قبل نشوب الحرب العالمية الثانية كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تنظر إلى الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ بريطاني بالدرجة الأولى، ولم يكن لدى الولاياتالمتحدة الوسائل السياسية الفعلية في المنطقة. قبل ذاك كان الملك عبدالعزيز يضع أسس سياسته الخارجية وكان حريصاً على تنوع صلاته بمختلف الدول بما يعزز مصالح المملكة، ولا يؤثر عليها سلباً، ويحافظ على استقلالية القرار السعودي. بعد دخوله الحجاز (1924م) بدأ الاتصال بالدول المؤثرة للاعتراف بالمملكة الوليدة، جاء أول اعتراف من قبل روسيا عام (1926م) ثم واصلت الدول الأوروبية اعترافها بالدولة السعودية. كانت رؤية الملك المؤسس بعيدة المدى وأدرك بثاقب بصيرته وقراءته للواقع السياسي أن الولاياتالمتحدة سيكون لها دور مؤثر على المسرح العالمي. حاول الحصول على اعتراف الولاياتالمتحدة بدولته وتأسيس علاقات معها، إلا أن أمريكا لم تكن راغبة حينذاك في إقامة تلك العلاقة. راقبت أمريكا تحركات عبدالعزيز الدولية وعلاقاته الخارجية واتفاقاته التجارية وأبرزها اتفاقه مع ألمانيا عام (1929م) وبدأت عدة تحركات لإقناع أمريكا للاعتراف بالدولة السعودية، ساعد في ذلك بعض المعتمدين الأمريكيين في المنطقة، مثل نائب القنصل الأمريكي في عدن وآخرين ممن يرتبطون بمصالح تجارية مع الشركات الأمريكية كعبدالله فلبي وغيره، في محاولة للتأثير على القرار الأمريكي. كلفت الحكومة الأمريكية معاون الملحق التجاري في الإسكندرية رالف تشيزبروف بزيارة السعودية لاستكشاف الوضع. زار تشيزبروف جدة في صيف عام (1930م) وأعد تقريراً بعنوان (المصادر الاقتصادية والنشاطات التجارية لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها). أوضح التقرير أن العلاقات التجارية بين البلدين يُتوقع لها النمو والازدهار، مما شجع الحكومة الأمريكية حينها للتحرك نحو تأسيس علاقات دبلوماسية بين البلدين واعترفت الولاياتالمتحدة بالمملكة في العام (1931م). في العام (1933م) منحت الحكومة السعودية امتياز التنقيب عن النفط لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)، ووقّع الاتفاق في قصر خزام بجدة وزير المالية الشيخ عبدالله السليمان ممثلاً للحكومة السعودية والمحامي لويد هاميلتون ممثلاً عن شركة (سوكال)، ولم يبدأ الإنتاج التجاري إلا في العام (1938م). في العام (1939م) اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأعلن الملك عبدالعزيز الحياد رغم علاقاته حينذاك ببريطانيا ووجودها العسكري على حدوده، وعلاقاته الدبلوماسية بألمانيا أيضاً. حينئذ طرأت تغيرات كبيرة على السياسة الأمريكية، إذ بدأت أمريكا تضع نصب أعينها مهمة الحلول بدلاً من بريطانيا، أو على الأقل وضع مواطئ قدم لها في المنطقة. ساعد على تلك الرؤية تحول دور النفط من سلعة تجارية إلى سلعة استراتيجية لها أهميتها في السياسة العالمية. قبل العام (1942م) لم يكن لدى الحكومة الأمريكية الاهتمام الكبير بالمملكة ولم يتم أي لقاء رسمي رفيع المستوى بين مسؤولي البلدين، وكانت شركات النفط الأمريكية العاملة في السعودية تضغط على الحكومة الأمريكية لحماية مصالحها ودعم المملكة، بما يعزّز الوجود الأمريكي في المنطقة ويوفر تدفقات النفط للولايات المتحدة. قدرت أرامكو احتياطيات النفط السعودي بعشرين مليار برميل أي ما يعادل مجمل الاحتياطات المكتشفة في الولاياتالمتحدة حينذاك. في العام (1943م ) بدأ استخراج النفط يتزايد