أكد الدكتور علي بن إبراهيم النملة -وزير الشؤون الاجتماعية سابقا أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود- أن التشاحُن والتعادي السائد الآن في القطبين، الشرق والغرب، له أسبابه. وأوضح الدكتور النملة، خلال أمسية ثقافية أقامها نادي المنطقة الشرقية الأدبي، مساء أول أمس، بمقر جريدة «اليوم»، بعنوان «الدعوة إلى قيام علم الاستغراب»، وأدارها رئيس النادي خليل الفزيع، أن «بعضا من هذا التشاحن والتعادي مفتعل، فرضته سياسة تقوم على مبدأ الهيمنة الاحتلالية (Homogeny)، ورغبة في التبعية السياسية من الشرقيين للغرب، بأي صورة من صور التبعية السياسية والاقتصادية، حتى لم تَسْلَم منها الثقافة، رغم رفع شعار مصطلح الاستثناء الثقافي بين الغربيين أنفسهم، أو مصطلح الحدود بين الثقافات، وليس القطيعة الثقافية التامّة، التي ربّما يدعو إليها من طغى عندهم الحماس الانتمائي بروح دفاعية متوجّسة من أنْ تُدنِّس الثقافات الأخرى ثقافتنا النقيّة الخالصة. وهي كذلك دون إغفال التماس الحكمة أينما كانت». وأضاف أن (الاستغراب، كما يُعرّفه أحمد سمايلوفتش، كلمة مشتقّة من كلمة (غرب)، وكلمة غرب تعني أصلا غروب الشمس، وبناء على هذا يكون الاستغراب هو علم الغرب، ومن هنا يمكن كذلك تحديد كلمة {المستغرِب} وهو الذي يتبحّر من أهل الشرق في إحدى لغات الغرب وآدابها وحضارتها. والتعبير ب«إحدى» هنا يوحي بالتخصّص الدقيق في مواجهة الاستشراق بالاستغراب، بحيث تكون هناك إحاطة بالموضوعات الفرعية للغرب، بدلا من تعميم الأحكام على الغرب كله، بينما يقترح عبد الله الشارف تعريفا للاستغراب بأنه ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته. نشأت في المجتمعات غير الغربية -سواء أكانت إسلامية أم لا- على أثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله، وقيل عن هذه الفئة الأخيرة إنها تمثّل «طبقة ثقافية ظهرت في بداية القرن الماضي؛ لتظهرَ ثنائية على الساحة الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، طبقة تأثّرت بالكُتّاب الغربيين في المناهج والمفاهيم والطرق كافّة وفي العلوم كافة». وأشار إلى أن الدعوة نبعت إلى وجود مثل هذا العلم من الشعور بأن الساحة العربية العلمية والثقافية تكاد تخلو من معرفة ثقافات الأمم الأخرى. وهذا زعم جاء نتيجة للتقصير في تتبّع النتاج الفكري العربي الإسلامي، الذي لم يخلُ في زمن من أزمان ازدهاره من الحوار العلمي الثقافي مع الآخرين، لكن ذاك لم يُسمَّ علما أو استغرابا أو نحو ذلك، ولكنه أخذ طابعَ الردود على الآخرين، وتبيان الحقّ في الديانات الثلاث؛ اليهودية والنصرانية والإسلام. وأكد أن هذا المصطلح «الاستغراب» لم ينلْ العناية التي يستحقّها، وظلّ جانبُ معرفة الأمم الأخرى قاصرا على جمع من المثقّفين، الذين يرغبون في توسيع آفاقهم، وفتح مجالات للحوار بين الثقافات، مما أدّى عند بعضهم إلى أنْ ينقلب السحر عندهم على الساحر، فيُسمّون سفراء للثقافة الغربية، ممتهنين التسويق لها في المحافل الفكرية، بدلا من أنْ يكونوا خبراء فيها يبيّنون ما فيها من حقّ وما فيها من خلاف ذلك، فأُطلق على هذه الفئة مصطلح التغريبيين Westernizers، والمفهوم الذي تتولاّه هذه الفئة يُدعى التغريب «Westernization». وبين أن الموقف من الاستغراب لم يتحدّد بعد، تماما كما الموقف