجد فوقها جميعا ثقافة إنسانية عالمية تمتلك من الإمكانات البحثية والمنهجية ومن أدوات المقارنة وإمكانات القياس والتقييم ما يخولها الحكم على الثقافات الأخرى بموضوعية وعدل وما يمكنها من تقييم مضمونها وتحديد درجة تقدمها أو انحطاطها. أما العامل الثالث الذي صبغ كتابات محمد أسد بهذه الصبغة النافرة من الثقافة الأوروبية فهو أن كتاباته جاءت رد فعل على تجارب التحديث الكسيحة في العالم الإسلامي خصوصاً تجربة كمال أتاتورك في تركيا فلقد ركز في أخذه عن الغرب على المظاهر والشكليات وأغفل العوامل الجوهرية التي كانت وراء ازدهاره فلقد كان أتاتورك دكتاتوراً مستبدا وعنيفا وإلزم الأمة برأيه الأوحد وصادر الحريات وصار وصيا على الجميع وهذه التصرفات الاستبدادية تتعارض تعارضاً جذريا مع أبجديات التحديث فالحرية المنضبطة والشفافية وحق كل الاتجاهات في التنظيم والعمل والالتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة وآلية النقد ومنهجية المراجعة وتشجيع المبادرات الفردية وتكافؤ الفرص وتوفير المناخ للتنوع الإبداعي في الأفكار والممارسات هي أهم شروط التحديث وهي شروط لم تتوفر في التجربة الكمالية ولم يكتف كمال أتاتورك بذلك بل حارب الإسلام حرباً هوجاء وغبية وصنع ثقافة ترفعه فوق البشر وتجعله فوق النقد فصنم نفسه وصنمه أتباعه بما يتنافى كليا مع متطلبات التحديث وحين مات صار الجيش وصيا على تركته فعطل عقل الأمة ودفعها في اتجاه هجين شائه ولم تستطع تركيا أن تأخذ دورها الفاعل إلا هذه الأيام حين اخذت في التخفف من وصايته وتخلت نسبيا عن تصنيمه وتحررت من فجاجة رؤاه وكانت القيادات في بلدان إسلامية كثيرة تحذو حذوه مما جعل محمد أسد يرى ضرورة التصدي لتلك الاتجاهات البائسة. وأما العامل الرابع الذي جعله يشدد على ضرورة التميز الإسلامي والاستعلاء الثقافي وما فهم على أنه دعوة إلى القطيعة الفكرية مع الغرب فهو أن الثقافة الغربية آنذاك قد تلوثت بجنون الحرب العالمية الأولى وكانت نذر الحرب العالمية الثانية تتكاثف وكان يرى أن الغرب مريض بتمجيد القوة المادية والاستخفاف بالجانب الروحي وأن ثقافته ثقافة عوراء وعرجاء وأنها لا تصلح نموذجاً يحتذى وكان يرى أن الإسلام هو الحل لإنقاذ البشرية من ذلك الخلل فقد كان متأثراً بحالة الغرب في فترة ما بين الحربين الفظيعتين وبما بعد الثانية مباشرة. إن محمد أسد حين اكتشف الإسلام وآمن به رأى أنه بهذا قد انتقل إلى عالم آخر مختلف كليا عن العالم الذي انتقل منه لقد تصور العالم ضفتين متقابلتين يفصل بينهما برزخ عميق ومخيف وأن العبور من إحداهما إلى الأخرى يعني القطيعة النهائية مع الضفة الأولى فيقول في كتابه (الطريق إلى الإسلام): «كانت فكرة اعتناق الإسلام تمثل لي عبور قنطرة فوق هاوية تفصل بين عالمين مختلفين تماماً كنت أعي تماماً أنني لو اعتنقت الإسلام لاضطررت إلى خلع نفسي نهائياً من العالم الذي ولدت ونشأت فيه ولم تكن هناك حلول أخرى» ويقول في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق): «إن الإسلام ليس اتجاها روحيا يمكن تقريبه من الأوضاع الثقافية المختلفة بل هو فلك ثقافي مستقل ونظام اجتماعي واضح الحدود فإذا امتدت مدنية أجنبية