الوداع بما يصاحبه من لوعة الفراق وترقبه والانفعال بمن تأثر به، لم يستطع أحد بعد وصفه الوصف الذي يوصل الإحساس الفعلي لما يعانيه أطرافه، حتى ولو جاءت بعض التعبيرات بمحاولة إيصال معانيه ومعاناته. لكنه يبقى أعمق من مضامين العبارات وتضعف القصائد حوله وتقف الكلمات حائرة. ونقف عند وصف وداع المسافرين إلى الحج ورحلته التي تتكرر مشاهدها في كل البلدان تقريباً. لقد كان زمن مضى كل شيء فيه صعب، ابتداء من الحصول على وسيلة النقل والتي كانت بالأمس هي الابل ثم جاءت السيارات ولكن ركوبها فيه من المشقة ماالله به عليم من حيث الازدحام في صندوقها وتعرضها للأعطال وأيضا مطبات وجروف وسيول الطريق الموصل إلى مكة، فلم يكن بالسهولة واليسر الذي نتصوره، كذلك صعوبة توفير المؤونة من زاد ومياه، وكذلك توفير المال، وكون المسافر في صحة وعافية في بدنه، بالإضافة إلى مناسبة الظروف. كل هذه شدائد يصعب التنسيق بينها، لكن مع كل هذا نقف لحظة مع أحد المسافرين لرحلة الحج رؤية ووصفا. كان يعتزم التوجه إلى بيت الله الحرام، وذلك عندما تهيأت له الظروف فبدأ استعداده للسفر ضمن حملة تضم أهل قريته. جاء يوم الرحيل فصار يقبل ويدبر، يدخل في داره ويخرج، قلق السفر يسيطر على نفسه ومهامه تجتمع كلها في لحظات الوداع، يعطي هذا شيئا ويوصي ذاك بشيء آخر ويجمع ما يحتاجه ويتفقد أغراضه ولوازمه، يرتب أموره التي سيتركها خلفه، ويأخذ من ذاك ويعطي هذا وتجتمع همومه الأخرى في أولاده وكيف يؤمن لهم ما يكفيهم وقت غيابه، كما هي الحال عند كل سفر سينقطع بعده عن أهله وكل قريته، سيفتقدها وتفتقده فترة تطول وتقصر، لكنه لا يدري هل يعود أو لا يعود. حتى أن العديد من المسافرين يوصون في أموالهم ويوصون زوجاتهم وأولادهم في حال وافته المنية هناك، ويستشعر الجميع وكأنه وداع أخير. الاهتمام يملأ قلبه من مخاوف السفر ولحظة الفراق على حاله وحال أهله، ولكنه سفر ميمون لحج بإذن الله مبرور، ولكن المسافة طويلة والدرب يطرقه أول مرة وفيه العديد من المخاطر والصعوبات. ألا يا ليت من هو راكبٍ مع حملة الحجاج.. ركب معهم وهو في مزهبه زاده وما عونه فيه قطعُ طريق، وفيه موت بعير أو تعطل سيارة، وفيه قلة زاد، وربما فاجأه مرض وتعب في جسده أو مرض أحد رفاقه، كما أن المسافة طويلة. في أثناء دخوله في بيته وخروجه يأتي من جماعته من يودعه، وفي كل مرة يقابله شخص من أهل قريته فيسلم عليه ويدعو له بسفر سعيد وسلامة وعود حميد ويقول له: هاه يا أبو فلان، لا تنس تجيب هدية لولدي، فيرد عليه بقوله: إن شاء الله فمر عليه العدد الكثير من الناس الكل يوصيه بأن يأتي لولده بشيء من الهدايا،إما بزمارة (صافرة)أو بقرقاشة وتسمى (قرقوع) أو سيارة لعبة وتسمى (ونان) أو حمص ويسمى (قريض) أو حلاو أو ناظور فيه العجايب والغرائب أو أي شيء مفرح. لكن ليس لديه من المال ما يكفي لكي يعطي الجميع هدايا ويلبي طلباتهم، فلا يكاد يكفي ما معه مؤونة نفسه. إنه يجاملهم بقوله: إن شاء الله، ولا يعير وصاياهم أي اهتمام، لا يدري من وصاه ولا من لم يوصه، إنه مشغول الفكر بالفراق وتثيره كلمات الوداع. وفي قرارة نفسه لن يأتي لهم بشيء فالعين بصيرة واليد قصيرة، حتى ولو كانوا يعزون عليه ثم يتخلل الجموع واحد ومعه ريال فضة، يتقدم إليه ويقول له: يا فلان: رافقت السلامة في حجتك. هذا ريال، هات لولدي زمارة (صافرة). فينظر إليه نظرة من يأخذ المعلومة ويتوسم في وجهه ويقبل الوصية، ثم يجيبه بقوله: "يا والله اللي زمر ولدك". وهذا يعني أن ولده سيكون الطفل الوحيد الذي سوف يتم شراء زمارة له وتتحقق أمنية والده لأنه قدم مبلغا للشراء وليس أمنية لا أساس لها أو تطفلا. سوف يزمر ولدك بإذن الله، فذهبت هذه العبارة مثلا يتداوله الناس بينهم، يضرب لكل من جعل مع تمنيه عملا ودفع المال من أجل تحقق غرضه ولم يقف عند حد التمني ولم يتكل على الآخرين. أما الذين يوصون وهم لم يدفعوا قيمة حاجتهم فلن ينالوا شيئا. والسفر فيما مضى للحج كان شاقاً بكل معنى الكلمة، وتعبه قد يصاحبه قلق من صعوبة