في كل عام يتجدد الموعد مع المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، و بتجدد تراثه، وثقافته، وبتجدد الوجوه التي تطل في المهرجان بشكل سنوي، وعلى مدار 27 عامًا مازال هذا المهرجان محطة بارزة للتراث والثقافة في وطننا الكبير، ومازال يمثل الأصالة والمعاصرة في نفس اللحظة، وكلما تقدم به الزمن كلما لمع بريقه أكثر فأكثر، وكلما ازدادت الموضوعات في الساحة المحلية والعربية والإقليمية سخونة كلما كانت رؤية القائمين عليه أكبر وأوسع وأشمل. في الدورة ال27 للمهرجان من هذا العام، تنوعت الصور وتوزعت الزوايا لترسم الملامح جيدًا في ذلك المكان الذي يستنشق منه الزائر رائحة الماضي وعبق الزمن الراحل. فهاهم يأتون من كل أرجاء الوطن حاملين على أكتافهم ما يحاكي تاريخ الأسلاف، وما يعكس حياة الأجداد، تلك الحياة التي كلّما ازداد الزمان بعداً عنها، كلّما ازددنا حنينًا إليها، وكلما طوّحت بنا الحضارة الشاهقة كلما زدنا إنغراسًا في تراثنا وتاريخنا وازداد تمسكنا بثقافتنا المحلية التي بها تصل الحضارات إلى العالمية ومنها يكون التميز عن كل حضارات الكون. قدر العاصمة الرياض أن تكون مقراً لهذا المهرجان، وقدرها أن تكون حاضنة لهذا التنوع الكبير من التراث، وقدرها ثالثة أن تستوعب كل هذا التنوع من ثقافات الوطن، لترسم في كل عام جدارية التراث والثقافة. يتفاوت المكنون التراثي والتراكم الثقافي من منطقة إلى أخرى ولكنه يتماهى في صورة دلالية في هذا المكان (الجنادرية). اختلاف التنوع التراثي والثقافي والمحلي الذي يضمه الرياض في كل عام دليل على وشائج القربى وعميق الصلة بين موروث وآخر، وفرصة لرصد المتشابه المتعدد بين تراث منطقة وأخرى، وللنظر إلى ما يجمع بين ثقافة وأخرى. إنه الاختلاف الذي يضمن استمرارية النجاح لهذا المهرجان، ويضمن للمكان أن يتسع للجميع وللقلب أن يضم كافة الأعضاء، وللروح أن تسري وتتمدد في عروق الجميع بدم واحد ولون واحد. في كل عام يفوق زوار المهرجان المليون والمليونين، وهو عدد خيالي لمدينة حضارية حديثة كالرياض، فالكثير يظن أن صخب المدنية قد أشغل الناس عن تراثهم وثقافتهم، ولكن المدنية تلتقي هنا مع التراث، وتصنع من الماضي المشرق فضاءات ملونة للمستقبل. ولا تقف الفكرة التراثية عند هذا الحد، بل تمتد إلى حضور ضيف سنوي من مختلف دول العالم يعرض هو الآخر تراثه وحضارته، وهو ما مثلته جمهورية كوريا الجنوبية هذا العام، وهنا تكمن روح التنافس التراثي المحمود، التنافس الذي يظهر محاسن الحضارات ويترجم إحساس الماضي إلى واقع مشهود. ومن هذا الوقوف المبهج على تراث الماضي وحضارته، ندوات ومحاضرات فكرية وثقافية تسعى إلى طرح موضوعي حول مختلف القضايا المحلية والعالمية، في نقاش يضم نخبة من المفكرين والمثقفين على مستوى العالم يحصل من خلالها تواصل ثقافي وتلاقح فكري مثمر، ويكون رافداً مكملاً لهذا المهرجان السنوي العالمي. أهداف ورسالة يعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي ينظمه الحرس الوطني في الجنادرية كل عام مناسبة تاريخية في مجال الثقافة ومؤشراً عميق للدلالة على اهتمام قيادتنا الحكيمة بالتراث والثقافة والتقاليد والقيم العربية الأصيلة. وهو أيضاً مناسبة وطنية تمتزج في نشاطاتها عبق تاريخنا المجيد بنتاج حاضرنا الزاهر. ومن أسمى أهداف هذا المهرجان التأكيد على هويتنا العربية الإسلامية وتأصيل موروثنا الوطني بشتى جوانبه ومحاولة الإبقاء والمحافظة عليه ليبقى ماثلا للأجيال القادمة. وتؤكد