بعد أن كان قد انخفض بسبب الحرب، وتولت أرامكو تزويد مشتقات النفط للقوات الأمريكية المشاركة في الحرب، وقدرت كمية النفط المستخرج ذلك العام بخمسة ملايين برميل. بدأ الاهتمام بالمملكة وملكها عبدالعزيز بعد أن تنبه المستشارون والمخططون الأمريكيون إلى أن سيكون للمملكة أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، كما رأوا فيها عوناً لحل بعض المشكلات التي كان الرئيس روزفلت يتوقع أن تحدث في المنطقة. قدمت أمريكا مساعدات للحكومة السعودية ضمن برنامج الإعارة والتأجير وبلغت هذه المساعدات وفق تقرير لمجلس الشيوخ بعد انتهاء الحرب (99 مليون) دولار. في العام (1942م) عينت أمريكا قائماً بالأعمال في جدة بعد أن كانت مفوضيتها في القاهرة هي المسؤولة عن العلاقات. تسارعت الاتصالات الرسمية واستقبل الملك عبدالعزيز عدداً من المبعوثين الأمريكيين ووافق على فتح قنصلية أمريكية في الظهران، كما بدأ التعاون العسكري من خلال تدريب الجيش السعودي وتزويده بالأسلحة والمعدات وأُنشئت قاعدة الظهران، وبدأت المملكة تحتل أهمية استراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية. في عام (1944م) عينت الولاياتالمتحدة وليام إيدي على رأس مفوضيتها في جدة، كان إيدي عقيداً بحرياً سبق أن شارك في الحربين العالمية الأولى والثانية. إيدي المولود في صيدا لأبوين يعملان في الإرساليات التبشيرية، نشأ يتحدث اللغة ويعرف الثقافة والعادات العربية. بعد أن أكمل دراسته في جامعة برينستون العريقة، التحق بالبحرية وتدرج في الخدمة الحكومية. بعد تعيينه في جدة، أصبح إيدي من أبرز مهندسي العلاقات السعودية الأمريكية وأحد شهود اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت. إيدي الذي توفي في بيروت عام (1962م)، أصدر كتاباً نُشر في عام (1954م) بعنوان (فرانكلين روزفلت يجتمع بابن سعود)، روى فيه خلفية التحضيرات للقاء. كتب إيدي: «كنا في جدة تحت تأثير كثير من الضغوط خلال شهر فبراير 1945م، حيث أُبلغت بأن الرئيس روزفلت في طريق عودته من مؤتمر يالطا يريد لقاء الملك عبدالعزيز على ظهر بارجة أمريكية في البحيرات المرة بقناة السويس. طُلب مني أن أرتب لذلك اللقاء. السرية كانت أهم الطلبات لحماية أمن الرئيس، كانت الحرب مستعرة وألمانيا تقصف بطائراتها القاهرةوالسويس، ولا يمكن تخيل شعور الألمان إذا استهدفوا الرئيس الأمريكي والملك العربي على ظهر البارجة. لم يعرف عن الخطة سوى خمسة أشخاص في السعودية، هم: الملك ويوسف ياسين (يصفه بوزير الخارجية)! وموظف الشفرة في المفوضية، وزوجتي وأنا». أعدت الترتيبات وأبحرت البارجة (يو إس إس ميرفي) من جدة وعلى ظهرها الملك عبدالعزيز ومرافقيه الذين وصل عددهم إلى (48) شخصاً أبرزهم، الأمراء عبدالله بن عبدالرحمن، ومحمد ومنصور ابنا الملك عبدالعزيز، والوزراء عبدالله السليمان ويوسف ياسين وحافظ وهبه، ومستشار الملك بشير السعداوي، وطبيبه رشاد فرعون، ورئيس الخاصة الملكية عبدالرحمن الطبيشي، إضافة إلى المرافقين الآخرين والخويا والطباخين والخدم. استغرقت الرحلة من جدة إلى السويس ليلتين، ووصف إيدي برنامج وتعامل الملك مع مرافقيه وطاقم السفينة. في العاشرة من صباح يوم 14 فبراير 1945م، وصلت البارجة (ميرفي) إلى جوار المدمرة (يو إس إس كوينسي) التي تحمل الرئيس، ترجل الملك يرافقه الأمراء الثلاثة والوزيران ياسين ووهبه، وعبروا الجسر بين السفينتين لمقابلة روزفلت الذي كان يجلس على كرسيه المتحرك على ظهر