يقول أنطوان تشيكوف: «إذا ذكر القاص في قصته مسماراً فلابد للبطل أن يشنق نفسه في ذلك المسمار قبل نهاية القصة»، وهو قول يبلغ الغاية في الإشارة إلى الحساسية العالية التي تتسم بها اللغة في القصة القصيرة، وتكون معها كل وحدة من وحدات البناء اللغوي داخل المعمار السردي لبنة أساسية ينهار البناء لو نزعت، ويتشوه إن زيد عليها ما لا يقتضيه السياق في النص. وتكمن مفارقة الفعل الكتابي في حقل القصة القصيرة في المواءمة بين تطويع الخام اللغوي ليكون حيز التداعي النفسي ووعائه، وفي الوقت ذاته ترويض ذلك التداعي النفسي ليجيء منسجماً مع اشتراط النوع السردي الناهض على الاختزال والتكثيف بطريقة توشك معها الكتابة أن تكون شكلاً من أشكال المحو أو النفي، في مفارقة تختص بها القصة القصيرة دون غيرها من أشكال الكتابة السردية. ومن هنا يمكن القول إن الإطار الكتابي للقصة القصيرة لا يبدي المرونة ذاتها التي تبديها أشكال السرد الأخرى كالرواية مثلا من جهة علو القابلية لما يمكن تسميته بالنصوص الطارئة عليه، أو ما يعرف في تراثنا البلاغي بالتضمين، وهو الأمر الذي يستوجب براعة خاصة لدى القاص في انتخاب نصه الآخر، والإفادة من حمولاته وخزينه المعرفي والثقافي، ودون أن تترهل به لغة القص، أو أن يكون مجرد ملصق في جدار الحكاية لا يلتحم بمضمونها وعمقها. ومجموعة «احتراقات أنثى» للقاصة تركية العمري، الصادرة عام 1429 عن دار المفردات في الرياض، تنطوي على نماذج جلية لإشكالات وتداخلات النصوص الطارئة مع البنية النصية للقصة القصيرة، وجلاء ذلك النموذج يتجسد ابتداء في غزارة التناصات، ووفرة النصوص الأخرى، ففي أربعة وعشرين عنواناً هي إجمالي نصوص المجموعة نعثر على أكثر من ثلاثين نصاً مضمناً، هيمن الشعر على أكثرها، وراوح بين الفصيح والعامي، وأُلحق بالنصوص عدد وافر من الإحالات تضمنت أسماء شعراء عدة، الأمر الذي من شأنه أن يخلق للوهلة الأولى دهشة السؤال عن المجاز السردي الذي استطاع احتواء هذا القدر من النصوص، وشعور الذات الكاتبة وهي توثق أكثر من ثلاثين إحالة ضمن مجموعة قصصية، دون أن تهجس بسؤال عن مدى انسجام شيء كهذا مع أفق البوح الذي اختارته وتوجسه إزاء كل لفظة في بنيته اللغوية. وإن كانت الذات الكاتبة قد نجحت في مواضع قليلة من المجموعة في مواءمة المنقول مع حركية السياق السردي، فإن وفرة استخدام هذه التقنية في أكثر النصوص أفضت بها إلى الإفلات من قبضة المقتضى الكتابي، إلى مجرد ممارسة أشبه بلعبة القص واللصق، عادت النقول معها أقرب إلى نتوءات أثقلت أجساد الحكايات، واستسمنت الكاتبة فيها أوراماً كان حرياً بها أن تُبتر وتُبتر معها كثير من إسهابات اللغة وتداعياتها التي لا تخدم فنية النصوص. ففي نص «وجوه في القرية» تضمن الكاتبة نصاً عامياً للشاعر بدر بن عبدالمحسن: «توقفت حركة الصور والملامح في مخيلتها، نعم غداً سيكون زمناً آخر، أدارت جهاز التسجيل، ينهمر نغم أغنيةٍ أحبتها منذ زمن لشاعر حالم، وصوت حالم يلامس تفاصيل الأنثى الحالمة في أعماقها: ريانة العود.. نادي الليالي تعود بشوق الهوى.. بوعود بوجهي اللي ضيعته زمان في عيونك السود» ص 16. والنص الآخر هنا يأتي محققاً قدراً من