عزا الناقد والأكاديمي خالد الرفاعي، تقلّبات المثقفين السعوديين إلى قصور المؤسسات الرسمية في القيام بدور من شأنه النهوض بالمثقف من خلال ضبط وإعادة الهيبة للخطاب الثقافي، برفع مستوى الحرية لنشاط المثقف، مع تعزيز مسؤوليته عن هذا النشاط وتوسيع السياق الذي ينشط فيه المثقف التقليدي بإعادة النظر في الطريقة التي يُدار بها الشأن الثقافي في المملكة. كما أوضح أن على تلك المؤسسات، البحث عن طرائق تضمن منحَ المثقف المتخصص أو الباحث أهمية أكبر، ليسهم في نقل النشاط الثقافي من حقل «المواقف العابرة» إلى حقل «القراءات المعمّقة» أو البحوث الميدانية، تمهيداً لتحقيق نقلة أكبر من التعدّد إلى التعدّدية. جاء ذلك في محاضرة له بعنوان «تقلبات المثقفين»، ألقاها في نادي أبها الأدبي مساء أمس الأول، وقدم لها الدكتور عبدالوهاب آل مرعي. وأشار الرفاعي، خلال المحاضرة، إلى أن تقلبات المثقفين تعني انتقالهم من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف بسرعة مفاجئة، لا تسبقها إرهاصات ولا ممهدات تضفي على هذا التقلّب مشروعية ما. وبين أنّ هذه التقلبات متصلة بالوقائع السياسية والاجتماعية والثقافية أكثر من اتصالها بالذات؛ ولذلك تبرز في المواقف ولا تبرز في المنجزات الفكرية أو الأدبية، وتتجلى أحياناً من خلال تصريحات تليفزيونية (أي شفوية)، أو تغريدات على موقع «تويتر»، أو في مقالات قصيرة ذات طابع انفعالي. وفرّق المحاضر بين (التقلّب) و(التحوّل)، وعرض عددا من السمات التي تميّز كلا منهما، ورأى أنّ (التقلُّبات) سمةٌ سلبية في المشهد الثقافي، تدلّ على اضطراب المثقف، وعلى تأثره بالسياقات الحافة به أكثر من تأثيره فيها، وعلى ذوبان ذاته في ذوات أخرى، أو في معان أو أشياء، أو تيارات، أو أنظمة، أو أحزاب، وأنه في نشاطه كلّه ظلٌّ لنشاطٍ آخر مغيّب، يتسع باتساعه ويضيق بضيقه، ويرتبط به وجوداً وعدماً، في حين عدّ التحوّلَ شكلاً من أشكال النموّ الفكري، وصورة من صور فردانية المثقف، وفاعلية نزعته النقدية لكلّ شيء حتى لذاته، وفرّق بين عديد هذه التقلبات المزرية وتلك التحوّلات لدى عدد من المفكرين والمثقفين مثل القصيمي والمسيري ومصطفى محمود وآخرين. وعرض الرفاعي لتعريف المثقف ورأى أنه محكوم بدلالتين: إحداهما واسعة تشمل كل من يمتلك رؤية خاصة ويملك القدرة على التعبير عنها، والأخرى ضيقة تعبّر عن المثقف الذي ينهض بوظيفة المثقف، واعتمد على تقسيم أنطونيو قرامشي للمثقف بأنه إما مثقف تقليدي يخدم الثقافة من داخل المؤسسة الرسمية، وإما مثقف عضوي أو اجتماعي أو منسّق يخدم الثقافة من خلال سياقات خاصة، ويتولى نشر القيم المتصلة بحقوق الإنسان، ويسهم في تجسيدها، ومواجهة الجمود بكلّ أشكاله، والمداومة على تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل أو الإخفاء (كما يعبر إدوارد سعيد). وعن أبرز أسباب تقلبات المثقف، ذكر الرفاعي النرجسية لأنها تجعل المثقف يمنح نفسه صلاحية التصرف الفردي في القيم والمبادئ العامة، ومثّل لذلك بمطالبة أحد المثقفين بتصفية شخص معيّن بسبب اختلاف نظري بينهما في مواقف فكرية أو سياسية. وأشار الرفاعي إلى بعض المثقفين الذين يضربون بعضَ المبادئ ببعض، أو يقيمون تعارضاً بينها، ليسوّغوا بذلك خروجهم على مبدأ ما بحرصهم على حماية مبدأ آخر، لافتا إلى أن المثقف حين يطالِب بتصفية خصومه، أو حين يمارس الاستعداء عليهم، يعلّق هذا الفعل بحماية الوطنية، ليشرعن بإقامة هذا التعارض خروجه السافر على أحد أهمّ المبادئ الثابتة في وظيفة المثقف. كما ذكر أنّ النفعية تعدّ سبباً من أسباب هذا التقلّب وألمح إلى بعض الشهادات الثقافية التي تدلّ على أنّ من المثقفين من كان يتقاضى مقابلاً مادياً أو معنوياً للمواقف التي تبنّوها مع علمهم بأنها تتعارض مع جملة المبادئ التي تندرج تحت «حقوق الإنسان». وكذلك الجانب الأخلاقي الذي عدّه عاملاً مهمّاً للمثقف، وهو وحده الجدار الذي سيحول دون اختراقه وتوظيفه، وهو وحده المانع من انكساره أمام المُغريات. وفي سياق واسع تحدّث الرفاعي عن غياب الفردانية (الاستقلالية) بوصفها سبباً من أسباب تقلبات المثقفين، مشيراً إلى أنّ المثقف العربي، والخليجي تحديداً، ارتهن نفسه لدى تيار أو طائفة أو جماعة، وأخذ يتحرك وفق رؤيتها، واستشهد بالنقد اللاذع الذي تعرض له كل من الغذامي والغنامي والسحيمي من الوسط الثقافي لأنهم قاموا بنقد الخطاب الثقافي، أو السياقات المحسوبة على المثقفين، واستنكر اللغة التي حملت هذا النقد، وتجاوزت حدود المقبول. وكَشَفَ الرفاعي عن أنّ الخطاب الثقافي معدّ لما قبل الأزمة ولما بعدها، وليس معداً للأزمة نفسها، وقيادته الذهنية تخدم التاريخ والمستقبل أكثر مما تخدم الحاضر. كما تحدث عن العامل النفسي باعتباره سبباً من الأسباب الدافعة إلى تقلبات المثقفين، مشيرا إلى أن الهجوم الشرس الذي شنه التيار الإسلامي في التسعينيات على رموز الثقافة في المملكة ترك لدى كثير من المثقفين شعوراً عميقاً بالمظلومية، عبر عنه بعضهم بخطاب انتقامي، وتنفيسي، لا يقيم اعتباراً للموضوعية، وغايته إسقاط الخصم التقليدي.