سحابة منذ زمنٍ بعيد سأله المعلم عن جدّه، فخُيّل إليه أنّ اللحيةَ البيضاء سحابةٌ تمطر على الصغار، وأنّ هناك من يعصرُ السحابة حتى تجفّ.. ولسوء الحظ لم يتمكن من عصرها كغيره من الأطفال، ولا من النظر إليها وهي تتدلى بيضاء كالثلج، لأنّ جدّهُ مع كل أسف أخذ لحيته معه إلى القبر ! دور أسبابٌ كثيرة دفعته إلى تقمُّص دور الأب كل صباح.. ماتت حمامة فتقمّص الدور جيداً: تصدَّق على أحدِ الفقراء وهو في طريقه إلى المقبرة ثم كفَنها بمنديله الأبيض، مازجاً بين دموعهِ الساخنة وبين التراب الذي أهالهُ على الحمامةِ المغدورة، وليكون أكثر مثاليةً من أبيه صفح عن القطّةِ التي أصابتهُ في مقتل. أفكار كعادتهِ كلّ مساء كان الضبابُ ينتشر في أعلى الجبل وأهل القرية لا يشغلون أنفسَهم بما يحدث في الأعالي.. الضباب الذي يلفّ كل شيءٍ تقريبًا وما من زائرٍ في المساء سوى الأفكار التي يساعدُ على بعثها من جديد.. قالت جدّته : الضباب طائرٌ قادمٌ من البحر يبحث عن مكانٍ يستكنّ فيه، وقال أبوه: لا، الجبل يعاني مثلنا من البرد الشديد، لذا تخرج أنفاسه على هيئةِ ضباب.. أما هو فأقسم لأصدقائه في المدينة: أنّ الجبلَ في قريتهم كان يدخّن، وأنّه كان ينفثُ دخانه في وجه الأشجار! تمرين كبر في السن ولم يسأل جدّته عن الجنّيات التي كانت تحكي له عنها، لأنه كان يشعر بوجودها كلما أظلم الليل وكلما تحركّت أغصانُ شجرةٍ بلا سبب، ولا ينكرُ وهو يستعيدها الآن.. أنها كانت تمريناً رائعاً على حياةٍ تموتُ بعد العِشاءِ بقليل.