مازال أولئك الذين امضوا ربيع أعمارهم في أزقة وأحياء القرية القديمة، يتذكرون جيداً كيف كانت الأرياف واسعة بسعة صدور أهلها وساكنيها، بل كيف كانت الحياة آنذاك سعيدة بسعادة الناس وترابطهم وتواصلهم، إذ من الصعب على أهالي القرى أن يتناسوا بساطة عيشهم وبركة يومهم بعيداً عن ملاهي الحياة ومشاغل الحياة المعاصرة. حين تعود إلى مسقط رأسك لن تجد الماضي إلاّ تاريخاً يروى وذكريات لن تعود مهما كانت المغريات والسؤال: كيف هي الآن حياة القرى؟، وكيف ذابت ملامحها وسط العمران الحديث والثورة الاتصالية؟، بل أين هم معظم سكان القرى في العقود المنصرمة؟.. هذا ما يجيب عنه أبناء القرى الذين مازال حنينهم إلى الأيام الخوالي يستدعي منهم سرد ذكرياتهم المشرقة حيث كان القرية قرية بما تعنيه الكلمة. ساعة الفجرية يتذكر الشاب "سعد" المغرم والحنون لأيام الصبا في القرية، كيف كان كبار السن يقضون يومهم منذ الصباح الباكر، مع آذان ذلك الديك المنتصب بكل شموخ وكبرياء فوق سور "الحائط"، وحيث يؤدي الجميع فريضة الفجر بالمسجد، يجد كبار السن وجبة "الصبوح" على "طوفرية" المعدن التي تتوسط "القهوة" أو الدوانية حيث "سفرة الخوص" تزخر بأطباق "المراهيف" أو قرصان البر والجبنة المنزلية والحنيني أو العصيد وهي السفرة الدائمة لمعظم شيبان القرية الذين يحرصون أشد الحرص على أن يشاركهم فيها عدد من الجيران أو جماعة المسجد، ولذا كان الأهالي حينذاك يحرصون على جعل واجهات منازلهم الطينية تجاه القبلة، حرصاً منهم على استقبال الضيوف لا سيما أولئك الذين وفدوا من وإلى اليت الحرام. كانت ساعات الفجر الأولى في المواسم الباردة خاصة حين هطول الأمطار، تمثّل لوحة، بل تحفة فنية يعجز عن وصفها البلغاء من الرسامين والرواة والشعراء، حيث كان الذهاب والعودة من وإلى صلاة الفجر وسط خرير الماء من مرازيم الدور والمنازل الطينية يمثل آية من آيات السحر الحلال، لا تكاد العين تنساها وليس بمقدور اللسان أن يصفها، كانت المساجد عامرة وكان الأبناء بصحبة آبائهم، حيث يتناول الجميع "الصبوح" وما هي إلاّ ساعات قليلة ويحمل الأبناء "هم" أنفسهم فيحملون حقائبهم إلى المدرسة الحكومية التي استأجرتها "وزارة المعارف" لتعليم أبناء الحي، وهو ما يخلي ساحة المنزل ل"أم سعود" التي سبقت الجميع في النهوض باكراً، حيث صلّت فرضها وخبزت خبزها، ثم مع ذهاب الأبناء إلى المدرسة، راحت تجمع "بواقي" طعام أبنائها من قشور الحبحب والخريز مع شيئاً من "القت" لتقدمه "نفيع" لبقرتها الحلوب، التي تلتهم هي وعجلها الصغير "صفرية" الزاد المقدم لها، في حين تظل "أم سعود" منهمكة في حلب البقرة كي تملأ "الصميل" اليومي الذي اعتادت أن تصنع منه القشطة والجبنة وحتى الزيدة، وبعد قليل سوف تذهب مع صويحباتها ليزعبن القليب، ويتركن ما تبقى من سواليف وحكاوي لساعة العصرية، حيث الوقت حينذاك يستوعب الجلسات وتبادل الزيارات، ولا بأس بشيء من هذا في ساعة "الضحوية" التي لا يقطعها إلاّ جملة لطالما رددتها نساء ذلك الزمان تقول إحداهن "أبي أقوم أزهب الغدا لابو فلان". مدرسة القرية ينشغل الآباء حين ذهاب أبنائهم إلى المدارس بالفلاحة، أو يجتمعون في سوقٍ عشوائي تُجلب إليه البضائع المختلفة، ورغم أن الذهاب إلى هذه الأسواق كان -في الغالب- يتزامن مع عطلة المدارس، إلاّ أن حركتها التجارية تنشط أحياناً وسط الأسبوع، حيث يفد