بشعاعها إلينا وأحدثت تغييراً في جهازنا الثقافي وجب علينا أن نتبين لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكاناتنا الثقافية أو يعارضها وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلامية فعل المصل المجدد للقوى أو فعل السم» إنه يريدنا أن نكون متميزين وأن نستفيد من ثقافة الغرب بما يخدم هذا التميز لكن الكتاب والمفكرين الإسلاميين أخذوا جانباً من الفكرة وأهملوا الجانب الآخر فركزوا على فكرة السم الآتي من ثقافة الغرب فجاء هذا التركيز بنتائج مدمرة لأنه برر إغلاق الأبواب وأتاح سد المنافذ وسوغ الانكفاء على الذات وأدى إلى تضخيم دعاوى الاكتفاء فأبقى ثقافتنا ممحلة وعاجزة عن مواكبة حركة الازدهار العالمية التي تنشط في كل الاتجاهات وتتفاعل في كل أرجاء الدنيا حتى لم نعد قادرين بأقطارنا الستين على محاكاة بلد صغير مثل سنغافورة. أما العامل الخامس الذي جعله ينادي المسلمين بالتحيز المطلق لثقافتهم والتميز أو الانفصال عن ثقافات الآخرين فهو أنه كان يحدوه أمل عظيم بوحدة المسلمين وكان يطمح بأن يتحد المسلمون بعد تحررهم من الاستعمار وأن يعيدوا مجد الإسلام وكان يرى أنه لن يجمع المسلمين ويوحدهم سوى الالتفاف حول فكرة محورية واحدة تملؤهم بالاعتزاز والاستعلاء والشعور بالتميز وبالاكتفاء وأن هذه الفكرة المحورية لن تكون إلا الإيمان بأن الإسلام هو الحل ليس لمعضلات المسلمين فقط وإنما لمعضلات العالم أجمع وقد عاش محمد أسد رحمه الله حتى شهد عهد الشتات فأصيب بالفجيعة حين رأى المسلمين ينقسمون إلي ستين دولة!! بعضها يقل عدد سكانها عن سكان مدينة أوروبية واحدة!! لقد يئس من العمل الجمعي فغاب عن المشاركة العامة وأغرق نفسه بالعمل الفردي يترجم نصوص الإسلام الى اللغات الأوروبية. أما العامل السادس الذي أثر على اتجاهه فهو أنه كان شديد الاقتناع بوجود تغاير نوعي بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية وأنهما لابد أن يتكاملا لا أن يتماثلا فهو يرى الأولى ثقافة دنيوية محضة فهي تجعل الحياة غاية آنية، إن الذي يهمها في نظره هو (هنا والآن) وهذه الرؤية لا تتفق مع الواقع فالغرب ما زال متمسكا بدينه بل يزداد تمسكا به كلما تضاعف ازدهاره وبالمقابل فإنه يرى الثانية ثقافة دينية أبدية فهي تعتبر الحياة الدنيا وسيلة ومعبراً للحياة الأبقى لذلك فهو يؤثر ثقافة الدين على ثقافة الدنيا لأن: «الآخرة خير وأبقى» فهو يريد أن يبقى المسلمون متميزين حتى بلباسهم!! يستفيدون من ثقافة الغرب في الحدود التي لا تمس هذا التميز لكن دعوته فهمت كدعوة إلى القطيعة التامة وإنكار الإيجابيات الكثيرة والعظيمة ومن هنا جاء الخلل والإمحال فالحقيقة أن الدين لا يزدهر إلا بإزدهار الدنيا بما فيها من فكر حي وعلم دقيق ومهارة فائقة وموضوعية صادقة وحكمة ناضجة وتدبير عادل وحركة ناشطة وعمل منتج. ونحن نرى الغرب يلتحم بدينه كلما تعاظمت دنياه فلا انفصال بين الدين والدنيا. أما العامل السابع الذي نفره من الثقافة الغربية فهو أنه كان مشمئزاً من كبرياء الغرب آنذاك وتباهيه بثقافته فجاء الرفض العنيد رداً على ما عده استعلاء وغطرسة فاندفع ليعارض ما يعتبره: «الوهم الخادع الذي يصور أن الخبرات