من الاستشراق الذي لا يظهر أنه سيتحدّد، بما في ذلك اضطراب المصطلحين واختلاط مفهومهما بين المفكّرين، ناهيك بغير المثقفين، وكونهما أصبحا مصطلحين مشحونين بشحنات آيديولوجية تجعلهما موضع اشتباه في كلتا الضفتين؛ الغربية والشرقية. وأشار إلى أنه في ضوء الاهتمام بالاستشراق، من حيث الانبهار به أو التصدّي له أو محاولات الالتفاف عليه، ظهرت فكرة قيام حركة مواجهة، تُعنى بالغرب ثقافة وفكرا وآدابا وعاداتٍ وتقاليدَ، مما حدا ببعض المفكرين العرب المعاصرين إلى أنْ يدعوا إلى قيام علم الاستغراب، فانبرى الدكتور حسن حنفي (1935)، ونشر كتابا ضخما بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، ليأتي هذا العلم مواجها للتغريب «الذي امتدّ أثره؛ ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتها للعالم وهدّد استقلالنا الحضاري، بل امتدّ إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة». وأكد النملة أن الاستغراب لا يُنظَر إليه على أنه فكرٌ معادٍ للغرب، وليس هو فكرٌ معادٍ للثقافة أيا كان مصدرها، ولا ينظر الاستغرابُ للغرب على أنه عدوّ لله تعالى، وليس في الأمر تصفية حسابات تطغى عليها العاطفة والنزعة الانتقامية – كما تؤكّد بعض الطروحات. ولا هو مضاد للاستشراق أو مواجهٌ له، كما أنه لا يُنكر حالَ التوتّر بين الشرق والغرب، كما لا يتجاهل ما تعرّض له الشرق تاريخيا من الغرب، من أيام الحملات الصليبية وما قبلها وما بعدها. ومع عدم هذا التجاهُل، لا يُعين الاستغراب في الاستمرار في صناعة الكراهية بين الثقافات، وتوسيع الفجوة بينها. ولفت إلى أنه يُنظر إلى الاستغراب على أنه دراسات موضوعية هادئة كاشفة عن الحسن والسيئ (الإيجابي والسلبي)، فالإيجابي يؤخذ به ويُستفاد منه، والسلبي يطرح ويُتجنّب ويُحذَر منه. وموضوعيتها أدعى إلى الاقتناع بما لدى القوم من خير وشرٍّ، بحيث تتولّد الإرادة في الانتقاء. فليس الغرب شرًّا كله، وليس هو خيرا كله، ومن هذا المنطلق يمكن قبول الاستغراب؛ سعيا إلى فهم الآخر فهما مباشرا، من أجل التعامُل معه تعامُلا يعود نفعُه علينا نحن مباشرة وبالدرجة الأولى، ثم يعود نفعُه على المُستهدَف منه بالدرجة الثانية، إذا كان لهذا الأمر درجات! وهذا ما يسعى إليه المسلمون في سبيل التعامُل مع ما حولهم ومع مَن حولهم، فلم يعودوا في معزل عن العالم ولن يستطيعوا، ولم يَعُدْ العالم في معزل عنهم، ولا يستطيع. كما أكد أن العرب بدأوا يطرقون أبواب الاستغراب الديني تحديدا، عن طريق الحوار كوسيلة من وسائل الولوج إلى علم الاستغراب، بعد دعوات عدّة لدراسة الغرب، في ثقافته وعاداته وتقاليده وآدابه، ومنها دعوة حسن حنفي إلى علم الاستغراب، مشيرا إلى أن دراسات المسلمين لمفهوم الاستغراب لا تُغفل الجوانب الاقتصادية والسياسة والاجتماعية للعالم الغربي، الذي نعبّر عنه بالآخر، بحيث لا تقتصر دراسة الاستغراب على الجانب الديني، الذي قد ينظر إليه على أنه لا علاقة له بالاستغراب. وفي ختام الأمسية، تداخل الكثير من الحضور مع ضيف الأمسية حول علم الاستغراب وأهميته، وفي النهاية قدم رئيس النادي درعا تكريمية للدكتور النملة، مقدما له الشكر والتقدير على ما شهدته الأمسية من تفاعل من الحضور من الجانبين. رابط الخبر بصحيفة الوئام: د.النملة: التشاحن والتعادي فرضتهما سياسة الهيمنة الاحتلالية