وقد يكون الكلام في ذلك مملا، لكثرة ما قيل فيه حتى غلّبت المقولة على حجم الفعل الأصلي، ولكنا سنحاول تناول القضية بتجرد. فالحقيقة أن السعودية لم تعرف الدراما المتكاملة الأركان والأسس، وحتى يومنا هذا، وكانت العملية الفنية خلال الخمسين سنة الماضية عبارة عن تقليد بالصوت في البداية، ثم تقليد بالشكل بعد أن حضر التليفزيون، وكان الغرض منها الضحك، لا غير. ولكن العملية لم تنتج فنا ملتزما، ولا ثقافة، ولا مسرحا، ولا دراما. وقبل (أم حديجان)، كانت الحارات، لا تخلو من أشخاص يمتهنون التسلية وسط المجالس، يقلدون حركات هذا، وصوت تلك، كنوع من الترفيه، بمسمى (الطنازة، أو العِجبة)، التي تعتمد على شخص ظريف يهوى مراقبة الآخرين، وتتبع ملامحهم، وقدرته على تقمص أشكالهم، وحركاتهم، ولزماتهم، وأصواتهم، وتضخيم عيوبهم. وعند بدء الأعمال التليفزيونية، التي لم تكن تعتمد سوى على الموهبة الفطرية، ودون أي تعليم، أو حتى تهذيب، نشأ بيننا بعض المحاولات التمثيلية، لا تختلف كثيرا عن (العِجب، والطنازة)، وإنما يكون لها ديكور، وملابس، وأدوار، فرأينا محاولات (مشقاص)، و(فرج الله)، و(حظيظ). وللأسف فإننا وحتى الآن نشاهد أغلب الأعمال لا تختلف عن السابق، ولكنها ظلت المصدر الوحيد للضحك المحلي الصنع، مما جعل الشباب والصغار يتجهون لها للحاجة، وليس للجودة أو الفائدة. وقد ازدهر هذا النوع من الأعمال الدرامية الركيكة خلال الثلاثة عقود الماضية، بتردي مستوى الدراما المصرية، بسبب موجة المقاولات، بعد أن كانت المسارح والدراما المصرية صروحا وعلامات فارقة، ومرجعية تعليمية لكل فنان عربي. وكذلك بتدني مستوى الأعمال الخليجية، والكويتية بالذات، وتوجهها للتهريج وتقمص العاهات، والصراخ، والعنف، والتقليد الممل، ورمي النكات الفجة، والإيماءات المخجلة، دون التزام لخط درامي واضح، وبعد أن كانت زاهية في فترة (زكي طليمات)، وإشرافه على المسرح الكويتي. التأثيرات الخارجية كان لها دور عظيم، والقدرة المادية لبعض الممثلين السعوديين، جعلتهم مؤثرين في السوق، يفرضون رؤيتهم بصرف النظر عن الجودة. فأصبح المعيار في الدراما السعودية «إذا فرضنا أنها دراما» شابا متحمسا، يملك الموهبة الخام، قليل أو منعدم التعليم الأكاديمي الفني، وشركات فنية جشعة، تتكسب من شهرته، بصرف النظر عن المستوى، أو المردود، مما خلق بيننا (طاش ما طاش)، بقوالبه التقليدية المكررة، التي ضحكنا عليها كلنا، ولكنها لم تؤصل بيننا إلا العنصرية، والفجاجة. وأتى (دنحي)، و(غشمشم)، و(مناحي)، بنفس القيم والمفهوم، وبنفس المردود، والطنازة، فكأن الفن لا يكون إلا بتقليد الآخرين وتحقيرهم. وأنا لا أعيب على جهود هؤلاء الممثلين، فلقد حاولوا الوصول بعصامية تحسب لهم، ولكنها لا ولن تحسب للفن والذائقة. ولا أشك في أن وزير الإعلام يرغب في خلق دراما ومسرح سعوديين، أصيلين، وإثرائيين، وبعيدين عن التهريج، ولهما قواعد ثابتة، وأصول متينة تحترم القيم، وأن يكون تأثيرهما في الأجيال الحالية والقادمة محسوبا. ولكنه للأسف يقف مكتوفا أمام العادات والتقاليد، ولا يجد من حوله الأشخاص القادرين بعلم وتميز على بلوغ الهدف، لأن أغلب الموجودين حوله هواة، أو منتفعين بالفن. الفنان، الذي لم يدرس ويتدرب على فنون المسرح، والذي لم يتقن ويجسد مسرحيات العالم المتقدم، كبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والمسرح المصري الأصيل أيام (الريحاني)، و(جورج أبيض)، ومسارح (الرحابنة)، و(الماغوط)، السياسية، سيظل هاويا، لا يعرف أين يتجه. الممثل، الذي لا يتفرغ، ويلتحق بكلية فنية، أو معهد عال يُلقنه أصول وأسس الدراما، والخطابة، وقراءة السيناريو، والالتزام، ومقابلة الجمهور، والوقوف على المسرح، وخلق الشخصية، وعدم تعمد التقليد، لا يعتبر ممثلا، وبالتالي لا يرتجى منه فنا راقيا مؤثرا في رفع ذائقة المجتمع والأجيال. وزير الإعلام يجب أن ينتشل بوادر ما يسمى بالدراما السعودية، بإنشاء كلية أو معهد عالٍ للتعليم الفني، وأن يجلب لها كبار المعلمين الأكاديميين العالميين، و(ليس النجوم)، للتعليم فيها. كلية ستُخرجُ لنا المُخرج المتعلم، والكاتب الواعي المثقف، والسينارست المُحترف، والمصور المُبدع، ورجل الإضاءة، والماكياج، والملابس، وغيرهم ممن يستلزم لصنع الدراما. وليس عيبا أن نبدأ من الصفر، وأن ننتظر لسنوات طويلة، حتى نجني الثمر. فنانونا الحاليون، يحاولون جهدهم، وتصعقهم الشهرة، ويمتهنون الارتجال، ويستخفون بالواقع، حتى أن بعضهم لا يؤمن بأهمية النص، والسيناريو، والإخراج، والالتزام، ويعتقد أنه يرتقي فوقها جميعا. ولذلك فلو مثل ألف تمثيلية، فستجده هو نفسه، (المتطنز)، الذي لا ننكره.