عندما نتجول في مختلف المدن يشد انتباهنا تلك المجسمات التي تهتم بتوثيق العديد من جوانب التراث والموروث بكل أنواعه. تراث محسوس ملموس مادي وجانب منه معنوي لا نستطيع رؤيته لكنه يهمنا أثره وتأثيره في حياتنا وما يعكسه من أساس للثقافة والحضارة. والرموز المختصرة تلك تأتي في صورة مادية كعنوان لتأييد المجتمع وتمسكه بما يعنيه هذا الرمز أو المجسم التراثي. والضيف يقرونه من الحيل والضان على الشحم ومهيلات الدلالي هذا التعلق من قبل المجتمع والارتباط بالقيم ومعانيها والحرص على تطبيقها أفرز عددا من الأعمال الفنية التي تمثلها لوحات وأشكال ومجسمات تراثية متعددة مستقاة من التراث والموروث الأصيل، تحاكي ما كان بالأمس مما له ارتباط بعادة أصيلة أو ترمز إلى فضيلة وقيمة دينية واجتماعية كالشجاعة والحمية والكرم وأي أسلوب حياتي وسجية نبيلة. مجسم البئر إن جولة في مدننا وميادينها تكشف لنا عن سجل متعدد الألوان والعناوين رصدت فيه جوانب عديدة من حياة الأمس، من خلال مجسمات تراثية أقيمت فيها لكي تحقق حضور تراثنا والموروث متكاملا بكثير من تفاصيله مع الحرص على تثبيته من خلال كل رمز لها مجسم تراثي يحقق الجمال والمعلومة والعمق في معانيه. ومن أمثلة تلك الأشكال الجمالية: مجسم دلة القهوة أو الفنجال، ومجسم الهاون (النجر) أو محماسة القهوة أو الإبريق، وهي رموز الغرض منها الدلالة على قيمة مهمة هي الكرم، وتقديم حق الضيافة وقرى الضيف، كما تعني أيضا الترحيب والاستقبال الحسن، والقبول والأنس من خلال المجالس. ومن ذلك أيضا مجسم لمدفع أو بندقية أو سيف أو رمح أو قوس وسهم ، وكلها ترمز للشجاعة والحماية والقوة. أيضا هناك من المجسمات ما يرمز لحياة البساطة الخالية من التعقيد، كالسراج والمنفاخ والقربة والزير وغيرها. وهناك ما يرمز للمعاناة وحياة الكد والكدح والمعاناة والصراع من أجل لقمة العيش، مثل البئر، والمحراث، والمسحاة، والدلو والرحى والمنحاز (المهراس) وعموم أدوات السانية.. الخ. ولا يكون الرمز هذا أو أي شكل أو مجسم لعنصر تراثي من الأمس مجردا من المقاصد والأهداف، ولا هو صفحة من صفحات التاريخ فارغة ومفرغة من معانيها، بل إنه ناطق بعدة معان محتفظ بسيرة وأسلوب حياة أهل المكان فهو تعبير بلغة تاريخية عن حالهم وماضيهم ونائب عن لسان القول منهم ولغتهم المعلنة. لقد تمسك مجتمعنا بأصالة في علاقاته وترسخت قيم عالية القدر كالكرم مثلا والترحيب بالضيف ومساعدة ابن السبيل والمنقطع في السفر، ومن اصابة ضيم ومعاونة المحتاج وسد حاجته ودعمه، وأيضا تقدير الجوار والمحافظة على العلاقة الطيبة معه، والتعامل بالخلق الحسن، والصفح في حال الزلل. ولقد مرت عصور على ساكن الصحراء توصف بأنها عصيبة وظروف قاسية، بسبب قلة الموارد وشظف العيش ومن ثم الفقر وانتشار الأوبئة والأمراض، ولكن الله أعانه وتجلد وتصبر فصبر، وحاول بكل امكاناته المتاحة ولو كانت بسيطة، مجابهة تلك الصعاب، فصارت الأدوات التي جربها واستخدمها وخلفها إرثا بعده وجزءا من تراثنا اليوم يتذكرها كل جيل ولا ينساها، وصار المجتمع يطبقها ويعتز بها ومن شدة اقتناعه بها يحافظ عليها ويرمز لها بتلك المجسمات التي نراها في ميادين المدن، لتكون رسائل ودروسا وعنوان تجارب باقية لأجيال قادمة. هذه الرموز تتم قراءتها في الطريق بكل وضوح فنحن نسير ونقلب صفحات دونها المجتمع عن حاله وعن ماضيه فنرى السيف والبندقية، وشعار الوطن فندرك التلاحم والتعاون تحت ظل راية التوحيد، وكذلك الكثير مما دونت وعبرت عنه الرموز التراثية تلك. وتعد