استنكر عدد من المثقفين والأدباء والشعراء والنّقاد تحول بعض الحوارات الثقافية من عملية مشتركة للبحث عن الفعل الثقافي الحقيقي، إلى البحث عن إثبات الفردانيه الثقافية، مشيرين إلى أن عملية تبادُل التهم، وإقصاء الآخر، ونسْف جهوده، هي سلوكيات ناجمة عن صدام المثقفين الذي تدفعه الشخصنة بعيداً عن أسس العلمية للنقد، مستشهدين في هذا السياق بسجالات "الشخصنة" التي تقع بين الفينة والأخرى بين أقطاب الثقافة والفكر والأدب، التي ينزلق التراشق خارج سياق الحوار، وقبول الرأي الآخر، ومعاني التعدد الثقافي، الذي يظل مصدر إثراء لثقافة المجتمع بشكل منطلقه تعدد المشارب الثقافية، واتساع مدارك أفقها الثقافي، وتنوع رؤيتها الثقافية والفكرية. يقول عضو مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي بالطائف الشاعر أحمد الهلالي: الصراع الثقافي الإيجابي هو مماحكة الفكر بالفكر، والرؤى بالرؤى، لإضافة شيء ذي بال إلى الساحة الثقافية، ويتحول إلى صراع سالب إذا تنازل من الفكر إلى الشخوص، وللأسف فالنوع الأخير هو السائد الضار، الذي أوغر قلوب الكثيرين دون أن تجني الساحة قيمة معرفية يعتد بها، نعلم أن الساحة مكتظة بالتوجهات والتيارات، لكن المؤسف أن جل الاهتمام يتركز على القضايا الشخصية، بطرق أقل ما يقال عنها أنها سخيفة. وأضاف الهلالي: الشخصنة من باب انحياز المثقف لذاته أكثر من فكرته، فليس من العلمية ولا العقلانية في شيء أن تنسف شخص أو فكر من وقف سلبا من رؤيتك، بل يدل على إحساس المهاجم بخوائه المعرفي والفكري، أو تضخم ذاته إلى درجة تمنعه من رؤية أو سماع الآخر، فالوعي والإحساس بالآخر وقبوله في الهوية الجمعية أهم الوسائل لتقارب الرؤى، ومن أجل هذا أنشئ (مركز الحوار الوطني) لمعالجة ما قد يحدث من ارتفاع صوت الفردانية والطيف الأوحد فكريا أو ثقافياً. أما الشاعر غرم الله الصقاعي فيقول: مما لاشك فيه أن الحوارات وتلك السجالات الثقافية التي كانت تشهدها الساحة الثقافية في زمن مضى، شكلت كثيراً من القناعات وصنعت الكثير من الحراك الثقافي والإبداعي، واعني بذلك ما حدث في مصر في زمن مضى، و- أيضاً- ما شهدت ساحتنا الثقافية وساعدته عليه الصحافة ك"جيم جده" إلا أنه في الفترة الأخيرة لم يعد الحوار والسجال ذا قيمة وحيوية تذكر، وذلك يعود لأسباب عدة لعل اهمها: أننا أصبحنا نمارس التعليم والوصاية بما نكتب بعد أن صنع منا الزمن الكتابي الإعلامي رموزا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! وأضاف الصقاعي: هذه القضية تزامنت مع ذهنية تؤمن بالاستحواذ، وتعتد كثيرا بالانتماءات إلى الجذور القبلية أو الإيديولوجية، واهتمامها الكبير بفكرة الانتصار للذات أو الجماعة على حساب الحق والعلم والمعرفة، تيمنا بشاعرهم الجاهلي (ونجهل فوق جهل الجاهلينا) مستمدين قوتهم وجدارتهم من نقائض الهجاء في تاريخهم الأدبي (وغض الطرف إنك من نمير) و(ابشر بطول سلامة يا مربع) نعم، لقد بدأت تتشكل ثقافة الحوار، وليس هناك من سبيل إلى ترسيخ هذه الثقافة الحوارية بشكل حقيقي منتج، إلا بالإيمان بحق الآخر بحرية الرأي مع الاعتراف بأهمية النظرة العلمية والمعرفية والمفاهمية بعيدا عن تغليب الذاتية والصدام من أجل الحضور والبقاء في دائرة الضوء. غرم الله الصقاعي محمد ربيع حسن البطران ففي الخطابات المتجاورة عادة يكون هناك حوار عقلي علمي متزن متى كانت النوايا ساعية للحق والخير والجمال ولكن عندما تتحول الحوارات فيها إلى صراع من أجل الأفضلية ومن أجل النفي والإقصاء يغيب العقل وتغلب العاطفة مما يجعلها حوارات ليست ذات فائدة ولا معنى تصنع العدواة وتزيد البغضاء بين المنتمين لها. وعن الصدام داخل إطار الخطاب الواحد، فيقول عنه الصقاعي: من المفترض أنه يقود إلى تحسين الخطاب، وتصحيح مساراته من خلال نقد موضوعي معرفي، يعزز