الثقافية الغربية ليست فقط أسمى من سائر الخبرات الثقافية في العالم كله بل لا تتناسب معها إطلاقاً وبالتالي أن طريقة الحياة الغربية هي النموذج الصحيح الوحيد الذي يمكن أن يتخذ مقياساً للحكم على طرائق الحياة وأن كل مفهوم ثقافي أو مؤسسة اجتماعية أو تقويم أدبي يتعارض مع النموذج الغربي إنما ينتمي حتماً إلى درجة من الوجود أدنى وأحط». لقد كان يرى أنه لا مبرر لشعور الغرب بالتميز الثقافي وان عليه ان يعترف بأن الحياة البشرية تعج بتنوع الثقافات وان بعض هذه الثقافات تتفوق على الثقافة الغربية في بعض الجوانب وان الحضارة الإنسانية قد شاركت في تطويرها ثقافات كثيرة لم تكن ثقافة الغرب سوى إحداها وأنه ليس من حق الغرب ان يفخر كل هذا الفخر ولا ان يدعي التميز كل هذا الادعاء هذا ما كان يؤكده محمد أسد رحمه الله ولكن أية دراسة موضوعية منصفة لابد ان تنتهي إلى ان الثقافة الغربية ثقافة استثنائية وانه لولاها لما عرفت البشرية هذه التغيرات النوعية في كل جوانب الحياة الإنسانية وقد أفردت لهذا الموضوع كتاباً كاملاً سوف يصدر قريباً إن شاء الله. إن هذه المؤثرات السبعة قد تضافرت لتجعل محمد أسد ناقداً جذرياً لثقافة الغرب كما جعلته صارماً في الدعوة إلى تميز المسلمين بثقافتهم وانفصالهم عن ثقافة غيرهم ومن البديهي انه لا يجهل المزايا الكثيرة والعظيمة للثقافة الإنسانية المعاصرة وانه لا يرى إمكانية الاستغناء عنها لكنه كان يرى ان مزاياها واضحة لا تحتاج إلى اعتراف أو تنويه فركز على نقائصها لأن ذلك في نظره يعزز ثقة المسلمين بأنفسهم فيعملون على استعادة وحدتهم وإعادة بناء مجد الإسلام الذي أضاعوه باختلافهم، فمع كل النقد الجذري الذي وجهه إلى ثقافة الغرب في كتابيه (الإسلام على مفترق الطرق) و(الطريق إلى الإسلام) فإنه في كتابه (منهاج الإسلام في الحكم) حين أراد ان يؤكد إمكانية تحويل مبادئ الإسلام العظيمة إلى واقع حي معاش مزدهر يهتم بالإنسان ويعترف بحقوقه وينمي إمكاناته ويقيم العدل ويؤسس العلاقات الاجتماعية والسياسية على القانون وعلى المؤسسات وليس على الارتجال الفردي فيمنع الاستبداد ويحفظ الحقوق ويكفل الحريات ويلتزم بالمساواة ويحترم المال العام وينشر السلام انه حين أراد ذلك لم يجد سوى التأكيد على أهمية الآليات التي ابتكرها الغرب مثل: توزيع السلطات وتأكيد دولة القانون وتقنين الأحكام الشرعية لئلا تبقى مرتهنة بالأمزجة الشخصية كما أكد على ضرورة توفير الشفافية وضمان حرية الرأي والالتزام بمبدأ الانتخاب لشاغلي السلطتين التشريعية والتنفيذية فهو بهذا يؤمن بالإسلام شريعة وعقيدة وبالليبرالية وسائل وآليات. لكن أكثر الدارسين والمتابعين اهتموا بكتابه (الإسلام على مفترق الطريق) وكتابه (الطريق إلى الإسلام) فهما الكتابان اللذان كان لهما رواج واسع كما أنهما الكتابان اللذان كثر الرجوع إليهما والنقل عنهما من قبل المفكرين والكتّاب الإسلاميين الرافضين للثقافة الغربية أما كتابه الثالث (منهاج الإسلام في الحكم) فمن النادر ان نجد نقلاً عنه أو رجوعاً إليه مع أنه الكتاب الذي يمثل الشق الثاني من فكره وهو يفتح الأبواب واسعة للاستفادة من الثقافة الغربية واستخدام آلياتها التطبيقية الناجعة.