البعض من القرى المجاورة، وهناك تعرض قطعان الماشية وأكوام الحطب وأباريق ودلال القهوة، كما تعرض قدور الطبخ وشبوك الحمام، فهناك من يبيع الحبحب والقرع ومن يبيع "حبوب اللقاح" وهناك من يعرض عمله كأجير لصرم النخيل وحفر أشراب السواقي، وهناك "المهندز" الذي يصلح ماكينة البلاكستون وحينها كان سوق "الخميس" أو سوق "الاثنين" -قل ما شئت من أيام الأسبوع- يمثّل حراكاً تجارياً يحرص الجميع على ارتياده. أطفال يلهون على رمل المباني مع بداية الطفرة دكان أبو ساير لم يكن هذا السوق أبداً منافساً لدكان "أبوساير" الذي يتوسط الزاوية الشرقية للقرية، يقبع هذا الرجل الطاعن بالسن في غرفة لا تزيد مساحتها عن أربعة أذرع طولاً وعرضاً، وكان "أبو ساير" يتوسط دكانه لا يقطع عليه قراءة القرآن الكريم عدا صوت آذان الظهر، ودخول الأبناء والأطفال عليه حيث يشرون علوك "اللبان" وحلوى "خد البنات" وعلى عتبة باب الدكان كان يجلس الأطفال في منظر لا يغيب عن ذاكرتهم في هذه الأيام، حيث يلتهمون بسكوت "الجلكوز" و"القشطة" و"السعادة" و"الميزان" ويتفاخرون باحتساء "الكندا داردي" في حين تظل بضاعة "أبوساير" القابعة في زاوية دكانه كالأسرجة وليف الدلال و"فتيل" دوافير الغاز ومفكات "أبو جلمبو" تنتظر زبائنها من شهر لشهر. تكميلة دوري الحارة تحولت من «سروال وفانيلا» إلى قمصان «برشلونة» و«ريال مدريد» كان الآباء الذين قبلّوا مزارعهم يقضون يومهم برش المنزل بالماء، أو متابعة العمار، حيث بدأ الصندوق العقاري يمنح القروض للمتقدمين حتى بدت للعيان بعض المنازل المسلحة بالبلوك، إلاّ أن سقفها ما يزال محتفظاً بمرابيع الخشب التي يحتال الأهالي حينها بتغطيتها بقطع القماش، التي لا تسلم من أكنان وأعشاش الخواطيف والحمام. سواليف الحريم وفي حين تجتمع النساء في العصرية أمام "باب الحريم" كانت السواليف تنقضي بين فلانة التي يشكو ابنها من "العظيم" وفلانة التي دخلت مع زوجها "أبو ناصر" إلى الرياض، حيث استطاعت أن تتبضع من "حلة القصمان" وتجلب لجاراتها أقمشة وفساتين "الورسي" و"البوال" و"الكلوش" وهو مازاد من عتب "أم سعد" الدلالة التي كانت تحمل في بقشتها "علك اللبان"، و"أبو فاس" و"الديرمان"، وكل ما تلبسه النساء وتقتنيه. كانت سواليف حريم القرية لا تنقطع مع شاهي الشيح والمرامية وحب القرع، وكنّا جميعاً يرأفن لحال "مزنة" وشقيقتها "لطيفة" اللائي عشن يتيمات عند جدتهن "موضي" في حين كان شقيقهن "تركي" لا ينقطع عن جده، الذي تركه عند مطوع القرية، ليحفظ ما فتح الله عليه من آيات القرآن العظيم. بعض القرى لا تزال تحتفظ بأطلال الماضي ولكن من دون فعاليات الأستاذ حسني! كان الأطفال يملأون فضاء القرية صخباً، ففي الوقت الذي ذهب فيه "رشيد" لرعي أغنم جدته، تلقى هذا الطفل الصغير توبيخاً من والده حيث استطاع "ملهي الرعيان" أن يشغله عن أغنام الجدة، في حين عاد هذا الصغير والأغنام تتضور من الجوع كما لم يضظفر هو بذلك الطائر الذي طالا ضحك على "الرعيان"، وفي حين كان هؤلاء الصغار في مدرستهم التي يساق إليها البعض سوقاً، كان الأستاذ "حسني" ينتظر المتأخرين عن الطابور الصباحي ملوحاً بعصاه الذي اشتراه من دكان "أبوساير".. هذه العصا التي لطالما أرعبت أبناء القرية، لا سيما حين يبدأ التسميع لجدول الضرب، أو حين يطلب الأستاذ "حسني" -الذي لم يكن له من اسمه نصيب- من أحد طلابه أن