كل جاهلية هي في حقيقتها ركام من التحيزات، ولا ينقض أبراجها إلا الأسئلة. والتحيزات أنظمة عقل تتناسخها المجتمعات بالمحاكاة لأن ظاهرها ثقافي تتشربه العقول بالانحياز والتعود، وباطنها جاهلي متعصب غير محايد. ومن أكبر المعضلات في هذه المسألة أن الأنظمة التي تتوجه إليها آليات التغيير مأسورة، العقول مأسورة، والعقل بحاجة إلى فهم نفسه وقوته الهائلة ليستمد طاقته المخلصة من نفسه. تناسخ التحيزات الذهنية -في ظني- تصفه الآية الكريمة: «ولقد أضلَّ منكم جِبِلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون». هناك تناقض بين هذا التناسخ وقوة العقل، يشتد هذا حين يضعف هذا، ونفي العقل في الآية الكريمة يمكن أن يفهم على أنه مطابق لوقوع العقل في فخ التحيز لما يعتاده أو يظنه أو يتصوره أو يعتقده، وعدم قابليته بالتالي لتلقي الفكرة المخلصة. على قدر ما العقل صانع للقناعات فإنه أيضاً طارد للقناعات، لكن ذلك لا يحدث في العادة إلا في حالة واحدة، حين يحاكم القناعات ويفحص تماسكها بالنظر والأسئلة، وإلا فهو الحر المستعبد حتى يفيق. هذه حالة مشابهة لحالة الجنون، الجنون تعطيل لقوة العقل وتحيز العقل أيضاً تعطيل لقوة العقل. حين قال إبليس: «أنا خير منه» كان ذلك تحيزاً ذهنياً، لكن هل ندرك حجم التبعات التي ترتبت على ذلك التحيز الظالم القديم؟ أنا أؤمن بالتفاوت بين التحيزات الذهنية، لكن لابد من تفكيكها بالأسئلة، وتحيز إبليس هذا كان أزمة عقل وأزمة تصور لقيمة النفس. لكن أزمة تصور القيمة هي الكارثة التي ولدت أخواتها. أزمة القيمة في النفس جذر نزعة الاستعلاء والكبر. هذا من أخطر التحيزات الذهنية لأن العقل في حيز تأثيرها يتحول إلى متأله منازع، وهو ما حدث في حالة إبليس. إنه كان ينازع الكمال المطلق في كماله، ويرد على الله تعالى الأمر «أأسجد لمن خلقت طيناً»، كيف يحدث هذا؟ أنا لا أقول إن كل التحيزات الذهنية بهذه الصفة، لكنها كلها ضلالات ثقافية وأحياناً ضلالات فهم ومواطئات واعتياد. إذا كان من حقنا أن نفترض السؤال التالي: هل أزمة إبليس كانت أزمة علم فقط؟ فإننا سنتبين أن أزمة العلم -الجهل- لا يمكن أن تكون تحيزاً ذهنياً بأي صورة من الصور، هي فراغ ذهني وليست تحيزاً ذهنياً، والجهل محايد بهذا الاعتبار. إن الفعل المترتب على الجهل لا يتوجه إلى قصد استعلائي وهو كثيراً ما يكون في حسن النية وخطأ الطريقة، ولذلك فالجاهل يرجع إذا علم. تحيز إبليس كان أول تحيز ذهني ترتبت عليه تبعات كبيرة، وكان يمكن أن ينقضه انفكاك العقل عن اغتراره بفهمه أو رأيه. ما كان هناك جهل قدر ما كان هناك انشغال برؤية النفس وبنزعة متحيزة، لكن كيف يمكن أن ينفك العقل -عموماً- عن اغتراره بفهمه؟ فقط بالسؤال عن وجه اليقين فيما يظن أو يفهم. إبليس لم يعد على نفسه بالسؤال: لماذا هو خير من آدم عليه السلام؟ والله تعالى أمره بالسجود ولم يقل له إن آدم خير منك، لكن التحيزات الذهنية تصنع تصوراتها وتفسيراتها الخاصة ما لم تورد الشك على نفسها بالأسئلة لتتواضع، وتنظر في مبررات طبيعتها الصلدة المنكفئة غير المحايدة.