الصواب فيه ويهذب أدواته ويتجاوز عثراته ليحقق ما يراد به من ذلك الخطاب، ومتى ما تحول الصراع إلى صراع أفراد وليس صراع أفكار داخل الخطابات، فذلك يعني الانتصار للذات بعيدا عن مصلحة الجماعة، وللأسف مشهدنا بين حين وآخر ينقسم على نفسه على قضايا مشابهة أحياناً باسم التأسيس الثقافي، وأحياناً باسم الريادة الأدبية، وأحياناً باسم الرمز أو الوصاية، وكل هذا يقودنا إلى العودة إلى الذهنية القابلة للاستحواذ، والمتناغمة مع فكرة المنفعة الذاتية، وإقصاء ونفي الآخر دون الاهتمام بالإنتاجية والحياد في المواقف والآراء. وعن تلقائية حضور الذات والانتصار لها في هذا السياق يقول القاص والكاتب محمد بن ربيع الغامدي: اختلاف الآراء وتباين الأذواق من سنن الحياة، وليس من سننها اتفاق الناس، وحتى الإجماع لا يعني تمام الاتفاق، ومثلما هو الحال في اختلاف الآراء فإن الحدة والتعصب والشخصنة في الاختلاف طبيعة بشرية، جبل الإنسان على الانتصار لرأيه، يجعل من عقله ومن لسانه ومن يده خداما لرأيه، ولو لم يختلف لكان من وجهة نظر الآخرين إمعة مسلوب الإرادة لا يسأل عن رأي، ولو لم يحتد ويتعصب ويشخصن لكان من وجهة نظر ذاته ضعيفا مسلوب الحق. وأردف ربيع قائلاً: إذا كانت سنن الحياة تفضيلات كونية لا تعتريها أحكام معينة باعتبارها من توازنات العيش، فإن الطبائع البشرية على نقيض ذلك، تفضيلات ذاتية تعتريها الأحكام المختلفة من حرام وحلال ومن حسن وسيء ومن سوي وشاذ، وإذا كان الموقف من سنن الحياة موقف تسليم واتباع فإن الموقف من الطبائع البشرية موقف مساءلة واحتكام للمفاهيم والآداب العامة، ودواعي السلم وقوانين الحق والعدل، وإذا كانت سنن الحياة قوانين صارمة، فإن طبائع البشر مسالك مرنة قابلة للسحب والطرق والتعديل، تنفع معها الدربة والمران، قال الله تعالى: "وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" فالحق هو المعيار، والصبر هو المران، على الرضا ونقيضه الجزع والجزع بيئة التوتر والأنانية والحدة والتعصب والشخصنة. واختتم ربيع حديثه مؤكدا أنه يجب علينا أن ندرب أنفسنا على تقبل الآخرين واختلافاتهم معنا تقديرا لسنن الاختلاف، وأن نقف دون ما نعتقد بقوة، فالحياة عقيدة وجهاد، وان نصطبر على الخلاف فنكبح جماح الجزع في دواخلنا، فلا نشتط ولا نحتد ولا نغضب فالغضب يطفئ سراج العقل، ولنتدرب على الحوار وقبول الآخرين، ولنلتمس - أيضا - العذر للمحتدين المشخصنين. من جانب آخر قال القاص حسن علي البطران: لا يخفى أن التكامل في الجوانب الحياتية أمر فيه جملة من المعطيات الإيجابية، وخلافها يعطي تصورات تكون بعيدة عن تلك المعطيات مع طبيعة الحراك الثقافي والإبداعي، وربما يشمل الفكري - أيضاً- ويسير نحو آلية يتطلب فيها شذوذا أو تمرداً من نوع معين، وهذا ما يجعل تلك الشخصية المتمردة ذات عطاء ربما يكون مختلفاً عن غيرها، وهذا قد يحسب في كثير من الأحيان لصالحها من وجهة نظر أو ضدها من وجهة نظر أخرى، إلا أن هذا المبدع أو ذاك المثقف حينما يتخذ قرارا فردياً وينعزل ويخالف الفكر الجمعي ويشذ كونه بعيداً عن الرؤية الواقعية والمنطقية فهذا يتنافى وعلاقة المثقف بالثقافة، كون الثقافة مزيجاً من الرؤى، وخلطا رائعاً وربما يؤدي إلى معطيات تخدم ما ينطوي ويستظل تحت مظلة الثقافة. وعن مفهوم "الفردانية" الثقافية، التي يرى البطران بأنها لا تشكل ظاهرة ثقافية يقول: هي ذات مفهوم لم تتضح رؤيته، وإن تمثلت في أن الفرد يعتمد على نفسه في اتخاذ قراراته وتنفيذ رغباته وأهدافه، إلا أن الفردانية مثيرة للجدل، وصاحبها يتسم بالأنانية، فبالرغم من تداول وانتشار هذا المصطلح هنا أو هناك تبقى الفردانية محل خلاف، لذا نجد من المثقفين من يهمه إثبات ذاته وسيطرة فردانيته، التي تدمر المثقف وتعزله عن المحيط والثقافة الجمعية في هذا المجتمع أو ذاك.