يخرج للسبورة ليجري عملية القسمة، أو يحل بعض مسائل الجذر التكعيبي أو الجداء الديكارتي. كانت أوقات الفسحة في مدرسة القرية لا تخلو من صفقات بيع العكوس أو تبادل أجواز الحمام، التي يتم إبرامها أثناء "الطلعة" أما دفاتر الطالب "أيمن" الذي استلم والده مهام الإشراف على الطريق الجديد الذي يربط القرية ببعض المدن والقرى المجاورة، فقد كانت بمثابة المنقذ لزملائه الطلاب من لسعات عصا مدرس الرياضيات "حسني" الذي أصبح في آخر السنة صديقاً ودوداً لمعظم الطلاب، وحين الاختبارات يسعد الطلاب بالخروج الباكر من مدرستهم، حيث يتسابقون لدكان "أبوساير" الذي يشرون منه "مربى الحبحب" وربع كيلو حلاوة طحينية "أم نار" وعلبة من التونة المستوردة ذات المغلف الأصفر، يلتهمونها عند أقرب "حايط" مع عصائر الطماط والمنقا "قها"؛ إذ لا مكان حينها للبوفيهات والمطاعم التي يقتصر تواجدها على الخط السريع، حيث شوايات الدجاج و"المعرّق" ورؤوس الشيشة وترامس الشاي للكدادة. تلفزيون على البطارية و»ترمس شاي» على الرصيف دوري ومنافسات كان الشباب في القرية يجدون أنفسهم أكثر قدرة على مواكبة العصر، فهم ومن خلال "ملعب القرية" الذي يقبع غير بعيد عن المزارع، يستطيعون أن يجروا منافسات فيما بينهم وبين القرى المجاورة، كما أنهم يحاولون قدر إمكانهم محاكاة ما يسمعون عنه في عالم الكرة، حيث تردهم الأخبار في الإذاعة ويسمعون من خلال ذويهم الذين يزورونهم في الأعياد عن "الدنيني" و"محسن بخيت" و"سلطان مناحي" و"أبو حيدر"، وكان "سلّوم" الذي يمتلك "ونيت" غمارتين يحاكي في مشيته نجمه المفضل "الأمبراطور صالح النعيمة" في حين يسمع من خلال تصفيات كأس العالم 1978م عن النجم الأرجنتيني "باسارلا"، كما يسمع أخوه ب"شوشة" اللاعب "كنبس" ولا يقابل هذا الحماس إلاّ "حمد الحرّيف" ذلك الشاب الأسمر الممشوق، الذي ترتعد لحضوره فرائص لعيبة الدفاع، لا سيما وهو يلقب ب"السهم الملتهب"، وعليه كانت مباريات "دوري القرية" وربما القرى المجاورة، تظل إلى آخر لحظة مفعمة بالحماس والندية لا يقطعها إلاّ حفيف أشجار الأثل من المزارع المجاورة حيث يبدأ ثوب الظلام يكتسح القرية وسط آذان المغرب. كثيراً ما كان شباب القرية يقضون فراغهم في المكاشيت وهناك يطرحون "المدة" أو بساط ال"باشكير" على الأرض، ويوزعون أعمال الشاي والطبيخ والشوي، ويظلون بين منافسات "الكيرم" و"الضومنه" يتحدثون عن اتفاق مسبق يعقدون فيه العزم للذهاب إلى الرياض.. نعم يتفق الجميع على أن يزورا العاصمة خلسة دونما يشعر بهم أحد، وعليه فإنهم سوف يضطرون إلى إقناع الصبي "ناصر" الذي كان بصحبة أخيه، ويلحون عليه بأن يخفي سرهم عن شيبان القرية، وهناك حيث الشواء على النار وأقداح شاي الزنجبيل تطال الجميع يبدأ "مانع" بالحديث عن زيارته إلى لبنان يوم أن رافق والده لمعالجة جدة في بيروت، حيث وصف "مانع" ما شاهده هناك وسط ذهول أصحابه الذين زادهم هذا الوصف حماساً لعقد صفقتهم التي اتفقوا عليها، حيث صباح الخميس المقبل موعدهم عند مزرعة "أبو طليحان" لتنفيذ مخططهم لزيارة مدينة الرياض. كان "مانع" قد جلب معه جهاز "تلفزيون" صغير فاجأ به الجميع، وحينها بذل الجميع ما بوسعهم لتشغيله على بطارية "الونيت"، وفعلاً ظهرت الشاشة البلورية وهي تتغنى "يابنت حساني.. أبوك وصاني.. لا تشترين الذهب.. إلاّ بميزاني". اللعب بالثوب جمع أهل الحارة