لا يحتاج إدوارد سعيد إلى تقديم، فليس هناك من لم يعرفه، وليس هناك من لم يسمع عن كتابه «الاستشراق» (1978)، وهو الكتاب الذي كشف عن الآليات التي يوظفها الغرب ليبلور هوية واضحة، تلك الآليات التي تعتمد أساساً على اختراع أو تنميط ما يسمى «الشرق». وربما تكون المراجعة الذاتية للأفكار هي إحدى سمات سعيد، فقد كان الجدل الذي تثيره آراؤه النقدية (والهجوم أيضاً) يتحول على يديه إلى مادة جديدة. فعلى سبيل المثل، قام عام 2000 بإصدار كتابه «تأملات في المنفى» الذي جمع فيه دراسات قيِّمة منها دراسته عن ردود الفعل التي أثارها كتاب «الاستشراق». وتضمن الكتاب أيضاً دراسة نشرت من قبل في الكتاب الذي حرره هال فوستر عام 1998 وعنوانه «الضد جمالي». ضم هذا الكتاب دراسات قيمة من نقاد مختلفين في محاولة لتوضيح معنى ثقافة ما بعد الحداثة. الكتاب يغري بالاستفاضة في الحديث عنه، إلا أنني أود تناول ما طرحه سعيد في دراسته وعنوانها: «الخصوم، الجمهور، الدوائر والمجتمع». يفند سعيد في مقاله ما وصل إليه حال النقد الأدبي في شكل خاص والعلوم الإنسانية في شكل عام في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وبقراءة متأنية يبدو أن هذا الحال لم يعد اختصاصاً أميركياً فقط، بل صار حال النقد الأدبي عموماً (العولمة؟). يبدأ سعيد مقاله بطرح ثلاث أسئلة جوهرية - طالما طرحت - ليتحول المقال إلى محاولة إجابة: «من يكتب؟ من أجل من تكون الكتابة؟ في أي ظروف؟». يرى سعيد أن هناك ثلاث إشكاليات تتحكم في حال النقد الأدبي أو بالأحرى في سياساته. تتجلى الإشكالية الأولى في فكرة تشكل المجال المعرفي بكل ما يستلزمه من إتقان للمنهج والخطاب في الشكل الذي طرحه ميشال فوكو في كتابه «طبقات المعرفة». إنه التعلم الذي يعني ضرورة قبول السلطة في هذا المجال، وبالتالي يبدأ مصطلح «الخبير» في الظهور، ولكل مجال خبراؤه والمتخصصون فيه. فالخبير في مجال علم الاجتماع لا يمكن أن يكون خبيراً في العلوم السياسية أو النقدية. هكذا ينغلق كل مجال على نفسه ليلوك لغته ومفرداته وخطابه للجمهور نفسه، ويحرص على عدم السماح للخصوم - غير المخولين - (خبراء المجالات الأخرى) بدخول المجال. ويضرب سعيد مثلاً بمدرسة النقد الجديد الأميركية التي تأسست بهدف إتاحة النصوص للجميع وسارت المدرسة الفرنسية (رولان بارت) على النهج نفسه إلا أنهما انتهتا معاً إلى الغوص في لغة نقدية لا يفهمها إلا الغيتو النقدي فقط. ومن هنا كانت المفارقة التي تزداد حدتها بإدراك أن هذه اللغة «المتخصصة» تتنامي بمساعدة المجال الأكاديمي (ذلك الكم الهائل من الدراسات الأكاديمية المتخصصة الموجهة الى الجمهور نفسه)، وهو ما يؤدي إلى طرح إشكالية إنتاج المعرفة. هل تنتج المعرفة بشكل عام وكوني أم أنها تحتاج إلى دوائر متخصصة ومغلقة. ويحاول سعيد (أقصد بالمحاولة أسلوب سعيد في تطوير الجدلية التي يبدأ بها) أن يجد مخرجاً من هذا الغيتو المتخصص «الخبير» عبر تبني نظرية