الرعاية الملكية للمهرجان الأهمية القصوى التي توليها قيادة المملكة لعملية ربط التكوين الثقافي المعاصر للإنسان السعودي بالميراث الإنساني الكبير الذي يشكّل جزء كبيرا من تاريخ البلاد. ولتحقيق هذا المنال السامي ذللت حكومتنا الرشيدة الصعاب ووضعت جميع الإمكانيات اللازمة في مختلف القطاعات الحكومية رهن إشارة القائمين على تنظيم هذا المهرجان لتتسابق جميع القطاعات على المشاركة في النشاطات المعتمدة كل عام بتوجيه كريم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ومتابعة مستمرة من صاحب السمو الملكي الفريق أول ركن متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز رئيس الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان. وقد انبثقت فكرة المهرجان الذي يضم قرية متكاملة للتراث والحلي القديمة والأدوات التي كان يستخدمها الإنسان السعودي في بيئته قبل أكثر من خمسين عاما ومعارض للفنون التشكيلية من الرغبة السامية في تطوير سباق الهجن السنوي الذي أكتسب ذيوعًا على المستوى الوطني والإقليمي. ومن أولويات الجانب التراثي بالمهرجان: إبراز أوجه التراث الشعبي المختلفة متمثلة في الصناعات اليدوية والحرف التقليدية بهدف ربطها بواقع حاضرنا المعاصر والمحافظة عليها كهدف من أهداف المهرجان الأساسية وإبرازها لما تمثله من إبداع إنساني تراثي عريق لأبناء هذا الوطن على مدار أجيال سابقة إضافة إلى أنها تعتبر عنصر جذب جماهيري للزائرين. كما يبرز المهرجان تنامي رسالة الحرس الوطني الحضارية في خدمة المجتمع السعودي التي تواكب رسالته العسكرية في الدفاع عن هذا الوطن وعقيدته وأمنه واستقراره. ومن أهم الأهداف التي ينشدها المهرجان في كل عام هي: التأكيد على القيم الدينية والاجتماعية التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ لتصور البطولات الإسلامية لاسترجاع العادات والتقاليد الحميدة التي حث عليها الدين الإسلامي الحنيف، وإيجاد صيغة للتلاحم بين الموروث الشعبي بجميع جوانبه وبين الإنجازات الحضارية التي تعيشها المملكة العربية السعودية والعمل على إزالة الحواجز الوهمية بين الإبداع الأدبي والفني وبين الموروث الشعبي، وتشجيع اكتشاف التراث الشعبي وبلورته بالصياغة والتوظيف في أعمال أدبية وفنية ناجحة. والحث على الاهتمام بالتراث الشعبي ورعايته وصقله والتعهد بحفظه من الضياع وحمايته من الإهمال. والعمل على صقل قيم الموروث الشعبي ليدفع برموزه إلى واجهة المخيلة الإبداعية ليكون في متناول المبدعين خيارات من موروثاتهم الفنية بألوان الفن والأدب، وتشجيع دراسة التراث للاستفادة من كنوز الايجابيات كالصبر وتحمل المسئولية والاعتماد على الذات لتدعيمها والبحث في وسائل الاستغلال الأمثل لمصادر البيئة المختلفة، والعمل على التعريف بالموروث الشعبي بواسطة تمثيل الأدوار والاعتماد على المحسوس حتى تكون الصورة أوضح وأعمق، وإعطاء صورة حية عن الماضي بكل معانية الثقافية والفنية. تكريم الشاعر خفاجي الشخصية المكرّمة في مهرجان الجنادرية لهذا العام هو الشاعر الكبير إبراهيم خفاجي وقد تقلد وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسط حضور عدد كبير من المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين والإعلاميين على مستوى العالم العربي، وكان بحق هذا التكريم في مكانه نظراً للمكانة التي يحظى بها هذا الشاعر كاتب كلمات النشيد الوطني السعودي «سارعي للمجد والعلياء». وشاعرنا الكبير هو إبراهيم عبدالرحمن