الالتحام مع النص الرئيس، منسجماً مع السياق والفكرة، محققاً للفعالية الدلالية المنتظرة. وكذلك في نص «جراح الغد» يعاد استدعاء الشاعر ذاته في مقطع يتردد على لسان بطلة القصة، مفصحاً عن عمق القلق والاغتراب واحتدام المشاعر، في تضمين يعزز الفكرة ويخدم الرغبة في تأزيم اللحظة للوصول بها إلى ملامسة الأعمق في وجدان وذائقة قارئه. وفيما عدا ذلك من مواضع التناص في مجموعة «احتراقات أنثى»، بقيت النصوص الأخرى محتفظة بصفتها الطارئة، التي بدت مربكة للسرد أكثر من كونها خادمة أو معززة له، وبدت الكتابة مرتهنة لسطوة ذاكرة تعيد تصريف مخزونها الشعري عبر فجوات تتعمد الكاتبة إيجادها في لحمة البناء السردي، لتعيد غلقها بموجودات الذاكرة، دون أن تجسر المسافة بين السردي والشعري بأكثر من مفردات لا تبرر آلية اللصق الشعري في نصوص المجموعة، تقول القاصة في نص «فاطمة الكادي»: «وجدت فاطمة بنت محمد بنظرة الذكاء التي تشع، خُيل لي أنها تقول: مدي إلى قلبي يديك لتلمسي نبض الإرادة وخُيل إلي أنها تهمس: وأقارع اليأس الهزيل برؤية لا تعرف الإذعان للحرمان تأملتها بحب، تناولت يدها، قبلتها، قالت والدموع تترقرق في عينيها: كيف حال ابنتي، أجبتها بخير، وقفت وهمست: فاطمة أنت الألق وحضور الفجر وحنين الشفق وخرجت وأنا أردد فما أنت فاطمة التي تتكررين فما لفاطمة اثنتان» ص 26- 27- 28. وعلى النسق ذاته تسير بقية النصوص، وتتكرر الصيغ ذاتها التي تتوخى – بنظر الكاتبة – التمهيد لانحراف السياق بين السرد والشعر دون أن تقدم المبرر الموضوعي لإقحام تلك النصوص. ولعل الإفراط في استدعاء ذاكرة الشعر والتماس مواضع لها في النصوص شكّل في ذاته اشتغالاً موازياً للممارسة السردية في صورتها الأولية، بل لعله استأثر باهتمام خاص، نجم عنه ما يشبه الفعل العكسي، حين تحول الاهتمام إلى محاولة تطويع التكوينات السردية لإدماج بنى شعرية أو نثرية سابقة عليها، الأمر الذي أخرج السرد في بعض مفاصله إلى صيغ أقرب للمقالية، ذات صخب خطابي عالي الوتيرة، يجسده بوضوح نص «وطن»: «ارفع رأسك أنت سعودي سعودي وتسافر تلك الكلمة بل الهوية.. تمر أمام عيني منائر الحرم.. روحانية طيبة.. واتساع الرياض وتاريخ مجد وكفاح ينهمر كأنك أنت الرياض بأبعادها بانسكاب الصحاري على قدميها انظر إلى السماء.. آه يا سماء وطني.. ويتداعى بوح لبدوي عتيق نثرته ذات غيم على أوراق طالباتي: أحب أرضي وأرض الطهر تعشقني حباً بحب وما في الحب من عجب» ص 45. ولعل تشابه فضاءات المكان، واستنساخ ملامح الشخوص في أكثر نصوص المجموعة، قد أسهم على نحو فاعل في تكرار ثيمة التضمين تلك، وعلى الرغم من أن النصوص غير مؤرخة بزمن، إلا أن تلك الاستعادات المتكررة تشير بوضوح إلى تقارب المدى الزمني الذي أنجزت فيه نصوص المجموعة، ولم يتسن للتجربة فيه أن تنعتق من ارتهانها التام للذاكرة الشعرية، والسمة الأسلوبية المهيمنة على سائر ما تكتب. إن النص الإبداعي أشبه بالمعادلة الكيميائية، ينبغي لكل مكون فيه أن يوضع بنسبة ما، فإنْ قُدر لأي من تلك النسب الزيادة أو النقص، لم يؤمن مع ذلك أن تحترق التجربة كلها، أو يأتي الاحتراق على قدر كبير منها مثلما هو الحال في «احتراقات أنثى».