يقول مدير المسرح الحر الفرنسي اندريه انطوان بوجوب كينونة المثل المطلق الذي يتطلع اليه الممثل وهو أن يصبح آلة موسيقية ضبطت أوتارها ضبطاً رائعاً ليعزف عليها المؤلف كيفما يشاء، يكفي أن تليّن جسده ووجهه وصوته تربية فنية مادية بحتة وأن تمكنه تربية ذهنية مناسبة من فهم ما يكلفه المخرج بالتعبير عنه من غير أن يسأل لماذا تُطلبْ منه هذه المشاعر أو تلك. من هنا يقول الراوي أيها السادة ومن هذه الرؤية المطروحة في القرن التاسع عشر الميلادي نعبر للحاضر ونستدعي مثلا حياً قد يصور هذه المقولة بشكل حاد وواضح استطاع أن يلفت الانتباه بل وأن يكون علامة بارزة في الدراما المحلية فناننا خفيف الظل ناصر بن قاسم القصبي حيث (دوزن) ادواته الفنية وضبطها بشكل عجيب مما سهل على أي مخرج في أن يمتح من بئر عطائه زلال الاداء الدرامي ليقدمه على طبق من فرح لكل حزين ومستبشر للكبير والصغير للمهموم وخالي البال للعرب والعجم فحضوره (الطفلي) يجعل دخوله للقلب من اقرب الاوردة، لم يكن ناصر طارئاً على الدراما فحكايته مع التمثيل قد حُبكت منذ تم قطع حبله السري حيث لم تكن صرخته الأولى بعد الولادة سوى مفردة أولى تقول اليوم قد بزغ على الدنيا (فنان) ولادته في العاصمة الرياض لم تكن في مستشفى خمس نجوم بل بمنزل متواضع في حيّ الملز وهو ما يعني انطباع سلوك عبثي مغرق في دفء إنساني ليبدأ تشكيل طفل لن يكبر ابداً هذا غير تبرعمه في بيئة أسرية متوازنة حيث (أم) خفيفة الدم تحب النكتة وأب جاد جداً صارم حاد ثم طغيان الأحلام البسيطة حيث لم يتجاوز حلم والدته حتى وفاتها مؤخراً (رحمها الله) عن السكن في بيت طين يضم بجانب غرفاته بقرة حلوباً ودجاجات تنبش الأرض برجليها الم نقل إن الدفء الإنساني قد صاغ قلب صغيرنا المشاكس الشقي بهدوء وخفة دم وهو ماسبب لوالده غيرة ايجابية حين يجبر على العودة من (الصحراء) مكان نزهة أصحابه ليجلب مصدر بهجتهم ذلك الطفل (العيّار) الذي يشغل جلستهم بالضحكات المجلجة فكان قدره أن يكون مزارعاً ينبت الفرح وجالباً للابتسامة حتى وإن كانت من أصعب الطرق وكانت مكافأة الصغير الجلوس مع الكبار لسماع الغناء من حناجر الفرحين، حين كان الأطفال يتسمرون أمام شاشة التلفزيون لمتابعة (ميكي ماوس) و(باباي البحار) وبرنامج الأطفال مع (بابا علي الخرجي) كان الطفل ناصر القصبي يريد رؤية محمد علي كلاي الملاكم الأمريكي المسلم وهو يتقافز كالفراشة ويلسع كالنحلة كما يقول المعلّق إبراهيم الراشد (رحمه الله) فيزيد هذا التعليق من حماس الطفل ومعه يزداد التعلّق بمنطق القوة وسطوة الجسد فكانت حركة ثني اليدين ونفخ عضلات (الباي سبس) أول لزمة تمثيل تنقل ناصر لعالم المدرسة حيث ذُهل مدير مدرسة عرين الابتدائية في حي الملز آنذاك من هذه الجرأة فوافق على الحاقه مع أخويه في نفس المدرسة رغم صغر سنه. وهناك لم يجد نفسه الطالب النجيب بل كان ينفر من التلامذة المتفوقين لاعتقاده بأن التفوق في الدراسة يتطلب جدية شديدة وهو ما لا يتناسب مع (مزاج) ولا رغبة صغيرنا الذي كان يبذل أقل جهد ممكن يضمن الحد الادنى من اجتياز المراحل الدراسية فهو يرنو إلى هدف واضح جداً جداً (سأكون ممثلاً) قالها للجميع، في المنزل والمدرسة وللاصحاب والأقرباء (أنا ممثل) فلا تطلبون منّي غير ذلك..! حسناً سيمثل صغيرنا ولكن أين ومتى..؟؟ لم ينتظر ناصر الاجابة على تلك الاسئلة التي (تدوش) دماغه الصغير فقرر أن يبدأ فوراً بتقليد المعلمين في المدرسة وحين وجد القبول من أقرانه لهذه السخرية المبكرة ايقن بنجاح (الهدف) والمستقبل، لم يكن الأهل بعيدين عن وجبة الفرح اليومية التي يقدمها صاحبنا على طبق السخرية والمرح فأجاد تقليد والده تلك الشخصية الصارمة، ذلك الرجل المهموم ببناء أسرته الصغيرة وتأمين متطلباتها وكان على (الدوام) مشغولاً بأحلامه المشروعة فوجد ناصر الفرصة سانحة ليتقمّص ويحاكي هذه الشخصية المدهشة من وجهة نظره ثم اليس (الأقربون أولى بالتقليد)..؟؟ استحضر الممثل الصغير مفاتيح شخصية والده قاسم القصبي فاجرى عليها (بروفات) كثيرة ليقف بعدها بسنوات طويلة ممثلاً يتلبس شخصيات اخرى عديدة باجادة قلّ نظيرها فدخل قلوب الجماهير بأدائه المذهل لشخوص مركبة ينتقيها بكل حرفنة ومع هذا لم يتغير ناصر القصبي (الرجل الطفل) في براءة قلبه وإنسانيته حيث استمر يزرع الفرح أينما حلّ حتى يومنا هذا.. حانت فرصة العُمر في المرحلة المتوسطة وبالتحديد في ثاني متوسط حيث اختير الفتى ناصر مع بعض من زملائه للتمثيل على خشبة المسرح المدرسي وهنا تعرّف على مفردات مثل (نص، مخرج، ديكور، جمهور، بروفات).. الخ وانهمك في التدريبات اليومية ويالخيبة الأمل لم تعرض المسرحية لسبب ما الأمر الذي خلق غصّة في حلقه كانت بمثابة (بروفة) أولى لغصات وانكسارات مستقبلية سيواجهها بضحكات مجلجة فناصر لا يعرف الا حقول الفرح وابتسامته لا يمكن الا أن تزهر على قسمات وجهه المزروع بفنون السخرية اللاذعة، في المرحلة الثانوية اكتشف سحر الشهرة وجاذبية الفنان حيث الصدفة وحدها كانت كفيلة بانغراسه وجهاً لوجه أمام ممثل شهير هو الفنان سعد خضر سعدون أو (فرج الله) كما يسميه الناس حينذاك بسبب قيامه بدور (العُمر) لشخصية فتى اسمر اسمه (فرج الله)، حين رأى الشاب ناصر القصبي الممثل سعد خضر تسمّر في مكانه وفغر فاه مدهوشاً لرؤيته ولحُسن حظه أن النجم الشهير (سعد) لم يصافحه حينها والاّ انفضح أمر تصلّب (ركبتيه) لهذه المفاجأة غير المتوقعة..!! ولم يدر بخلده يومها أنه سيأتي اليوم الذي ستطبق فيه شهرته الآفاق ويصبح نجماً محبوباً تتوق لرؤيته الجماهير، حينها تأصل حلمه وتأكد له أن قدره الحتمي في أن يكون ممثلاً لا غير وبالفعل حين التحق في جامعة (الرياض) سألوه أي تخصص يرغب في دراسته أجاب على الفور: (أي كلية فيها مسرح) وكانت كلية الزراعة حينها هي المكان المشهور بالنشاط الفني وبالتحديد المسرحي وقد يكون لمفهوم المقولة الشهيرة (إن أول الفنون جميعاً وأكثرها بعثاً على الاحترام هي الزراعة) السبب في