لو كانت الموسيقى تتجسد وتأخذ شكلا محسوسا لكان جسد راقصة الفلامنكو هو الموسيقى, فعلى عكس كثير من الفنون الوترية والاستعراضية البسيطة, يأتي الفلامنكو توليفة معقدة عذبة من حركات محسوبة بدقة وإيقاعات بشرية تتماهى مع الغيتار لتنتج لوحة متحركة من أرقى فنون الاستعراض واكثرها جاذبية. الفلامنكو القادم من أسبانيا مر بعدة مراحل، ونحتته أجيال وثقافات حتى وصل إلينا بهذا الشكل الجميل, فهو خليط سحري من الفن الذي قام بتخليقه الغجر وعرب الأندلس واليهود، لكن حافظ عليه الغجر بشغف حتى وقتنا الحالي، وتشهد لذلك مقاطع اليوتيوب المتنوعة لغجر متحلقين يغنون الفلامنكو ويطرقون الأرض بأقدامهم. ولا يخلو هذا الفن الفلكلوري من اللمسات العربية - أيضا - فكلمة "أوليه" التي يرددها الجمهور استحسانا, يقال إنها كانت في الأصل "الله" كما ان التأثير العربي على الغناء الإسباني لا يقف عند حدود عرب الأندلس القدامى أو "الموروز" بل أن بعض مغني الفلامنكو المعاصرين لا زال يطربهم الفن العربي المعاصر، إذ يحمل أرشيف اليوتيوب أغنية نادرة للأسبانية الغجرية لولي مونتويا تغني فيها "يا ريم وادي ثقيف" في الثمانينات (تجدها في اليوتيوب تحت اسم المغنية). بدايات الفلامنكو غير معروفة بالتحديد، إلا أن عدداً من العابرين والمسافرين لجنوب أسبانيا كشفوا – مشافهة - عن محفوظات لديهم لهذا الفن الذي كان يمارسه المزارعون والطبقات العاملة هناك، حيث تذكر بعض المصادر أن تخلق هذا الفلكلور بدأ في القرن السادس عشر إلا أنه لم يخرج للعامة ويصبح ظاهرة ثقافية شعبية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويعود الفضل في ذلك الى مقهى المغنين (كافيه كانتانته) الذي افتتح في العام 1842 في مدينة Seville الإسبانية، ولفت بعض الانتباه لاهتمامه بالفلامنكو، تلا ذلك سلسلة من المقاهي قدمت لروادها هذا الفن في العام 1860 عبر دعوة عازفي الأندلس ومغني الغجر لتقديم عروض ساهمت في جذب المولعين بهذا الفن، مما أدى إلى انتشار حمى الفلامنكو في المدن الإسبانية الكبرى من الأندلس وحتى مدريد وأصبحت تلك الحقبة العصر الذهبي لهذا الفن واشتعلت المنافسة بين العازفين إلى الحد الذي جعلهم يبتكرون أساليب لاستقطاب المشاهدين فبلغ التحدي ببعضهم إلى درجة العزف على الغيتار بيدين يغطيهما قفاز, والبعض الآخر يعزف وقد وضع القيتار على رأسه. إلا أن الغيتار لم يكن وحده مَن صاحب عازفي الفلامنكو طيلة مسيرته, فقد كان هناك آلات اخرى مستخدمة مثل الدف والطنبور والبوندوريا (آلة وترية صغيرة تشبه العود) ثم اضمحلت هذه الآلات وبقي الغيتار بلحنه العذب الشجي يراقص أجساد الغجريات. عقب حقبة المقاهي الذهبية التي عشاها هذا الفن الفلكلوري جاءت مرحلة ركود في بدايات القرن العشرين ثم عادت الحياة ولكن هذه المرة على خشبات المسارح وبشكل أكثر احترافيه وظهرت مسميات من قبيل "أوبرا الفلامنكو" و " باليه الفلامنكو". أما في الوقت الحاضر فلا يزال هذا الفن الفلكلوري القديم أحد رموز أسبانيا وفي حال زيارتك للمدن الاسبانية ستجد من يلاحقك في الشوارع بمطويات تسويقية لعروض ليلية للفلامنكو, التقطها ولا تفوتك عليك العرض وستجد نفسك تردد مبهورا "أوليه.. أوليه ".