شك أن السيارة في أول وصولها لا يعرف عنها شيء سوى ما ظهر من هيكلها الخارجي بغموض نسبي أيضا، من دون تفاصيل عملها وما فيها، كما هي الطائرة عند بعضنا قد يجهل عنها كل شيء إلا بعد أن أوضحت وسائل الإعلام تفاصيل عنها بالصور، وبعد أن كثر استخدامها وإلا فهي مجهولة مثلها مثل السيارة في أول عهدها عندنا وعند غيرنا أيضا. فمثلا كان يعتقد أن مضيف ومضيفة الطائرة هي التي ترتب كل شيء حتى السماح لهم بالركوب أو منعهم، يقول الشاعر: طايرة طارت وفيها نور عيني ليتني طيارها ولا المساعد يا مضيفة لو سمحتي ركّبيني احذفيني بين صفات المقاعد وهل للمضيفة دور في التذاكر والسماح بالركوب أو المنع، لكن غرابة الطائرة والجهل بها وبطريقة ركوبها يجعله يختار المضيفة ظنا منه بأن لها أمرا أو نهيا. أما السيارة فقد حظيت بالاهتمام ونصيبا وافرا من وصف الشعراء وذكرهم لها فهي وسيلة التواصل السريعة العجيبة، وخاصة الفورد أو الجمس. يقول الشاعر بندر بن سرور: الا يا وجودي وجد من صك دونه باب بقفل اعجمي مغلقات مساميره عدو به على اللي كنه النسر بالمرقاب على الجمس الاصفر كاملات شراشيره معه فرت خمسه طن ياخذ معه ركاب من المال عيّن ينقلنّه تغاييره دخل هو وحمله للحكومه بغير حساب وراعيه عشر سنين ويعاد تقريره على اللي كواني كيّه العظم بالمشهاب على اقصى عراوي القلب محمي مناشيره عشيري ورا الكودة وانا من ورا مشعاب بعيد قريب تعيب ياهون تفسيره ولا ياصله كود(فرت) عليه اسطاب ليا حاسب السوّاق تقدح مواخيره ولعله هنا يذكر الجمارك أو الدخول بالبضاعة التي يريد لها الوصول فلم تصل بسبب الجمس الأحمر أي منع التهريب الذي يجري عادة فيما مضى للبضائع العادية أوالممنوعة. ويقول: الا يا نديبي فوق فرت ورد من شرق على راس قيره للعليمي تعاشيقه من الوارد اللي جمركه عند راعي عرق على المطَّرق مجبور ياخذ قماريقه ويقول الشاعر: واهني اللي على (فرت) جديد يقطع الفرجة اللي عمَّد سرابه من دياره لا في صافي الحديد ما قضبه مهندس صلَّح خرابه كل ما عشق له بنمره يزيد ما تعرف أشجار نجد من هضابه ويقول آخر عن السيارة وعن السائق أيضا : من كراج الشام جابتنا المكينة فوق هدسن ما تخضع بالطماني والشفير من المدارس ناخبينه ارملي بجظعه جظع الحصاني قذلة الطربوش ناسفها يمينه وان غشاه الليل شع الكهرباني وبهذا تستحوذ السيارة اهتماما كبيرا من السكان لأنها نقلة نوعية عجيبة لم يسبق لها مثيل في المواصلات ولم تكن وليدة محاولات وتجارب محلية تقطع المفاجأة بل هي المفاجأة بعينها. ونستكمل الحديث عن هذه الوسيلة العجيبة بوصف وتصوير من الشاعرة بخيتة المرية التي تعد من أهم من قال القصائد في ذلك، ويبدو أنها رأت وسمعت عن السيارات بشكل دقيق فوصفت ذلك ببراعة فائقة وبلاغة أيضا وإجادة لم يقاربها في ذلك سوى القلة من الرجال ولم يقاربها أحد من النساء الشاعرات، فقد كانت تسكن بين جنوبالأحساء والدمام في وقت تكثر في المكان السيارات التي تقوم بالتنقيب عن البترول والاكتشافات له ونقل البيبات ولوازم صناعة البترول، ومن هنا صار لها ولسكان المنطقة خبرة بحكم القرب. تقول بخيته المرية حن قلبي حنة (الماك) مع طلعة نفود عشقوا له بالدبل والحمولة زايدة وقالت ايضا حن قلبي حنة الماك يابن عقير متى ما عطا تغريز ودريوله قصاه عطاه الثنيه ورك في نقضته للقير ثم صكه بواحد لين زاع الاديتر ماه وتقول انا حن قلبي حن ماك مع الطلعات ليا عشقه بالعايدي والدبل جره جرمه ثقيل وحملوا فوقه البيبات ويدعس عليه ابنزينه ولا سره وتقول أيضا: حن قلبي حن ماك على سمر العجل عشقه سواق والحوض قفوه قد ملاه إن تسند