الحوارات تأخذ أشكالاً مختلفة بين الودي والأدبي والجدلي، الودي أقربها للقلب والأدبي أحبها إلى النفس والجدلي أبعدها عن الرحابة والموضوعية. ولكن الحوار بين الآباء والأبناء يتميز بعاطفة الأبوة وبر الأبناء، فكيف إذا كان بين أب وابنته؟ إنه أرق الحوارات ما رقت عاطفة الأبوة وبر خطاب الأبناء، وقد يتحول بالجور والعقوق إلى تحد وبسط نفوذ وسيطرة وتجاوز اضطراري. وقد عرف الأدب العربي عديداً من هذه الحوارات النثرية والشعرية وعلى غرارها يزودنا الأدب الشعبي بحوارات يتجلى فيها الأدب والتهذيب مهما جار أو عق أطراف الحوار. ومن ذلك حوار شعري رواه لنا الأستاذ علي بن صالح السلوك الزهراني رحمه الله في كتابه: الموروثات الشعبية لغامد وزهران ج3. والحوار جرى بين الشاعر محمد الزهيري الغامدي الملقب «البس»، رحمه الله. وهو من أشهر الشعراء وأبلغهم في الرد، فقد عيّره أحدهم بلقبه فأجاب: البس في سرحته يذبح مية فار في ساعة واحدة ما ضاق منها الحمد لله شرينا سبعة ابقار شي اجتلبها وشي اشرب لبنها ولما كنا لسنا بصدد هذا المجال فإننا نصل ما بدأنا عن حوار الشاعر مع ابنته فاطمة، التي طلب منها ألا تحلب احدى الأغنام ليبقى حليبها لسخالها، ولكن الفتاة حلبت العنز، ويبدو أن أم الفتاة مطلقة أو ميتة وتعيش في كنف أبيها وزوجته، التي ربما كانت ترهقها بأعمال المنزل، كما عرف عن كثير من زوجات الأب، وهذا ما يبدو من الحوار الذي بدأه الشاعر في جلسة عائلية بقوله: مع بناتي ذا الزمان علوم ودروبهن ماني بغاويها العنز هذي من حلبها اليوم؟ ما كان خلَّى شخبها فيها؟ فأجابت الابنة: حلبتها لك يا عدو القوم وصبيّتك تشرب وتعطيها وانا علي ارعى الغنم واصوم وهي تولّف في قواديها وعدو القوم لشجاعته واقدامه لمواجهة القوم وهم الغزاة المعتدين، وهي عبارة مدح، ومثلما تمدح أباها الذي يشرب الحليب ويدفع به إلى زوجته الصبية تذمها في البيت الثاني بأنها تدبر المكائد لابنائه من زوجه الأخرى أو إنها تنافق أمامه، وهذا أمر مألوف بين الأبناء وزوجة الأب. فيجيب الشاعر: أنتن كَلْتُن الغدا ميدوم وصبيّتي ما غير اقهويها وان جت بتَقْحَصْ ديدها ملزوم ووريعها متجوداً فيها يدافع عن زوجته المشغولة عن الغدا بتناول القهوة معه حينا وارضاع ابنها حينا آخر فلا تتمكن من خدمة البيت أو حتى مباشرة الطعام في حينه. ولكن الابنة تدافع عن نفسها فترد: يا ابوي مابُهْ راعيٍ محروم إلا بياخذها ويعطيها لكن راجع والله المزهوم المخطية ما احدٍ براضيها تقول له: ارجع عن اتهامك والعمل الخاطئ لا يرضى به أحد. ويجيب الأب: يا بنتي اللي تفهم الميدوم سبحان خالقها ومسويها أي عليّه حشمة وسلوم عشر اسلمات نكتمل فيها يشير إلى أن تأخير زواجها راجع إلى اختيار زوج مناسب. ولكنها تعلن عن تفجرها: إنك دَرَيْت انّا حلال القوم عازاتنا لا بد تقضيها عساك تسلم ما يجيك اللوم والمرجلة لك وانت راعيها وحلال القوم هنا تعني بها أن البنات يزوجن ويغادرن منزل الاسرة، ويتحولن إلى منازل الآخرين وتشكيل اسرة جديدة قد تبعد في النسب عن اسرتها. وتمتدحه بأن هذا المال (المرجلة) هو صاحبه. بلا شك أن حس الأبوة والبنوة ظاهر من الحوار تأدباً