يصدم القاص منصور العتيق في مجموعته القصصية «إيقاظ الموتى» قارئه، ويضعه أمام فضاء لا شيء يشير إليه سوى الموات وما ينتجه من دلالات ورموز. وكأن ثمة خيطاً رفيعاً مصنوعاً من هواجس مرعبة تسيطر على سرده بالكامل. هذه الهواجس ليست سوى فكرة أن تتحول المدينة (الرياض) إلى قبر قديم. يقول: «مدينتنا قبر قديم ومهمل، يغطيه الغبار والحكايات القديمة والفتاوى» ص8. ثم تأتي قصص المجموعة باعتبارها تنويعات على هذه الفكرة. وإذا كانت الفكرة لا تخلو من دلالة، فإن السؤال الذي يثار بهذا الاتجاه، هو كيف يمكن أن تسوء علاقة الفرد بمدينته، ولماذا؟ وقبل الإجابة، علينا أن نسأل أنفسنا عن طبيعة هذه العلاقة، وعن تجلياتها داخل السرد؟ في قصة «فارس أحلام الفزاعات» يوجد عالم القرية من جهة وعالم المدينة من جهة أخرى. الأول يمثله شخصية الفلاح منيف وشاعر القرية مقرن، والآخر يمثله شخصية الشيخ بسام. المواجهة بين العالمين يقيمها السارد ويختزلها بين شاعر القرية وشيخها. الناس تتغنى بقصائده فتزهر الحياة في القرية، بينما تعاليم الشيخ وسلطته تجلب التعاسة والمرض والخضوع. تنتصر السلطة على الغناء. يختفي مقرن ومن ثم تكمل القرية مراسم الخضوع على حد قول السارد. القصة هنا لا تكتفي بالشخصيات لتمثيل هذه المواجهة. هناك مواجهة أخرى بينهما على مستوى الرمز. تكاثر الفزاعات في حقول أهل القرية هو تعبير رمزي عن تكاثر السلطة. تنتهي القصة عندما يقرر منيف القول: «بعد اختفاء مقرن صار أهالي القرية يتناقصون شيئاً فشيئاً. فيما ازداد عدد الفزاعات بشكل ملحوظ». تتعاظم المواجهة بالرمز كلما كان السرد يروي قصصه من داخل المدينة نفسها - وهذه لها دلالة سنعود لها لا حقاً - وهذا ما نجده في بقية قصص المجموعة. ففي قصة «الرجل الذي تخونه الأبواب» الشخصية الساردة بضمير المتكلم ترى حياتها داخل المدينة مجرد أبواب خائنة، فالدخول إلى أحد الأبواب، أو الخروج منه، يفضي بالرجل إلى الأمكنة الخاطئة، فعندما يريد أن يدخل إلى منزله يرى نفسه قد دخل مصنعاً أو مسجداً أو حتى حماماً عمومياً. وهكذا تجري أحداث القصة. هنا تحضر لعبة الأبواب والمتاهة كإحدى التقنيات السردية التي يتم توظيفها للدلالة على رؤيتين: الأولى تكريس صورة المدينة بوصفها قبراً كما أشرنا سابقاً. والأخرى تعميق أزمة الذات وضياعها في هذه المتاهة، خصوصاً عندما تتحول الأحداث المهمة في حياة الإنسان إلى مجرد باب: «كنت قد رضيت بالطلاق بعدما آمنت أن زواجي لم يكن سوى باب خائن آخر.ص24». والذي يشدُّ القارئ أكثر إلى بعض قصص المجموعة هو تنويعها في استخدام حيل سردية أخرى. فقصة» وقائع مختصرة لسجود طويل» هي نوع من المناجاة مع الرب من خلال السجود. لكنها في العمق هي نوع من المحاكاة الساخرة. تنفتح القصة على مشهد السجود، ولفظ «سبحان ربي الأعلى» يمتزج بتداعيات منولوجية يشتكي فيها السارد من قلة حصوله على أنثى على رغم أن الإله خلق «حشداً متنامياً من الإناث». ثم