المتلقي، خصوصاً تلك التي طرحها ستانلي فيش في ضرورة إنشاء ما يسمى مجتمع تفسيري، عبر توظيف الإقناع وليس تقديم الدليل العلمي. ومن هنا ينتقل سعيد إلى أثيره المفضل أنطونيو غرامشي الذي يخلص إلى أن الواقع هو نتيجة الفعل الإنساني، وعليه يمكن النظر إلى النص بوصفه حاملاً للواقع التاريخي. تبدو آراء فيش وغرامشي (ويستعين سعيد أيضاً بالايطالي فيكو) وكأنها تحاول كسر العزلة المفروضة على النقد الأدبي، تلك العزلة التي جعلته علماً وديعاً هادئاً غير مؤذ ومنفصلاً عن المجال السياسي والاجتماعي، فلا يهدد السلطة في أي شكل. الخبرة ونقيضها تؤدي الإشكالية الأولى المتعلقة بسياسات النقد الأدبي - فصل المجالات - إلى الثانية وهي متعلقة بسلطة الخبير في داخل المجال. فبمقدار ما تسمح الخبرة بممارسة منهجية صارمة في التحليل، تسمح أيضاً وبالقدر نفسه بمنع ذلك. فمثلاً تؤسس السلطة الاجتماعية للخبراء نصوصاً عدة باعتبارها النصوص التأسيسية في الأدب، ولا يمكن إعادة طرح التساؤل عن أسباب تقديس تلك النصوص دون غيرها، وهو ما يستتبع تأليه مؤلفيها (ومن هنا تنتشر كتب سيرة الكثير من الكتاب بلا مبرر حقيقي لذلك سوى إجازة الخبراء لهذا الكاتب دون ذاك)، وفصلهم عن السياق التاريخي والسياسي. وهنا لا بد من تأكيد سياق العالم العربي الذي يندفع - بغض النظر عن توافر القصدية من عدمها - إلى ذلك المسار ليتم ترسيخ سلطة بعض الأفراد في كل مجال، ويتحول قبول أفكارهم إلى خطوة واجبة قبل الالتحاق بالمجال. وهو ما يظهر أيضاً بشكل آخر في المقالات النقدية. فبعض الكتّاب لا يعتبر أنه دشن بوصفه كاتباً إلا عندما يقوم أحد «الخبراء» بالكتابة عنه، إلى درجة أنه قد يضع مقتطفات مما كتب عنه على ظهر الغلاف، كأنه يؤكد للقارئ أنه حصل على تصريح المرور. أما الإشكالية الثالثة، التي تشكل عصب سياسات النقد، فهى متعلقة بالظروف التي يتم في سياقها النشاط التفسيري النقدي. ويؤكد سعيد أن هذه الظروف غالباً ما يتم تجاهلها وإغفالها بحيث لا تدخل في الدائرة النقدية. ويضرب مثلاً باستدعاء بعض النقاد «الخبراء» عند مناقشة بعض القضايا العامة من أجل محاولة الارتقاء بالشكل أو حتى من أجل الحصول على التصريح (في العالم العربي تسمى: تدجين). ثم يستطرد سعيد في فكرة الظروف لينتهي إلى أن العمل النقدي يتوجه أحياناً إلى «زبون»، كأنه خدمة ذات سعر (ليس بالمعنى التجريحي الذي درجنا على استخدامه في العالم العربي)، بل يقصد التمويل المباشر والمعنوي. فمثلاً، عند صدور كتابه «تغطية الإسلام» سأله مدير الندوة: «بما أنك ترى أن تغطية الإسلام في الإعلام الغربي ليست جيدة، فما الذي تقترحه إذاً لتوضيح المصالح الاستراتيجية لأميركا في المنطقة؟»