في الزمن أمس البعيد سُحل فينا ما يشبه الاختلاف .. في ذات الأمس كنا نمحو مخلفات – الطبشور الملون- ولا ندرك أنَّ بدواخل الطفولة فينا ما تمحوه الأيام والجهل .. لم يكن بيننا في ذلك الأمس من نستطيع أن نقول أنه مختلف، كان فقط من نستطيع أن نوجه إليه الاتهام بأنه الأول .. إنه لا يلعب كثيراً .. في الزمن أمس البعيد كنا نشبه إلى حد كبير مقاعد ، وطاولات الطفولة . إذ جميعها إلا ما ندر تتساوى في الرداءة ، والعبث ، وسوء التنظيم . طاولة ، أو اثنتان تشعر بتميزها وبألقها ، ونظافتها .. متيقن منها لقد كانت لطالبين كنا نؤذيهما جداً إذ لم يكونا من هنا .! أمس الرعية الطالبة العلم كانت تتساوى .. الحقيقة أنَّ الرعية الطالبة العلم كانت تتهاوى .! في فوضى المزاج التلفزيوني مصادفة كنت أتابع في برنامج لا أحبه نماذج من الإبداع ، والموهبة لدى أطفال تتنوع أوطانهم، ولم أتعجب حين لم يكن أحد من أطفال الوطن حاضراً معهم .. فالمواهب تلك التي أُختيرت في هذا البرنامج كانت مواهب جمباز ، وموسيقى ، وشطرنج ، وذاكرات رقمية ، وفرق غنائية .. وجميعها لدينا من الخطوط الحمراء التي تثير نزاع القوم ، وسخطهم ؟! أشاهد تخبطات ابنتي ، وبعض – الشخابيط – الملونة التي تثير فزعي، وتجعلني في حالة صمت، وفي آخر سطور صمتي المهيب علامتي تعجب، واستفهام. فأنا أجهل فن الرسم، وكذلك بقية الأسرة الكريمة كما هي معلمتها الفاضلة كما هو العجب كذلك من مواهبنا المحدودة بالرسم، أو الإلقاء والخط ! العالم يتغير، ويتجدد، ويفجر مواهب مختلفة، وابتكارات، واختراعات، ولا نزال نرسم، ونلقي، ونخط .. والسبب من جملة أسباب ..- الخط الأحمر اللعين - أعتقد أنَّ كل طفل يجيء إلى الحياة لا تكن الموهبة عالقة به .. وأجزم أنَّ كل طفل يجيء إلى الحياة الموهبة تموج في طفولته كسمكة ملونة .. منا من يحاول، ويهتم لاصطيادها، وآخرون لا يهمهم الصيد بقدر متعتهم برحلة الغروب. تبقى إذن الموهبة عطاء إنساني جمالي يتكامل في جلبها إلى النور مجموعة من الأفراد ذوو القدرة وهو ما يبّلغ البنيان تمامه . قلت ذات مرة لأحدهم مستقبلاً أريد أن أشاهد ابنتي – مذيعة إخبارية- في هذه القناة، وضربت له أمثلة بمذيعات معروفات . فما كدت انتهي حتى نظر إلي نظرة شعرت أنه يحتقرني ، ويلعنني . فضلاً عن اتهاماته التي جعلتني أُفرغ على نفسي أمنيات ذهب السكوت .! الحقيقة أنّا لا نزال رغم مرور سنين عجاف نسير بذات الطريق . فالديك، والشجرة، والبقرة الحمراء، والنهر، والمسجد التي كانت نماذج للرسم لدينا منذ ثلاثين عاماً لا تزال نماذج للرسم لدى أطفالنا . وإن يرسم ابن ديكاً فقد رسم أب له من قبل دجاجة ، وإن يتعثر طفل بمجسم الحصان الإسلامي الافتراضي- بدون الرأس – فقد تعثر أب له من قبل . لا شيء جديد، والمواهب التي دثرها الخط الأحمر، وقذف بها في جُب الأيام اليابس لا يزال يمتلئ ، والحفار هو الآخر يعمل . الخط الأحمر هذا أصبح قيداً، وجبروتاً لعيناً ، وحكاياته مع الموهبة حكاية تحدي وجحود . فمتى تفتحت موهبة أضرم الخط الأحمر نار المنكر فيها، من نصوص التشبه بالمجوس والنصارى، والحرامات التي تتسابق في مضمار حياتنا حتى تباطأت الجياد لدينا، وأصابها الخذلان المبين . هو ذاته الخط الأحمر من حدد حياتنا من قبل ومسطرة النار في صفحته السوداء ماكثة تحدد حياة أطفالنا .. حتى فيما يبتكره العقل الآني الحديث يبقى هو من يرسم، ويخطط ملامح الابتكار، ويجعلها في صندوق أسود لا يكشف عنه إلا بقدرة قهار .! يبقى السؤال ما ينقصنا عن غيرنا، ونحن القادرون على التمام كي نأطر جيلاً آخر كما فعلنا بأجيال من قبل ؟ والسؤال أين ستذهب بأطفالك هذا المساء ؟ حتما أنت ذاهب بهم إلى أحد مدن الألعاب في المدينة إن وجد. ولربما تذهب بهم لإحدى دور تحفيظ القران الكريم . وقد تأخذهم في نزهة لأحد المجمعات التجارية، وتتشابه أيامنا وأطفالنا تتواءم . هناك في ذات الساعة التي أنت ذاهب فيها من يصطحب أطفاله إلى أحد المعاهد، أو المسارح المتخصصة التي تعلمهم، وتصقل مواهبهم . بل وتنتزعها، وتجعل وقتهم أفيد وأسعد. هناك في ذات الساعة طفل يتعلم كيفية حساب الأرقام بطريقة صينية إعجازية، وآخر يبدع جمبازاً، وأخرى تبتكر شيئاً مختلفاً، وأخرى تعزف على آلة البيانو بإبهار. وهنا في ذات الساعة طفل يتأرجح، ويفكر في القفز من أرجوحته على التراب، وآخر يشترى مشروب الطاقة، وأخرى تلبست أزياء عرس، وتزف نفسها، وأخرى تحاول مرارًا وإجباراً حفظ سورة البينة . في ذات الساعة أطفال موهوبون في كل مكان، لكن المكان يختلف، والخطوط الحمراء تختلف، ونحن نختلف. فيا ترى بم نختلف؟