من دون كلافة ملعب الملز في يوم الخميس نفذ شباب القرية وعدهم بالذهاب إلى مدينة الرياض، حيث ذهلوا وهم يرون ميادين كبري التجارة، وظلوا يبحثون عن ملعب الملز إلى حين أن نزلوا إلى ساحاته، وهم على موعد مع إحدى المباريات المهمة، حيث انقسم الجميع بين المدرج الشمالي والجنوبي وراحوا يرددون مع بداية المباراة "شرلّا.. شرلّا.. أول ما نبدى وش نقول شرلّا.. بعد الصلاة على الرسول.. شرلّا"، وفي آخر المباراة التي طوح بها "ريفو" الكرة إلى الدرجة الثانية راحو يرددون "إلعبوا وإلا سرينا غابت القمر علينا". كاميراً فورية وما أن عادوا إلى قريتهم إلاّ واستطاع "سلّوم" الذي التحق بالثانوية التجارية بالرياض أن يبدأ بالصرف على ملعب الحارة، لا سيما وهو الآن يستلم شهرياً مكافأة قدرها (450) ريالاً، واستطاع من خلالها أن "يرهّم" سيارته "الونيت"، ويشتري كاميرا "كوداك"، ذات التحميض الفوري، ليسارع في توثيق ملعب الحارة، ويصور أبناء قريته وأعضاء الفريق الذين اجتهدوا أن يظهروا بزي واحد ولون واحد، لولا أنهم لم يستطيعوا، ربما لأنهم لم يلتحقوا هم أيضاً بالثانوية التجارية حينها. بكاء على الأطلال قبل بضعة أيام زار "سعد" قريته التي أمضى أيام طفولته وبدايات شبابه بين أكنافها وأزقتها، فماذا وجد؟.. لا أثر لحياة أجداده هناك، فلا ديك يصيح ولا بناء من الطين.. نعم لقد أصبح سوق القرية سوقاً مركزياً، ولا أثر أبدأ لموقع مدرسته التي قضى زهرة شبابه في حجراتها، حيث اعتلت القرية أبراج الاتصالات وأصبح أبناء الجيران يتراسلون ب"الواتس اب"، ويناقشون "فكرياً" أقرانهم في كل مكان من خلال "تويتر"، بل لقد اعتادت النساء هناك على زيارة "الكوافيرة"، وأصبح "الكوفي شوب" الذي يستقبلك على الطريق السريع، فرصة لتجمع أبناء القرية لمشاهدة مبارريات كأس العالم والدوري الأوروبي، وأصبح "وليد" و"مازن" يلبسون قمصان "البرشا" و"الريال"، وبقي "سعد" يذكر أيامه الخوالي، حيث كانت والدته تناديه عند "معلف البقرة" وحين كان يقفز بين النخيل ليحصل على أكبر "كومة" من الليف وهو في طريقه عائداً من المدرسة، ليهديها لوالدته التي كانت منهمكة في زعب الماء من القلب، تذكّر "سعد" كيف كان "راديو" جده يتناغم بعد صلاة العشاء مع ماكينة "البلاكستون" التي تعلو فوهة القليب، وكيف أن "لمبة الصوت" حينها كانت حديث "شيبان القرية"، لا سيما حين يحل بها العطل وينقطع عنها صوت ذلك المذيع "الأجش" الذي كثيراً ما ينام الصغار على مطارحهم وهم يسمعون صوته من تحت وسادة جدهم وهو يردد "في ذبذبة قدرها...". تنكرت القرية على "سعد" الذي سأل عن أبناء ذلك الزمان، فوجد بعضهم أصبح من أهل المدن، فيما رحل أكثرهم إلى الحياة الآخرة، غير أنه وجد هناك منزل صغير لا تحيط به أبراج الجوال ولا تعلوه لاقطات "الدش"، ولقد سر كثيراً حين علم أن هذه الدار التي لازالت محتفظة ببقايا تراث القرية القديم عامرة ب"مزنة" و"لطيفة"، اليتيمتين اللتين أصبحتا اليوم جدتين لثلة من الأبناء والبنات الذين يحظون باحترام أهالي القرية، حيث حصلوا على الشهادات العليا، وخدموا بلدتهم الصغيرة، التي راح سعد يزور مقبرتها وهو يتذكر جيداً مقولة كان يرددها والده مفادها "عاشر من تعاشر فلابد من الفراق"!. جيل «صدر مفتوح» وثلاثة أزّرة على «قلب واحد» مدرسة القرية وثّقت أجمل الذكريات محل «نوفتيه» استغنى عن «بقشات» نساء الحارة