هذه الرموز التي تشكل عناوين عادات وتقاليد موجودة منذ القديم ولا تزال، ترجمة تغني عن قراءة العديد من الأوراق والكتب التي يمكن تأليفها في مجال التراث، وبتلك الرموز يتلقاها الناظر سريعا وباختصار ومباشرة، فيفهم ما ترمز إليه بسرعة وأيضا من خلال منظر جميل جذاب، يزين الميادين ويرسخ ما وراءها من قيمة وعادة حسنة وما تعنيه من تقليد محبب. إن مما يلاحظ على مختلف البلدان: قراها ومدنها، تعبير أهلها من خلال تلك الأشكال واللوحات والموروثات والمجسمات بمنهج ضمني تلقائي من خلال مزج كل ما تعنيه بالقيم المعنوية كالشهامة والرجولة وحفظ الجوار وثقافة الإيثار والكرامة والبعد عن العيب والارتفاع بالأخلاق. وكلها ثقافات مترابطة يقوي بعضها بعضا ويكمل معه نسيج عادات وتقاليد المجتمع الأصيلة التي تأصلت وفق مبادئ صحيحة. ولأن التراث والتاريخ والثقافة ميدان واسع، ويضم جوانب عديدة فإنه يتم انتقاء عينات تمثل عناوين بارزة في تراث الأجداد وقيم المجتمع وعاداته ولتلك العينات صفة الشمول وتقديم أكبر قدر من المعاني في تعبيرها للمتلقي. وإذا عرفنا العمق الكبير والمعاني الزاخرة في تراثنا وموروثنا وثقافتنا وتاريخنا وتعدد الجوانب التي تضمها سواء كانت مادية أو معنوية، محددة بينة أو ضمنية، ظاهرة أو خفية، أدركنا أنه لا يمكن حصرها في جوانب معينة أو تقديمها بشكل سريع ومختصر إلا من خلال رمز قد يسعف في التعبير من خلال دلالته ورمزه بشرط أن يكون قدرا على جمع المعاني في أقل صورة تعبر عن لغة مرئية يفهمها الجميع. هذا السجل الحافل بكل ما هو جميل فيه الكثير مما يمكن الرمز له وإيصال فكرته لتبقى مع الأجيال، ففي الكرم دروس وفي الرجولة كذلك وبشاشة الوجه والترحيب والتسامح والبساطة والشهامة والترابط والإيثار.. الخ. يقول الشاعر دغيم الضلماوي و هو من المشهورين بالكرم: يا كليب شب النار يا كليب شبه عليك شبه والحطب لك يجابي علي أنا يا كليب هيله وحبه وعليك تقليط الدلال العذابي و يقول الشاعر راكان بن حثلين: قالوا خيار وقلت ماهو خيارا مابه خيارٍ كود زينات الاثمار هذا البيت بداية القصيدة والمستحث للقريحة، حيث قدم له شيء لا يعرفه و هو خيار، ولم يكن يعرفه من قبل. ويقول في معرض الصفة الطيبة والمدح أيضا: راعي دلالٍ كنهن الغرانيق فيها العويدي باشقر البن فاحي وأما الشاعر تركي بن حميد فيشمل بقصيدته الكثير من المعاني والخصال التي ترفع من شأن الفرد والجماعة وتبعث على التواصل والتقارب فيقول: ياما حلا ياعيد في وقت الأسحار جر الفراش وشب ضوالمناره مع دلةٍ تجذا على صالي النار ونجرٍ ليا حرّك تزايد عباره النجر دق وجاذبٍ كل مرار ما لفه الملفوف من دون جاره وإذا كان المجتمع من قديم يحرص ويتفقد ويتلمس مواطن المدح والثناء والرفعة وقبل ذلك يطمع أن يصل إلى الخير والعطاء وما ينفع الناس ويرفع عنهم العوز والحاجة والغنيمة منها لتبقى سلوكا وأسلوب حياة، فإنه بلا شك يحب أن تمتد هذه الخصال والأساليب الحياتية والخصال المحبوبة المرغوبة في خلفه كما أخذها من سلفه. من هنا جاء التأكيد على انتقاء رموز تراثية تمثلها تلك المجسمات المتنوعة المنتقاة، كل واحد منها يفتح لنا صفحة من الماضي ويطلب منا قراءتها بتمعن. ونختم بهذه القصيدة في حب الديار وأهلها والكرم والسجايا الطيبة يقول الشاعر مناحي الرمالي فيها: قالوا لي صيف يم الاردن ولبنان قلت ابي اصيف يم ديرة خوالي بارض الشمال ديار ذربين الايمان ذخري وعن شمس القوايل ظلالي الى قوله: والضيف يقرونه من الحيل والضان على الشحم ومهيلات الدلالي