الحصول على حملة حج ومرافقين وأمن الطريق، وتحتاج إلى المال والقدرة الجسدية، ولهذا قالوا في الأمثال الشعبية: (ما يحج إلا قوي) و(من حج فرضه قضب أرضه) أما المثل الشعبي: (ما يحج إلا قوي) فيقصد به وغيره مما يشابهه، أن القدرة على الحج لا تتهيأ لكل أحد، وذلك للفقر والحاجة بين الناس، ولارتفاع نفقات السفر والرحلة من أجرة الراحلة إلى ما يلزم من الطعام، ولأن السفر في حد ذاته لا يكاد يقوم به أحد فهو ليس رغبة وهواية يمارسها الشخص كما يمارس السائحون اليوم تجوالهم واستمتاعهم بالتنقل في الديار على مراكب مريحة وطرق سريعة وخدمات متعددة وحياة مرفهة واتصالات تربطهم بمصالحهم وتجعلهم كأنهم بين أهلهم وذويهم. ولقد كان بعض من عاش في الأمس، يبقى سبعين سنة وأكثر لم يغادر بلدته التي ولد فيها وربما ولد وعاش ومات في قريته ما فارقها شبراً واحداً، ولا إلى حتى بلدة مجاورة لا يفصلها عن بلدته سوى مسافة قصيرة أو كثيب رملي أو جبيل صغير. ومن اهتمام المحسنين بالحج، وتقديرهم لما يعانيه الحاج من مشقة في سفره، مبادرتهم لتأمين طريق الحج، وجعله واضحاً تسير معه الإبل من أطراف الجزيرة إلى مكةالمكرمة، فيطمئن السائر عبره أنه يتجه الاتجاه الصحيح، وكذلك استنباط المياه بحفر الآبار على كل الطريق، كذلك اعتنى الموسرون بالعيون التي كان يتوفر فيها الماء من أجل ضيوف الرحمن. وتبدأ استعدادات الحاج بمجرد وجود حملة من أهل البلد يقوم بها عادة بعض من له خبرة في السفر ولديه القدرة على تأمين الراحلة والزاد لهم طيلة سفرهم إلى الحج، مقابل مبلغ معين على كل واحد منهم، ويكون مثل هذا الشخص أو مجموعة الأشخاص المتعهدين بالحملة والمشرفين عليها من ذوي الخبرة ويترددون على مكة سنة بعد أخرى، ويكون توديع الحاج أو المسافر في موقف ومشهد محزن تسمع فيه البكاء وترى فيه الدموع تملأ محاجر العيون والنشيج يثير الرحمة والشفقة، وهي مشاعر جياشة حقيقية وليست مزيفة مصطنعة، ولا يلامون في هذا الشعور والإحساس، ذلك لأنها لا توجد وسائل اتصال تربط المسافر بذويه، وستغيب أخباره عنهم حتى يعود، أو تنقل بعد مدة أخبار تكون متأخرة وغير مباشرة وغير مؤكدة أيضا، ولأن السفر وموقف الوداع ومشهده غير مألوف في القرى ولهذا قال الشعراء في الوداع والفراق قصائد تعبر عن بعض ما يشعرون به لحظتها من تعلقهم بالمسافر وبقدر المستطاع حاولوا التعبير ولو عجزت الكلمات. وكلما كانت المشاعر رقيقة والأحاسيس مرهفة والشخص المسافر قريبا من القلب بقيت لحظات الفراق ذات عمق أكثر غائرة جروحها، وقد تثار تلك الأحاسيس من لحظة الوداع في لحظات وقد كانت خامدة في حياتنا من قبل لا ندري عنها. يقول الشاعر ضبيعان العريبي ويتضح من القصيدة مدى تأثير لحظة الفراق في نفسه، وفي الوقت ذاته يقدم القصيدة بمضامين تتناسب مع الموقف وترقى لمستوى التأثير والتعاطف في المتلقي حيث يقول: حان الوداع وغابت الابتسامه أثر الوداع يكدر البال تكدير وادعت لي خلٍ عزيزٍ مقامه خلٍ بقلبي له معزه وتقدير خلٍ طوى فرشه وجهّز حرامه يبغى يحج لبيت والي المقادير آخر لقاه الدمع غرق لثامه وآخر كلامه كسر القلب تكسير يقول سامحني وباخر كلامه وداعتك عقبي عيالٍ مصاغير اصغرهم اللي ما تكامل فطامه واكبرهم اللي عشرة سنين لا غير قلت انت حج ورافقتك السلامه يعلّها غفران ذنب وتياسير ويقول الشاعر ناصر بن زيد بن شنار في قصيدة حول وداعه لأخيه سعد أثناء سفره إلى الحج. ألا يا عزتا للي سواتي بايت سهران وكل الناس نيام وعيني ما لجا فيها عديل الروح من سافر وحالي كنها العودان تناقص بالدقيقة كن راعي الدَّين حاديها وهذا شاعر تمنى أن يكون معه المال فيرافق الحجاج ويؤدي فريضة الحج، لكنه فقير الحال، وبقي في المزرعة بين المحال والدراج والسواني يقول: ألا يا ليت من هو راكبٍ مع حملة الحجاج ركب معهم وهو في مزهبه زاده وما عونه ألا ياربي أفرج لي همومي قرب المخراج تشوف الحال ما تنقال حتى الدار مرهونه حكم رب العباد أقعد مع المحال والدراج وأنا ما لي من القوة ولا التدبير من دونه