حسين خفاجي المولود بمكة المكرمة عام 1345 ه بحي سوق الليل وينحدر من أسرة أدبية علمية ثقافية.. شاعر سعودي معاصر من منطقة الحجاز عُرف بتنظيمه لقصائد مرتبطة بالبيئة السعودية ويستمد نصوصه من مخزونها الشعبي الكبير. ونصوص الشاعر إبراهيم خفاجي كانت ولا زالت تشكل القاسم المشترك الأعظم بين الأصوات السعودية، فالفنان الراحل طلال مداح (يرحمه الله) تغنى بكلمات الخفاجي، وأغنية «سيد أهلي» من كلماته وألحان سامي أحسان هي التي أوصلت الفنان عبد المجيد عبدالله إلى قمة المجد والشهرة، والفنان محمد عبده شدا بالعديد من أعمال الخفاجي. كذلك غنى له الكثير من الفنانين العرب، منهم: صباح- جاكلين- سميرة توفيق- كارم محمود- محمد قنديل- إحسان صادق- وديع الصافي- شريفة فاضل- هيام يونس- عايدة أبو خريص- علي عبدالستار، وسبق أن فازت أغانيه بجوائز عالمية. كما كتب الخفاجي أوبريت «عرايس المملكة» الذي قُدم في عام 1416ه في حفل افتتاح مهرجان الجنادرية، وغنى فيه كل من: طلال مداح، ومحمد عبده، وعبدالمجيد عبدالله، وراشد الماجد. وقد استغرق كتابة النص مدة ثمانية أشهر. وشاعرما الكبير سبق وأن تم منحه ميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى مع البراءة الخاصة بها عام 1405ه من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز تقديرًا لمجهوداته في وضع كلمات النشيد الوطني للمملكة، كما كرّمته الكثير من الجهات الثقافية والفنية والأدبية. البرنامج الثقافي افتتح صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز وزير الدولة عضو مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني البرنامج الثقافي للجنادرية لهذا العام في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بالرياض. وقال الشاعر الكبير إبراهيم خفاجي في كلمته في ندوة تكريمه: أحبابي.. والذين شُرفت بحضورهم في مناسبة تكريمي.. وإلى كل الذين أبادلهم أجمل الحب، في ظل ما حبانا به خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله من تكريم واحتفاء في المهرجان الوطني للتراث والثقافة في هذه الدورة.. في عصرنا الجميل الزاهي.. فإني أتقدم له بالشكر، كما أشكر ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية حفظه الله، كما أثني بالشكر لصاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز على ما أعطاه للجنادرية من وقته وجهده.. ولا يفوتني في هذه المناسبة الكريمة أن أشكر معالي الأستاذ عبدالمحسن التويجري الذي حمل إليّ شرف تكريمي في هذا المهرجان الوطني للتراث والثقافة.. معربًا عن عرفانه للمشاركين في الندوة التي انعقدت عنه، بوصفه الشخصية المكرمة في الجنادرية 27 وذلك خلال الندوة الثانية من فعاليات البرنامج الثقافي للمهرجان. واختتم خفاجي كلمته في الندوة قائلا: لا أملك أيضًا إلا وافر الشكر للإخوة الذين أكرموني بحضورهم، وللمداخلين والمداخلات الذين أحاطوني في هذا المساء بمزيد من المحبة ومشاعر الوفاء.. وإذا كنت أكرم اليوم في هذا المحفل الوطني الكبير، فقد بلغت من العمر عتيا.. ومع هذا التكريم العزيز على نفسي فلم أقدم لوطني إلا الشيء القليل. أما محمد عبده فقد تحدث عن العديد من الجوانب الإبداعية والفنية عند خفاجي، واصفًا الخفاجي بأنه المكتشف الحقيقي له كفنان، في وقت كان فيه أساتذة الغناء في المملكة تتمثل في قامات لا يسهل على المبتدئين فنيا الوصول إليهم كطلال مداح وآخرين، مما كان من الصعوبة للأصوات الواعدة أن تجد بين