لعل الوداع من أصعب المواقف على الناس لأن فيه الفراق وهو أمر غير مقبول بعد الاجتماع، ولا مرغوب عند المتآلفين. ولعل القرى فيما مضى لا يجري فيها الوداع إلا قليلاً ولأفراد قليلين أيضاً، فالسفر لم يكن معتاداً ولا يتم بشكل يجعله في حكم الوضع الطبيعي، لهذا كان السفر مقترناً بالوداع والوداع مقترناً بالبكاء والإحساس بالفراق. ولعل السفر المنتظم هو السفر الى الحج ورحلة قضاء فريضته، فقد كانت مدار الحديث في كل عام ويجري الاستعداد لها طيلة السنة، ويقرر بعضهم السفر لأداء فريضة الحج في وقت مبكر مثل شهر شوال أو قبله ويعد له عدته ويعرف رفاقه، ويحدد أجرته ومصاريفه، ويهتم منه اهتماماً كبيراً لأن في الرحلة عزلة طويلة ومخاطر جمة، وانقطاع عن الأهل والجماعة،، كما أن في الطريق معاناة أشد من برد أو حر أو جوع وعطش، أو فقد الراحلة أو مرض يعرض له أو لأحد رفاقه، كما أن في السفر الطويل وضعاً لم يكن معتاداً عليه كما في بلدته، وفي السفر بذل جهد ومشقة من المشي والحل والترحال. ويختار المسافرون طرقاً معروفة تمر كلها بقرى وموارد مياه معروفة، يفصل فيما بينها مسافات مناسبة يستطيع المسافرون التزود بالمياه خاصة من تلك الموارد والبلدان، بالاضافة الى شراء بعض الحاجات التي تلزمهم وخاصة الزاد. ويستعد الحجاج للرحلة بعدد كاف من الإبل لحمل الركاب وحمل المؤونة بالاضافة الى ما يكفيهم من الزاد فيأخذون معهم الدقيق، والقرصان والتمر وقرب الماء والقهوة وأدوات بسيطة تلزمهم لإعداد القهوة أو الأكل يضاف الى ذلك بعض الأغراض الشخصية لكل منهم من لباس ولحاف وغيره علماً بأنهم قد تعودوا على افتراش الأرض والنوع دون فراش كما تعودوا على النوع دون لحاف ايضاً خاصة وقت الصيف وامكانية الاستغناء عن الفراش واللحاف والوسائد. هذا بالنسبة لما كان قبل وجود السيارات ولا يختلف الوضع بعد وجود السيارات الا في زيادة عدد المسافرين الى الحج وقصر المدة وكون السيارة اقوى من الإبل وأسرع وأقل مخاطر مع قلة المعاناة نسبياً حيث أصبح المسافر يحمل معه (شنطة) حقيبة كبيرة يجمع فيها لوازمه في الذهاب والإياب، يحفظها في تلك الشنطة التي صنعت من الحديد القوي. وتقسم السيارة عادة الى قسمين بألواح تجعل منها دورين أحدهما للرجال والآخر للنساء ويسمى التقسيم (طبق) أي صارت السيارة طابقين، يجلس الرجال في الطابق العلوي المكشوف والنساء في الطابق السفلي المستور. وليست الطرق مزفلتة بل غالبيتها وعرة، ولعل الطرق التي يستخدمونها بالسيارات لا تبتعد كثيرا عن طرقهم القديمة وقت استخدام الإبل ذلك لأنهم يحتاجون الى البلدان نفسها والقرى والموارد ذاتها، فالسفر عبر صحراء خالية من الخدمات امر صعب وبالتالي تكثر محطات الوقوف في البلدان التي تقع على طريق الحج، وتؤدي هذه البلدان ايضاً واجباً عظيماً كما أنها تنتفع بمرور الحجاج وتزدهر الحركة التجارية فيها، كما أن أهلها يستعدون لمثل هذه القوافل سواء قوافل الإبل أو قوافل السيارات، وبعض تلك البلدان أصبحت مراكز تجارية كبيرة وصار لها شأن فزاد عدد سكانها واتسعت رقعتها العمرانية، كما أن البلدان التي لا تقع على طريق القوافل بقيت كما هي أو اضمحلت وربما اختفى بعضها. ويتعرض الحجاج في سفرهم إلى معاناة كبيرة تتمثل في المدة التي يقضونها والتي تصل إلى أسابيع وأشهر، وتنقطع أخبارهم ويعانون من السفر وصعوبته، وما يعرض للبعض من مرض، وربما مات بعضهم في الطريق فلم يعلم أهله ذلك إلا بعد عودة الحجاج. لهذا كانت مواقف الفراق والوداع صعبة، ومواقفه ولحظاته صعبة مبكية، يهتم منها الجميع قبل أيام، ويستعد الحجاج بما يلزمهم للرحلة، ويعدون العادة ويعدون أنفسهم في معزل تام عن أهلهم فيتركون لهم مؤونة تكفيهم رغم الحاجة الماسة، ويأخذون معهم ما يكفيهم من الزاد تمراً أو من الدقيق وما صنع منه. ولقد أراحتهم السيارات كثيراً لأنها تحمل كمية كبيرة من المياه على شكل عدد من (القرب) جمع قربة، التي كانت تعلق على جوانب الرواحل وتثقلها، فالسيارات أقوى وأوسع، كذلك أصبح من الممكن نقل بعض اللحوم التي يتم تجفيفها في مكة بعد ذبح الهدي حيث تشرح اللحوم وتملح وتوضع في أكياس من الخيش فتنقل الى البلدان التي قدم منها الحجاج يأكلون منها في الطريق وبعد الوصول، وهذه اللحوم يسمونها في نجد (قفر) وتقفير اللحم يعني تمليحه وتجفيفه ثم خزنه جافاً بعد خلوه من المياه يؤخذ منه طيلة السنة عند الحاجة، لا يتعفن ولا يفسد، ولا تتغير رائحته. أما استقبال الحجاج والفرحة بهم فشيء مبهج وفرحة لا توصف حيث يبدأ العد التنازلي في اواخر شهر ذي الحجة ويقدرون لهم مسافات السير ووقت الوصول ويترقبون وصولهم في كل يوم ليلاً ونهاراً، فإذا أقبلوا قابلهم بعض أهل البلدة على مسافة بعيدة يسألون ويستبشرون ثم يسبقونهم ليخبروا أهلهم ويزفون لهم البشرى، ويقولون أبشروا بسلامة الحجاج فتعم الفرحة الجميع ويوقظون النائم من شدة فرحهم وربما بقوا طول الليل في تبادل للأحاديث معهم في فرحة بوصولهم لا تعادلها فرحة. وبقيت الحال من حيث صعوبة السفر والحج على حالها، فالفراق صعب لكن بعد مد الطرق والتوسع في استخدام السيارات لأغراض عدة، بدأت تقل الرهبة من السفر وبدأت المدة التي يقضيها الحجاج أقل بكثير مما كانت في السابق ثم تطور النقل أكثر وأكثر وبدأت السفر بالطائرات واتصل الناس بوسائل ربط اتصال جديدة هي الهواتف الثابتة العادية والآلية ثم الجوالة وصار الحج ولله الحمد رحلة ممتعة يتصل الحاج بأهله ويتصلون به لحظة بلحظة فصار أكثر اطمئنانا على أهله وذويه، فالحمد لله ميسر الأحوال نسأله قبول حج القاصدين بيته انه سميع مجيب.