وعطفاً، فالابنة يظهر برها بأبيها وهو يقدر معاناتها ويعلم هاجسها الذي أبدته في الحوار وأكدته بقولها: دمْرت الحَلَقْ ما عاد لاهل الهوى ينشاف وانا ما عبيته غير ابيهم يشوفونه ألا يا يدي ما ارضى عليك خلاف يجي عيش والا جِعْلهم ما يذوقونه تشكو الارهاق من الخدمة في منزل أبيها حتى أن الحلي التي تلبس للزينة ليراها الخطاب اعتراه البلى ولم يعد وضاء. وهو تعبير عن ذهاب وضاءتها في الخدمة وتقدم العمر بها حتى زهد بها الخطاب، وهي تطلب من أبيها إراحتها لتعود لها صحتها وجمالها لتتزوج. فما كان من الأب إلا أن يجيبها بقصيدة محتواها تقديم النصح لها: يا فاطمة دنّي عليّ المعاميل وشبّي خشبك وعجّلي بالصبوحِ متولّع يا ابوك بالبن والهيل إما ليا جا الضيف والا لروحي يا بنت من ينطح وجيه الرجاجيل قيدوم ربعٍ يحرزون المدوحِ دعوى عراب ولابة تلفح الليل ورجَّالنا قرنِ شقيّ نطوحِ ويمضي في مديح ذاته وقبيلته، مقدمة يمهد بها لتهيئة الابنة لقوله: يا فاطمة لا تعشقين المفاليل لا كان عندك تقصدين المزوحِ إلى لفاك بميرته كالها كيل وان شقلبه وقت الدهر قال روحي خلّيني القى لك خيار الرجاجيل فانا لك اشوى من بغيض التنوحِ أقدّركْ واقطع لك العُصْب والذيل من وجد ربي ما تقصّر سبوحي هكذا يزهّدها في الزواج لتؤدي خدمته في الرعي والمنزل، وهي التي تطمح إلى حياة هي أمل كل فتاة، ويمن عليها بخيار اللحم يقدمه لها، ذلك الذي نهرب منه اليوم رجالا ونساء، شحم ذيل الخروف وشحم الأحشاء معصوباً بامعائها، مما كان له أفضلية في زمن ذوبان الدهون من الجسد. ولم تسكت الفتاة عن مطالبها فقد أجابته قائلة: يا ابوي والله عن وصاياك ما احيل وان كان طال الكلمة الياف روحي ما اضحك مع الشيخان خل المفاليل ولا التفَتّْ لكل برقٍ يلوحِ واما الغشيم المرتخي والمهيبيل أجفل عنه مثل الذلول الجموحِ لو قال لي بادنّي البن والهيل ما لي بهيله جوف صدرى يفوحِ اللي ليا ما انه هراه المشاكيل يقول: واوجدي وَشْ اعْبا بروحي وهي مقطّبته حمام المفاليل عند الحليلة طايحٍ ما يروحِ شد الجمل ما هو بشد المراحيل والهِمْل ما يدفي ليال اللحوحِ شرب الصرا ما هو كما شربة السيل وشرب الوبا ما هو بشرب القروح تقول لأبيها انها توافقه الرأي ثم تصف شباب زمنها، مميزة من يتحلى بالفضايل عن الفلوك الذين لا رجولة ولا طموح لديها، وهذا لا يعني أنها تجاهلت مطالبها بل أكدت عليها وعلى من تفكر في الاقتران به. وهو طموح كل أب، غير أن الشاعر وكما تشعر الابنة متجاهل مشاعرها، مهتم بحاجته منها لخدمته ومنزله. وهذه الأنانية أصابت زمننا اليوم لا سيما بعد أن أصبحت المرأة مصدر دخل لنشاطها العملي. ومما نستخلص من الحوار بوح الفتاة لأبيها عن معاناتها وإبداء رأيها وتقبل الأب لذلك وعدم تجاهله مشاعرها. واعتماد الخطاب الشعري في الحوار يرفع من قيمته لدى المتحاورين لصدوره عن ذائقة نابهة، استحقت الرد بالمثل والمجاراة بالأسلوب ذاته ليكتب له التداول والبقاء. والبن والهيل من أشجار السراة التي منها ديار غامد وزهران. ختاماً شكراً للواء مسفر الغامدي على إهدائه هذا الكتاب الموسوعة عن موروث غامد وزهران، كتاب جدير بالقراءة والدراسة.