نعم، البغضاء ضدها الرفق، ليس المحبة ولا القبول ولا الحياد -على وجه التقييد-، والمقابلة بين المفاهيم في العادة يمكن أن تكون فيها استثناءات؛ لأن فكرة المفاهيم هي تمامًا فكرة الدوائر المتداخلة. الحد في المفهوم حد نطاق، أي أنه حدٌ متسع ليس حاسمًا كما هو الحسم الرياضي في المفاهيم الطبيعية، ولذلك أقول بمقابلة الرفق للبغضاء، أي أن غياب الرفق يعني البغضاء وغياب البغضاء يعني الرفق بالضرورة، إنه امتناع لوجود، ووجودٌ لامتناع. والرفق إذا حاولنا إيقاعه في اشتراطات محددة إن يكن في معناه أو اشتراطات تحققه فإننا سنكون مباشرةً في منافاةٍ مع شرطه الذي هو عدم الشرط. الرفق يعني الرحمة بغير اشتراطات، وهو يعني اللين بغير اشتراطات، وهو يعني أن يتحول العقل إلى حالةٍ من السلام المهيمن، حين يكون العقل عقلًا مسالمًا يكون عقلًا رفيقًا وبالتالي فهو عقلٌ غير مُبْغِض، البغضاء في الحقيقة ليست عملًا عاطفيًا، إنها عمل مترتب على الأفكار، والأفكار سليلة عقل أو هي عملٌ ذهني، وبالتالي فالبغضاء عملٌ ذهني، وبنفس الاعتبار نتحدث عن الرفق. المعضلات كلها -حتى السياسية- جذرها المر الذي يرويها هو العنف والبغضاء، وهي إذًا ضلالات في الأفكار يتحول معها الواقع إلى واقعٍ بائس، ومن أشد صور العنف أو البغضاء أثرًا الظن أنَّ ذوات الأشخاص أولى بالعناية والتفضيل من مصالح الذوات وأنها شرط استقامة الواقع. لماذا أقول: إن أشد العنف ما كان ناتجًا عن أزمات شخصية قد تجتاح معها مجتمعات كاملة؟ لأن الميل إلى التفرد والاستئثار يكون مقاومًا في العادة لفكرة التغيير والتحول والاستبدال، ومن ذلك تحتدم هاتان القوتان لتتحولا إلى طوفانٍ عارم من العنف ونزعات الغلبة والاستعلاء وتثبيت الواقع. حين تكون أي فكرة فكرة عامة محايدة نزيهة عادلة وتتحول إلى فكرة عقل عام وتتحول إلى وقائع فإنها تصطدم مباشرةً بطبيعة العقل الأناني المتوجس، وبطبيعة العقل الذي يظن أنه هو المصلحة وأن ما يراه هو المصلحة، وقد تبين أن هذه للأسف نزعة أنانية شديدة الخطورة «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». ليس هناك عصمة للأفكار إلا بسندٍ من اليقين، لكن آراء الناس لا ينبغي أن تأكل بعضها أو تعادي بعضها، هذا لا يمكن أن يحدث إلا حين يكون العقل عقلًا متحررًا من البغضاء ومن تصور القطع بالصواب. القطع بالصواب معضلة تكون نتائجها أحيانًا كارثية حتى في مستوى المجموع ليس الأفراد فقط. لقد أعجبني مقال (القرد الناسك) للكاتب الكبير د.جلبي الذر نشرته «الشرق» يوم الخميس الماضي، وأكثر ما يدهش في كتابة د.جلبي أنه يعرض الأفكار الكبيرة في أمثلة قريبة المتناول، إنه يطوِّع الفكرة في المثال تطويعًا؛ على أنني أتصور أن محور ارتكاز مقال د.جلبي كان: اختلاط الصورة بالمعنى حتى يضل المعنى في دثارٍ غير دثاره. هذه صورة من صور البغضاء، إنها تسخر عقلها المُبغض لتقدم العنف في صورة غير صورته، وأخطر ما تكون البغضاء حين تتخذ الرفق الذي هو ضدها ذريعةً لبلوغها المنتهى من أغراضها العدوانية.