ينتهي السجود بإغفاءة حلمية - والعلاقة المكانية بين السجود والإغفاءة هنا ذات طابع دلالي يعلي من شأن قيمة الرؤية السردية للقاص بامتياز - بعدها يروي فيها السارد رحلة سفره مع «جمع متعب» على الجمال من قلب الصحراء إلى مدينة يثرب، وبينما الجمع يذهب إلى التعبد في الحرم، هو يكون على موعد غرامي مع أنثى. هذه المفارقة التي يضعنا أمامها السرد تجعل من بطل القصة - وهو السارد العليم - يدخل في حالة سجود فيها شحنة من الاعتذار بالقدر الذي فيها من التبرير: «سبحانك لم يكن لي يد! أنا لم أخلق فستاناً أحمر مثيراً ولقاء أول، لم أخلق أنثى وأحملها من الأوراق الخالية ما لا قدرة لحروفي باحتماله... سبحانك كان الورق خالياً، وكان لا بد من بعض النصوص.ص31». في النهاية تقدم لنا القصة موقفاً من الكتابة تنهض بوصفها المعادل الموضوعي لحياة المدينة، وحياة الإنسان فيها، لذلك قيمة هذا الموقف من الكتابة تتجلى من خلال نصوص المجموعة، في أمرين: أولهما إضفاء الإحساس بقيمة الشعور الإنساني على الأشياء، مثلما هي حالة الأبواب، لمبة الشارع، صور الأشخاص المعلقة على الحائط، القطعة الأثرية في المتحف.وهو إضفاء يعكس بالضرورة الأمر الآخر، ألا وهو الانفتاح على المخيلة الشعرية بحدود معينة على السرد، بما يسمح للكتابة أن تقف بالضد من حالة الموات التي يعيشها الإنسان داخل مدينته. إن الانفتاح على توظيف المخيلة لم يأتِ مجاناً هنا، بل له صلة وثيقة بحياة الكاتب وحياة مجتمعه في المدينة، هو نوع من الاحتماء أو الستر، كلما اختبأنا في ثنايا المخيلة أكثر كانت حريتنا في القول أكثر تجريبية وتفرداً، والأهم القدرة على توظيف مثل هذا الاختباء كما رأينا هنا في قصص المجموعة. الثبيتي... منطقة ملتبسة في التعبير يذهب القاص ماجد الثبيتي في مجموعته القصصية «الفهرست وقصص أخرى» في غالبية نصوصه إلى منطقة ملتبسة في التعبير، منطقة سردية تتصف بالتكثيف المجازي تارة، وبالسرد السحري المفارق للواقع تارة أخرى، وبالتجريب الدّال أحياناً أخرى. وهذه المنطقة السردية أقرب ما تكون إلى فضاء النص المفتوح أكثر منه إلى السرد القصصي فقط. هذا الالتباس يعطي لنصوص المجموعة فرادتها. فالنصوص «عائم، وخرز، قياسات طويلة، ويخون» هي نصوص سردية مفتوحة على الإيحاءات والدلالات، يشترك القارئ في لعبة ضخها بالمعنى، أكثر من كونها متوالية سردية من الأحداث، والشخوص. وكونها كذلك فهي تستثمر طاقات السرد شعرياً، وتخصب به رؤاها. فالرأس المقطوع العائم المتصل بحبل في سقف الغرفة هو للسارد، وحينما يصف رأسه فهو يحول رعب المشهد إلى جماليات سردية، وكأنه يصف تحفة فنية مصنوعة بإتقان. الشعور بالألم والإحساس بالخوف يتراجع خلف المشهد، ليتيح للغة الشعرية المسرودة أن تخلق رؤية متعددة الدلالات قائمة على مبدأ التناقض بين بشاعة المشهد من جهة، وجمال السرد الشعري من جهة أخرى. أما نص «خرز» فهو أيضاً قائم على مبدأ التناقض، ولكن بتصور يختلف عما كان عليه في النص السابق، فالمتخيل السردي هنا وظيفته تكمن في خلق دلالة نصية للعبور إلى الكتابة، وذلك من خلال إماتة الحاسة البصرية، وإعادة تأهيلها من جديد «من يقدر أن يفقأ العين اللدنة بالمخرز، أن يحرك رأس المخرز في كل الماء، يقدر أن يعبر هذا السطر حتى النهاية ص11». فالعبور مشروط هنا بالولادة. لكن لماذا الحاسة البصرية تحديداً؟ هنا يمكن أن نشير إلى مفهوم التجريب وعلاقته بالكتابة من منظور القاص نفسه. فالسطر هو تتابع سردي له علاقة بالرؤية البصرية، وكأنه يشير بطرف خفي إلى المعادلة الآتية: نص العبور إلى الكتابة الجديدة مشروط بولادة جديدة متصلة بالحاسة البصرية. والدلالة نفسها نجدها تتكرر في قصة «أصداء عملي الروائي الأول»، فبعد أن يضع الراوي كل تصوراته وخططه وقناعاته حول كيفية إخراج العمل الروائي الأول له إلى القراء، وتصوره أنه بعمله العظيم سينقذ الأدب من الابتذال والسطحية، وإنه سيؤسس إلى مفهوم جديد للكتابة الروائية. لكنه بعد ظهور العمل يفاجأ بأن الأصداء لم تكن كما يتوقعها. خاب ظنه! لكن دلالة القصة تتجمع عناصرها في النهاية، عندما تأتيه رسالة من قارئ بعد خمسين سنة، يقول فيها عبارة موجزة: بروايتك، «لقد أنقذت حياتي» هنا يقول بعدها الراوي «أستطيع الآن أن أبدأ بكتابة الجزء الثاني من العمل». لقد قدّم لنا القاص الثبيتي مجموعة قائمة على التنوع في توظيف التقنيات الأسلوبية والبلاغية والجمالية من قبيل: أولاً - مبدأ التناقض كما رأينا في النصين السابقين. ثانياً - شعرية المفارقة في موقف الشخوص كما في قصة «صرخة» وقصة «أقسم بالله أنني سأنام». ثالثاً - شعرية التهكم على الموروث كما في قصة «عين واحدة فقط» وقصة «ثأر» وقصة «العشم»، فالأولى تتمحور حول زرقاء اليمامة، والثانية حول الكبش الذي يمثل إحدى أساطير القرية، والثالثة تتمثل حول استنطاق «إبليس» في الموروث الديني. رابعاً - شعرية حضور الإنسان في الأشياء كما في نص «صراحة» ونص «قرار مفاجئ» و«تطلعات نسوية»، وهي نصوص تخلع على الأشياء كالبحر والجدار دلالة الحركة عند الإنسان، كي يُظهر السرد توتره الشعري بامتياز. لكن من جهة أخرى نجد أن دلالة التجريب عنده لم تنجُ من الوقوع في فخ التجريب اللفظي الذي لا تتجاوز دلالاته، ولا معناه، حدود مساحة اللفظ فقط، بسبب انسداد الأفق المفضي إلى تخييل الواقع وتفتيت تناقضاته. كما في نص «توطئة نفسية» وأيضاً نص «تجاسد». أما إذا أردنا الحديث هنا عن المعنى الاجتماعي والثقافي ودلالته المتصلة بموقف الكاتب من مفهوم التجريب في الكتابة، وانطلاقاً أيضاً من مقولة «بارت» الأسلوب هو الحياة، فإننا نكشف عن أسلوب تعبيري يحاول أن يذهب إلى أقصى حد ممكن لتفجير طاقات السرد ومكوناته من جهة، والشعر وطاقاته التخييلية والبلاغية والجمالية من جهة أخرى، وهذا المنظور إلى الكتابة يكاد يشترك فيه جل جيل ما بعد الألفين من المبدعين والكتاب - والقاص هنا واحد منهم. * ناقد وشاعر سعودي.