... يشرح سعيد أنه أصيب بالكثير من الإحباط لأن كتابه لم يتناول ذلك أصلاً، بل انه خلص إلى أن «الإسلام» ليس المعطى الذي يمكن تغطيته في وسائل الإعلام لأنه مجرد تجريد أيديولوجي. وفي إجابته أوضح سعيد أن الإعلام عليه إما أن ينقل الأخبار أو يحللها، ولا يتوقع منه أن يكون مسانداً لمجلس الأمن. ولكن بالطبع لم ينتبه أحد الى تلك الإجابة، مما يعني - أي عدم الالتفات - أن الإعلام قد استوعب بصمت وهدوء المصالح الأمنية للسلطة. ويخلص سعيد إلى فكرة جدلية مفادها أن النشاط النقدي يجب ألا يتأثر بانتسابه المؤسسي على رغم أن هذا الانتساب هو الذي يجعل فكرة «الخبير» ممكنة. أى أن العلاقة المؤسسية يجب ألا تكون سبباً في نزع مخالب الناقد. أما النقاد الآخرون الهادئون غير المعترضين، فيرى سعيد أنهم يكتبون للجمهور نفسه المكون من زملائهم وطلابهم، وأحياناً للمجالس التنفيذية ولوسائل الإعلام، وهو جمهور يرى أن هذا الوضع الذي يبقي على العلوم الإنسانية والأدب والثقافة بمنأى عن السياسة مثالي، وهو المطلوب: عزل النقد الأدبي حتى يتحول إلى ما يشبه الغيتو المغلق الذي يتبع سياسة عدم التدخل، «لندعهم يحكمون وسنقرأ نحن الأدب». إذا كانت فكرة التمثيل - كما ظهرت منذ أفلاطون وحتى أورباخ (في كتابه الشهير «المحاكاة») - مرتبطة بالمعرفة الاجتماعية المشتركة فبالضرورة أن المجال الاجتماعي والشخصي والسياسي يظهر في ظل المجال الأدبي، أي في ثنايا النص الأدبي. إلا أن السلطة المؤسسية سعت إلى فرض حدود صارمة - قبلها النقاد بدعة وهدوء - على المجال الأدبي. فالناقد ليس عليه إلا قراءة علامات التمثيل الأدبي في النص الأدبي، أما المجالات الأخرى فلها خبراؤها. إنها عملية تفريغ سياسي كامل لمنهج النقد الأدبي من ناحية وإقصاء - إن لم يكن تهميشاً - للمشتغلين به من ناحية أخرى. كأن مشروع الحداثة والتنوير أدى إلى تشكيل مجتمعات منغلقة، أشبه ما تكون بالمجتمعات الدينية، ومن هنا يحفز إدوارد سعيد كل ناقد على إنشاء مجتمعات علمانية بديلة، وذلك عبر رفض الانصياع للعزلة في مجال معرفي بعينه، وعبر تطبيق منهجية المجال - في العلوم الإنسانية - على نصوص بديلة مثل التصوير الفوتوغرافي ووسائل الإعلام وكتابة التاريخ التي لا تهمش تجارب الآخر. «ما بعد الحداثة» إذاً من وجهة نظر إدوارد سعيد تعني تكسير الحدود، بل اجتراحها في مقاومة للعزلة والتهميش. وهي النتيجة التي كان وصل إليها في كتابه (في الأصل محاضرات مجمعة) «صور المثقف» حيث أكد أن الناقد (المثقف) لا بد من أن يكون مقلقاً للراسخ، عبر طرح أسئلة «مزعجة»، وعبر طرح المسكوت عنه، وليس متوقعاً منه إطلاقاً أن يكون داعماً للسلطة. وعندما يتحدث سعيد عن السلطة فهو لا يقصر المعنى على السلطة السياسية فقط. يبدو أننا في أشد الحاجة لإعادة النظر في موقع الناقد الآن، سواء كان «خبيراً» أو وديعاً مهمشاً، كما أن التساؤل عن الظروف التي تسمح بممارسة النشاط النقدي (المؤسسة، الهدف السياسي، الجمهور المتخيل، الخصوم الوهميون، الدور، الرسالة، معنى النقد، مكان النص، ...) يبدو بمثابة الباب الذي سيكشف عن التعطل والتكدر والانعزال والتهميش الذي يمارسه الناقد على نفسه، وكأنه استوعب درس السلطة فيعيد إنتاجه بنفسه.