تلك القامات مسلكا سهلا.. مستعرضًا ما قدمه المحتفى به لموهبته في البدايات من إرشاده إلى الألحان والملحنين. ندوات متنوعة تواصلت الفعاليات في اليوم التالي من «الجنادرية 27» بجلسة كانت تحت عنوان «جدلية العلاقة بين السلطة والمثقف في العالم العربي»، وشارك فيها: الدكتور حيدر محمود (وزير الثقافة السابق في الأردن)، والدكتور بنسالم بن حميش (وزير الثقافة السابق في المغرب)، والدكتور أبو يعرب المرزوقي (عضو المجلس التأسيسي في تونس). تلتها جلسة أخرى في نفس السياق بعنوان «المثقف العربي.. والمتغيرات» وشارك فيها كل من: سعيد السريحي، وفخري صالح من (الأردن). وتواصلت الجلسات الأخرى في المهرجان، حيث أقيمت العديد من الجلسات الثقافية المتنوعة بين الشأن السياسي والاقتصادي والديني والتراثي والإعلامي والاجتماعي، فقد أقيمت جلسة بعنوان «العلاقات السعودية الكورية وآفاق المستقبل»، وجلسة أخرى بعنوان «رؤية خادم الحرمين الشريفين في الإصلاح المالي والإداري.. ومحاربة الفساد»، وجلسة بعنوان «العرب والقوى الإقليمية» حيث توزعت إلى ثلاث محاور هي: «العرب وتركيا»، و»العرب وإيران»، و»العرب إفريقيا»، و»العرب والوجود الإسرائيلي». فيما ناقشت جلسات أخرى الشأن المحلي حيث عقدت جلسة بعنوان «قضايا المجتمع السعودي المرأة الشباب التعليم طموحات ومعوقات»، وجلسة بعنوان «الإعلام التفاعلي والشباب والمتغيرات»، و»الجيل والإعلام التفاعلي والمجتمع»، واختتم البرنامج الثقافي بورشة عمل حول «الإعلام التفاعلي والشباب والمتغيرات» ضمت عدداً من المهتمين بهذا المجال ومجموعة من الشباب المدونين والفاعلين في برنامج التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد. التراث الكوري وامتداداً للتقليد الثقافي الذي ينتهجه المهرجان في استضافة دولة شقيقة أو صديقة كضيف شرف، فقد شاركت جمهورية كوريا الجنوبية في «الجنادرية 27» كضيف شرف هذا العام، حيث تعرّف الزائر على الثقافة الكورية من خلال العروض التي قدمت في الجناح الكوري وأتاح الجناح فرص غنية للتعرّف على ثقافة هذه الدولة الصديقة. وقد قدم جناح دولة كوريا بالمهرجان سمات ثقافية فريدة تعكس التفاؤل والتواضع والمشاعر الجمالية الثرية للشعب الكوري، وقد وجدت هذه المشاعر طريقاً للتعبير عنها من خلال الفنون الجميلة والأدب وفن العمارة وأسلوب المعيشة وثقافة المطبخ وغيرها من المجالات الأخرى، واعترافاً من منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» بثراء التراث الثقافي القديم لكوريا، فقد أدرجت المنظمة سبعة من الكنوز الثقافية الكورية ضمن قائمة التراث العالمي التي أعدتها. واشتهرت كوريا عالمياً بالمنتجات الخزفية والتي تم تطويرها لتصبح واحدة من أهم الفنون الجميلة الكورية. وفي أعقاب توحيد مملكة سيلا، بدأ مصنعو الخزف الكوريين في إضافة طبقة ملساء إلى منتجاتهم الخزفية وتزيينها، وشمل ذلك الأباريق والأواني والفناجين والجرار، وكانت أعمال الزينة في صورة نقوش أو تصميمات بالحفر والطباعة أو عبر رسومات الحبر. وظهرت خلال هذه الفترة تقنية السيلادون التي اشتهرت بها كوريا وعملت على تطويرها، وتمكنت مملكة كوريو (918-1392) من إتقانها لهذه التقنية، واستعملت مهارة الزخرفة وغيرها من مهارات التزيين المتقدمة. وتطور الرسم الكوري بصورة منتظمة عبر تاريخه الطويل بداية من عصر الممالك الثلاث وحتى العصر الحالي، كل هذا وأكثر وجده الزائرون إلى جناح الدولة.. ضيف الشرف مهرجان الجنادرية لهذا العام.