عشقه ثم زنده الدبل وإن تسهل ريحه لين ياصل منتهاه ما بشفي لا دريول ولا ريس عمل شفي اللي كل ماشاف براقٍ رعاه وتبقى السيارة والسفر بواسطتها أول مرة ذكرى تحفر في أذهان من عاصرها أخاديد ممزوجة بالمتعة والغرابة والقصص التي أشبه بخيال، فعندما يستعيدونها تمر بمخيلتهم أحداثها كأغرب ما يمر على فكر، غير مسبوقة بتجربة مماثلة أو متقاربة مع تجربة، فهي لم ولن تتكرر عندما جاءت مثلا الطائرة رغم أن الأخيرة صنع عجيب قرب البعيد وطوى المسافات لكنها لم تصل في ذكرياتها ما وصلت إليه السيارة، ذلك لأن المجتمع كله تعايش مع السيارة فخافها وهابها ثم صادقها وألفها وكانت رفيقة درب من المعاناة يشاطره هذه الذكرى كل أفراد مجتمعه، جمعت المسافرين ورافقتهم في رحلاتهم الخطيرة والمحفوفة بكثير من الصعوبات وسط الصحراء وكانت الأقرب إلى قلوبهم حيث ارتبطت بلحظات اللقاء والوداع. الموقف الأخير: الموقف الأخير أعني به المكان الذي تستقر فيه السيارة عندما تقدم إلى المدينة كالرياض مثلا، أو إلى مدينة هي مقصد المسافرين وفيها العديد من المغتربين عن أهلهم. ويسمى هذا الموقف بلهجة العامة (الماقفة) الذي تقف فيه جميع السيارات القادمة من مختلف القرى والأقاليم التي تصل في بعض الأحيان إلى عشر أو عشرين سيارة من أنواع متقاربة بعضها كبير وبعضها أصغر لكنها كلها تنقل البضائع والركاب، وكل سيارة معروف صاحبها وسائقها ووجهتها. ويعد هذا الموقف نقطة تلاق مستمرة يحرص المغتربون في المدينة على زيارته والمرور به إن لم يكن يومياً ففي أوقات متقاربة، لأنه بمثابة نقطة الوصل الوحيدة التي تصلهم وتوصلهم بذويهم وتبلغهم عن أخبار مجتمعهم أولا بأول وفق المتاح من ذلك، حيث لا يوجد ما يربطهم بالخارج عن المدينة سوى هذه السيارات والمسافرين عبرها. ويفرح الواحد منهم بالخبر السعيد أو الرسالة التي تطمئنه عن أهله، كما يحزن في حالة إبلاغه بخبر سيئ جرى على بلدته في غيابه. وأهم الأخبار التي يتم تناقلها: المواليد وشراء البساتين أو بيعها وأخبار الوفاة أو الأمراض وكذلك أخبار الخدمات مثل إصلاح مجرى سيول أو تمهيد طريق أو افتتاح مدرسة أو وجود دائرة حكومية جديدة أو تعيين موظف أو تخرج لأحد من أفراد القرية أو إيصال الماء وغير ذلك. كما أن لأهل القرية حاجات يريدون شراءها عن طريق ذويهم فيرسلون النقود مع السائق ويقوم المغترب بشراء ما يلزم ثم يتم إرسال المطلوب مع صاحب السيارة الذي يسره دائما أن يعود إلى القرية بشيء يفرح به أهلها. وفي موقف السيارات هذا يمتزج الفراق مع اللقاء والوداع مع الرجاء، لهذا شهدت ساحته مزيج من المشاعر التي لا ينساها مطلقا من عاش التجربة. وفي الغربة يكون ابن البلد كما الأخ الشقيق والصديق الحميم لهذا نشأت علاقة ود بين المغتربين على قراهم وانسحب هذا الود والمحبة على معالم المكان كما هو على الأشخاص، ونشأت بينهم الحميمية في غربتهم. وفي الموقف هذا يكون وقوفنا طويلا عند ذكرياته ولعلي أختصر الحديث حوله لأنه لا نهاية لما يمكن ذكره حول ما يجري فيه من تواصل وتقارب وأهمية أيضا لمثل هذا التجمع في محطة بسيطة تجمع أناس للتو يصلون مع أناس ينتظرون الرحيل وآخرين يروق لهم بين الفينة والأخرى الحضور للمكان لمتابعة التواصل وتلقي الأخبار عن بلدهم. فهناك مقيمون في المدينة لكنهم متعلقون بقلوبهم في بلدتهم ويتابعون أخبار ومعلومات مجتمعهم عن بعد. ولعلي أجبر القلم على أن يغمد في غطائه رغم إصراره على أن فيه مدادا لا ينضب حول ذكريات هذه الفترة لكن أتمنى أن تأتي فرصة بمساحة أكبر يأخذ القلم راحته ويطلق له العنان ففي الجعبة كثير كثير مني ومنكم.