السفينة. تحدث الزعيمان لمدة ساعة وربع قبل أن يتوجها لتناول الغداء في الساعة الحادية عشرة والنصف. وقتئذ طلب مني الأدميرال ليهي (رئيس الأركان والمستشار العسكري للرئيس) أن أرافق الملك في أحد المصاعد إلى غرفة الطعام، وسيرافق ليهي روزفلت في المصعد الآخر. وصلت مع الملك إلى جناح الرئيس ولكن روزفلت لم يظهر، أخبرني ليهي لاحقاً أن الرئيس أوقف المصعد ليدخن سيجارتين بعيداً عن الملك. كان روزفلت مدخناً شرهاً ومع ذلك لم يدخن مطلقاً أثناء لقائه بالملك عبدالعزيز تقديراً منه للملك». منذ أن وطئت قدما الملك (كوينسي) والتقى بروزفلت وجهاً لوجه حدثت الألفة بين الرجلين وبدأ كلاهما بالبحث عن أوجه التشابه لا الاختلاف. كان التركيز على ما يجمع لا ما يفرق، رغم الفارق الثقافي كان للقلوب أحكامها الخاصة. كانت كاريزما ودبلوماسية الرجلين حاضرة. كان الرئيس قادماً للقاء الملك لأسباب تتعلق بالدولة ومستقبل أمريكا والمملكة، ولابد أن يختلي القائدان لبحث مستقبل وعلاقات بلديهما بشكل صريح وشفاف. «بعد الغداء انحصر اللقاء على الزعيمين فقط بحضوري ويوسف ياسين كمترجمين. استمرت المحادثات إلى الثالثة والنصف عصراً وهذا يعني أن إجمالي مدة اللقاء بين الرئيس والملك كانت خمس ساعات. عند ذلك عاد الملك إلى البارجة (ميرفي)، وأبحرت بارجة الرئيس. أمضيت تلك الليلة برفقة يوسف ياسين، ومساعدي ميرت قرانت لإنهاء صياغة محضر المباحثات الذي أوضح فيه الرئيس والملك رغبتهما للاتفاق. بعد أن أنهينا طباعة المحضر بنسختيه العربية والإنجليزية، ذهبت لتوقيعه من الملك قبل أن ينام. وقّع الملك النسخة العربية، وفي صباح اليوم التالي 15 فبراير 1945م طرت إلى الإسكندرية، وعرضت المحضر على الرئيس الذي لم يعدل فيه شيئاً ووقعه قائلاً: (تماماً كما هو). أبقيت نسخة باللغة الإنجليزية لدى الرئيس وأخذت نسخة أخرى لتسليمها للملك عبدالعزيز. لم ينشر شيء عن تلك المحادثات لأن أحداً ممن حضر لم يتحدث عن ذلك، وأنا الآن مستعد لكسر الصمت». كان إيدي الأمريكي الوحيد الذي سمع كل ما دار في المحادثات، لذا فإن كل ما هو معروف عن اللقاء يعود إلى مذكرات إيدي. يقول إيدي عن اللقاء: «كضيف عربي لم يشأ الملك أن يتطرق إلى أي موضوع قبل أن يتحدث مضيفه، ولعله من المهم هنا أن أشير إلى أن الملك لم يتحدث أو يشير إلى الرغبة في أي دعم اقتصادي أو مالي للسعودية. لقد سافر إلى الاجتماع بحثاً عن الصداقة والتحالف لا الموارد والأموال، وذلك بالرغم أنه في ذلك التاريخ لم يكن متوقعاً أن يتم إنتاج كميات هائلة من النفط لتتضاعف مداخيل بلاده التي كانت تعاني من الضائقة الاقتصادية بسبب الحرب التي أثرت على الأوضاع. بدأ روزفلت بالحديث عن الحرب وثقته بهزيمة ألمانيا، ثم تحدث عن رغبته في أن يتلقى نصيحة الملك فيما يتعلق بمشكلة اللاجئين اليهود الذين عانوا من الاضطهاد النازي ورغبتهم الهجرة إلى فلسطين. كان رد الملك مباشراً وواضحاً: أعطهم أراضي ومنازل الألمان الذين اضطهدوهم، رد روزفلت: بأنهم لا يرغبون العيش في ألمانيا لأنهم لا يثقون في الألمان ويريدون الهجرة إلى فلسطين. قال الملك: إنه ليس لديه شك بأن اليهود لديهم سبب مقنع في عدم الثقة في الألمان، ولكن أيضاً ليس لديه شك في أن الحلفاء سيدمرون القوة النازية للأبد وأن نصرهم سيساعد على حماية ضحايا النازية، وإذا كان الحلفاء لا يتوقعون التحكم في السياسة الألمانية بعد انتهاء الحرب، فلماذا كل هذه الحرب المكلفة؟ ابن سعود لا يتخيل ترك عدو لديه القدرة للانتقام بعد الهزيمة. حاول روزفلت العزف على وتر الضيافة العربية وطلب مساعدة الملك في حل المشكلة الصهيونية، لكن الملك رد: دع العدو الظالم يدفع الثمن، هكذا ننظر نحن العرب لمن يشن الحروب ويُهزم. التعويض يجب أن يدفعه الجاني وليس الضحية. ما الأذى الذي سببه العرب ليهود أوروبا؟ إنهم النصارى الألمان الذين سلبوا أرواحهم وأراضيهم، دع الألمان يدفعون الثمن. مرة أخرى حاول روزفلت أن يعود للموضوع قائلاً: إن الملك لم يساعده بتاتاً في إيجاد حل المشكلة، لكن الملك وقد بدا أنه نفد بعض صبره، لم يشأ أن يعيد شرح وجهة نظره غير أنه قال (بنبرة تهكمية): إنه كعربي قادم من الصحراء لا يفهم سبباً لهذا التعاطف الزائد مع الألمان، القيم العربية تكون فيها المراعاة للأصدقاء وليس للأعداء. الملك ختم حديثه بأن التقاليد العربية تقضي بتوزيع المغانم والمغارم في المعارك على المنتصرين، بناءً على حجم مساهمتهم في المعركة. في معسكر الحلفاء هناك 50 دولة، وفلسطين بينهم دولة صغيرة المساحة وفقيرة الموارد، وتم تحميلها بأكثر من حصتها من اللاجئين الأوروبيين. ابن سعود بدوره طلب من روزفلت الصداقة والدعم وأشار الملك إلى أن بلاده لم تقع تحت الاحتلال أو الانتداب وأنه يريد أن يبقى مستقلاً. لولا هذا الاستقلال لما استطاع أن يطلب الصداقة الحقيقية، لأن الصداقة لا تكون إلا حين يكون هناك تكافؤ واحترام متبادل. لقد كان الملك يبحث عن تحالف حقيقي مع أمريكا، لأنه لم يكن هناك تاريخ استعماري لأمريكا. بعد ذلك أعطى الرئيس تعهده لابن سعود وأكد ذلك في رسالة بعث بها بتاريخ 5 أبريل 1945م قبل وفاته بأسبوع واحد: بأنه لن يفعل أي أمر عدائي للعرب ولن تغير حكومته سياستها تجاه فلسطين دون مشاورات مسبقة مع العرب واليهود. بالنسبة للملك كانت التأكيدات الشفهية حينها بمنزلة تحالف، ولم يتوقع الوفاة المفاجئة لروزفلت». يختم إيدي مذكراته بقوله: «لهؤلاء الذين كانوا قريبين من الحدث كان هذا اللقاء ذا أهمية خاصة لعدة أسباب: 1. كان لقاء حيوياً بين زعيمي دولتين مختلفين، لكنهما مثيران للإعجاب، كانا ممثلين للشرق والغرب 2. الملك الذي كان معتكفاً داخل الجزيرة العربية ولم يغادرها قط، سافر في رحلته الأولى التي فتحت له الأبواب. 3. القائد المسلم وحامي المقدسات التي يتوجه لها ( 300 مليون) إنسان رسخ علاقته مع زعيم دولة غربية نصرانية عظيمة. كان هذا اللقاء يمثل أكبر تحالف إسلامي غربي، ويرمز إلى التكامل مع العالم الإسلامي بموارده وسكانه ومنتجاته ونفطه وموقعه الاستراتيجي وموانئ مياهه الدافئة، التي لا غنى لنا عنها في أي حرب عالمية ثالثة. ولكن منذ العام (1945)، القليل تم إنجازه على الصعيد الرسمي لتقريب المسلمين منا، بينما تم عمل كثير لإبعادهم عنا. 4. للمرة الأولى تتخاطب أمريكا مباشرة مع الحكومات والشعوب الصديقة في الشرق الأوسط، وليس عن طريق بريطانيا أو فرنسا كما جرت العادة. لقد كُسرت تلك القاعدة وللأبد ولم تعد أمريكا تَعُد تلك المنطقة بعيدة عنها». لقد أرسى روزفلت وعبدالعزيز أساس العلاقات السعودية الأمريكية التي أكدت أهمية المملكة العربية السعودية من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدةالأمريكية. هذه العلاقة التاريخية الممتدة لعقود عدة، ورغم تعاقب ملوك ورؤساء على تولي السلطة في البلدين، إلا أن الكل يؤكد على أهميتها وحتمية وجودها واستمرارها… نحاول في الجزء الثاني، غداً بإذن الله، فهم أمريكا من الداخل والعلاقة بين النظام والرئيس والصحافة.