أوضح أستاذ الدراسات العليا في جامعتي «الإمام محمد بن سعود الإسلامية» و «الملك سعود»، الدكتور علي النملة، أن العرب بدأوا يطرقون أبواب علم الاستغراب، وتحديداً الاستغراب الديني، عن طريق الحوار كوسيلة من وسائل الولوج إلى هذا العلم، بعد دعوات عدَّة لدراسة الغرب، في ثقافته وعاداته وتقاليده وآدابه، ومنها دعوة الدكتور حسن حنفي. وقال وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق، إن دراسات المسلمين لمفهوم الاستغراب، لا تغفل الجوانب الاقتصادية والسياسة والاجتماعية للعالم الغربي، بحيث لا تقتصر دراسة الاستغراب على الجانب الديني، الذي قد ينظر إليه أنه لا علاقة له بالاستغراب. جاء ذلك خلال أمسية ثقافية نظمها نادي المنطقة الشرقية الأدبي، مساء الأربعاء الماضي، تحت عنوان «الدعوة إلى قيام علم الاستغراب»، أدارها رئيس النادي خليل الفزيع. وشدد النملة خلال الأمسية على أن للتشاحُن والتعادي السائد الآن في القطبين الشرق والغرب، أسبابه، بعضها مفتعل فرضته السياسة التي تقوم على مبدأ الهيمنة الاحتلالية، والرغبة في التبعية السياسية من الشرقيين للغرب، بأي صورة من صور التبعية السياسية والاقتصادية، بل حتى الثقافية. وقال: الاستغراب كما يُعرفه أحمد سمايلوفتش كلمة مشتقة من كلمة «غرب»، التي تعني أصلاً غروب الشمس، وبناءً على هذا يكون الاستغراب هو علم الغرب، ومن هنا يمكن كذلك تحديد «المستغرب» وهو الذي «يتبحر من أهل الشرق في إحدى لغات الغرب وآدابها وحضارتها»، مشيراً إلى أن التعبير ب «إحدى» هنا يوحي بالتخصُّص الدقيق في مواجهة الاستشراق بالاستغراب، بحيث تكون هناك إحاطة بالمواضيع الفرعية للغرب، بدلاً من تعميم الأحكام على الغرب كله. وأضاف: بينما يقترح عبدالله الشارف تعريفاً للاستغراب بأنه ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته، نشأت في المجتمعات غير الغربية – سواء أكانت إسلامية أم لا- على إثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله، وقيل عن هذه الفئة الأخيرة إنها تمثل «طبقة ثقافية ظهرت في بداية القرن المنصرم؛ لتظهر ثنائية على الساحة الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، طبقة تأثرت بالكتَّاب الغربيين في كافة المناهج والمفاهيم والطرق وبكافة العلوم». وأشار النملة إلى أنه نبعت الدعوة إلى وجود مثل هذا العلم من الشعور بأن الساحة العربية العلمية والثقافية تكاد تخلو من معرفة ثقافات الأمم الأخرى، موضحاً أن هذا زعم جاء نتيجة للتقصير في تتبع النتاج الفكري العربي الإسلامي، الذي لم يخلُ في زمن من أزمان ازدهاره من الحوار العلمي الثقافي مع الآخرين، لكن ذاك لم يُسمَّ علماً أو استغراباً أو نحو ذلك، ولكنه أخذ طابع الردود على الآخرين، وتبيان الحق في الديانات الثلاث (اليهودية والنصرانية والإسلام). وبيَّن أن مصطلح «الاستغراب» لم ينل العناية التي يستحقها، وظل جانب معرفة الأمم الأخرى قاصراً على جمع من المثقفين، الذين يرغبون في توسيع آفاقهم، وفتح مجالات للحوار بين الثقافات، ولكن بعضهم امتهن التسويق للثقافة الغربية في المحافل الفكرية، بدلاً من أن يكونوا خبراء فيها، يبيِّنون ما فيها من حق وما فيها من خلاف ذلك، فأُطلق على هذه الفئة مصطلح «التغريبيين»، والمفهوم الذي تتولاه هذه الفئة يُدعى «التغريب». وأوضح أن الموقف من الاستغراب لم يتحدد بعد، تماماً كما الموقف من الاستشراق، بما في ذلك اضطراب المصطلحين واختلاط مفهوماتهما بين المفكرين، فضلاً عن غير المثقفين، إضافة إلى أن المصطلحين أصبحا مشحونين بشحنات إيديولوجية تجعلهما موضع اشتباه في كلا الضفتين، الغربية والشرقية. وذكر أنه في ضوء الاهتمام بالاستشراق، من حيث الانبهار به أو التصدي له أو محاولات الالتفاف عليه، ظهرت فكرة قيام حركة مواجهة، تُعنى بالغرب ثقافة وفكراً وآداباً وعادات وتقاليد، ما حدا ببعض المفكرين العرب المعاصرين إلى أن يدعو إلى قيام علم الاستغراب، من بينهم حنفي (1935م)، الذي نشر كتاباً ضخماً بعنوان «مقدِّمة في علم الاستغراب»، ليأتي هذا العلم مواجهاً للتغريب «الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتها للعالم وهدد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة». وقال: لا ينظر إلى الاستغراب على أنه فكر معادٍ للغرب، أو فكرٌ معادٍ للثقافة، ولا ينظر الاستغرابُ للغرب على أنه عدو للدين الإسلامي، وليس في الأمر تصفية حسابات تطغى عليها العاطفة والنزعة الانتقامية – كما تؤكِّد بعض الطروحات-، ولا هو مضاد للاستشراق أو مواجه له، كما أنه لا يُنكر حال التوتر بين الشرق والغرب، ولا يتجاهل ما تعرض له الشرق تاريخياً من الغرب، من أيام الحملات الصليبية وما قبلها وما بعدها، ومع عدم هذا التجاهل، لا يُعين الاستغراب في الاستمرار في صناعة الكراهية بين الثقافات، وتوسيع الفجوة بينها. وأضاف بأنه يُنظر إلى الاستغراب على أنه دراسات موضوعية هادئة كاشفة عن الحسن والسيئ (الإيجابي والسلبي)، فالإيجابي يؤخذ به ويُستفاد منه، والسلبي يطرح ويُتجنب ويحذر منه، وموضوعيتها أدعى إلى الاقتناع بما لدى الآخر من خير وشر، بحيث تتولد الإرادة في الانتقاء، فليس الغرب شراً كله، وليس الغرب خيراً كله. وتابع قائلاً: ومن هذا المنطلق يمكن قبول الاستغراب، سعياً إلى فهم الآخر فهماً مباشراً، من أجل التعامُل معه تعامُلاً يعود نفعُه علينا نحن مباشرة، ثم يعود نفعُه على المُستهدف منه بالدرجة الثانية، وهذا ما يسعى إليه المسلمون في سبيل التعامُل مع ما حولهم ومع مَن حولهم، فلم يعودوا في معزل عن العالم ولن يستطيعوا، ولم يَعُدْ العالم في معزل عنهم، ولا يستطيع.