هذا التبنّي..!! ما علينا لم يتوان صاحبنا في التسجيل هناك والذهاب مباشرة إلى مشرف المسرح بالكلية (محمد شلتوت) وطرح سؤالاً متلهفاً (هل عندكم مسرح)!! هكذا دون إحم ولا دستور ولا حتى معرفة حقيقة بالمعنى العام لمفردة مسرح أو للقاعدة الفنية (النفخ في الفلوت ليس عزفاً، بل ينبغي تحريك الأصابع) وحين كان صاحبنا يملك الآلة (الموهبة) والأدوات المطلوبة (الفكر والجسد) بقيَ فقط القيام بتحريك الأصابع، وهناك وجد ليس البيئة الفنية فقط بل زملاء سيرافقونه المسيرة المضنية في دروب الدراما وكانت مسرحية (التائه) اخراج المصري (رشدي سلام) وبطولة الفنان راشد الشمراني هي المحك الحقيقي لقدرات الممثل الشاب ناصر القصبي فتعرّف على بقية الشلّة زملاء المرحلة الفنية التي بدأت تتشكل ملامحها لجيل من الفنانين الشباب الذين حملوا مع من سبقهم من جيل الرواد ومازالوا يحملون عبء الفن الدرامي في الوطن بمرحلته الحالية. يقول الراوي ياسادة يا كرام إذا كان لكل إنسان محطات مفصليّة في حياته فقد كان لفناننا الساخر ناصر القصبي أكثر من محطة هامة نوجزها في ثلاث مراحل، أولها زواجه من الكاتبة والقاصة بدرية البشر وولادة ابنه البكر (راكان) فقد كان لهذا الحدث أثر كبير في ترتيب حياته وتحديد ملامح المستقبل بشكل حاد وواضح ثاني المحطات كانت مرحلة (طاش ماطاش) ومنها دخل بكل قوة لعالم النجومية وتفجير الطاقات وغرس اسم لامع على خارطة الفن الدرامي ليس داخل حدود الوطن بل في العالم العربي، أما ثالث المحطات فهي دخول الفنان ناصر القصبي عالم الإنتاج الفني بكل ما فيه من ألاعيب المنافسة غير الشريفة والسباقات (الغامضة) تلك التي لايجيدها صاحبنا للحصول على جزء من كعكة الإنتاج ناهيك عن المجاملات وحرق الاعصاب وجحيم الركض ضد الزمن وحين كان الواقع يتمثل في المقولة أن ليس ثمة نبوغ بلا ذرّة من جنون فقد كان ناصر يمارس كل ذرات الجنون حين ينسى هموم الإنتاج ويقف أمام الكاميرا ليتعاطى الفعل الذي لا يجيد سواه (التمثيل والتمثيل ثم التمثيل)...!! كما أن منطق الحياة يقول بأن المرء لا يحوز الشهرة وهو على سرير من ريش فقد أرّق (الجهل) نوم صاحبنا حين واجه ومازال يواجه ذلك الهجوم الشرس من عشّاق الظلام وكارهي مواجهة الحقيقة وبسبب عدم الفهم المحايد من قبل (البعض) للدور الذي يقوم به الفن في تعرية العيوب فكانت الحرب غير الشريفة تشتعل مع حلول شهر الصوم من كل عام واقتراب مواجهة الذات عبر (طاش ما طاش) لتنطبق مقولة الشاعر الألماني العظيم قوته (البشر يقللون من قيمة ما لا يستطيعون فهمه) ومع كل هذا، ورغم كل ذلك فإن فناننا المبدع ناصر القصبي يواجه قدره بكل وعي وكأنه يقول (إني أسارع إلى الضحك من كل شيء خوفاً من أن أضطر إلى البكاء من كل شيء). قال الراوي يا سادة يا كرام هذه حكاية لم تنته فصولها بعد امتثالاً لقول أحد الحكماء (ليس ثمة نبوغ لم يضطهد) ولهذا سنترك الستار مفتوحاً امعاناً في ابقاء فصول المسرحية بلا نهاية. [email protected]