قد تعد التراكيب والأساليب المباشرة وكذا استخدام اللغة الاعتيادية في القصائد، وجاهزية المعاني تروق للكثيرين بالأمس، وقد توافقت زمناً ليس بالقصير مع الذائقة أو ما هو أعمق من ذلك أي الذهنية للمتلقي والاعتياد النصي للشاعر، وصارت بينهما ألفة تجاوزت إلى القولبة أحياناً، وعكسها بالطبع التجديد وعدم التكرار، ذلك لأن الاعتياد يولد التشابه واستنزاف كل شيء بدءاً من اللغة والمفردات وانتهاء بالصور الفنية، وحتما في الألفاظ والمعاني مع التراكيب عموما في ظل الأسلوب الذي يكاد يكون موحداً أو متكرراً عن دراية أو من منطلق التلقائية التي قد نلبسها ثوب الجمال والتميز أحياناً بوصفها عفوية غير متكلفة لكنها في النهاية تفقد بريقها. والكسر أو الاخلال والتمرد ليس مطلوباً ولا محبوباً ولا مقبولًا على إطلاقه لكي نحقق إبداعاً مختلفاً، ولم يقم شاعر شعبي بمثل ذلك وبشكل واضح وإن كان في بعض القصائد خروجاً عن المألوف إلا أنه تحقيق لأغراض هي في الواقع نوع من المقترحات الجديدة والظهور بشيء مختلف ونسميه تطور أسلوب ومستجدات فرضت نفسها على البيئة الاجتماعية فعبر عنها الشاعر بما يتناسب والمتلقي وذائقته التي لم تعد كالسابقة ولا تصل إلى حد المساس بالمقاييس التي هي من أوجب واجبات قبول القصيدة فردياً واجتماعياً. ومن يراقب الوسط الذي يتم فيه التواصل اليوم، ولا أقول الوسط الثقافي تحديداً، حتى لا يفهم ذلك على أنه نقد، يلاحظ تغيرا في البناء والذي يحوي كل ما تحتمله الكلمة، فلو جئنا بأبيات من قصيدة لشاعر شعبي منذ 200 سنة ولتكن لراشد الخلاوي أو ابن لعبون أو محمد القاضي أو جبر بن سيار.. الخ لاستطعنا تمييزها كونها قادمة من ذائقة الأمس وشاعره، من خلال صورها الفنية واستعاراتها وتشبيهاتها وكل انزياحاتها وغموضها ورمزيتها أو اعتياداتها اللغوية ومفرداتها. في حين تتضح دلالات وإيحاءات ورؤى أخرى مختلفة في واقعنا اليوم، تتعدى كون المفردة أصلا جديدة ومتوقع استخدامها من قبل شاعر اليوم في قصيدته، لكن البناء أيضا والتراكيب مختلفة، بغض النظر عن المقارنة من حيث الجودة من عدمها في ظل غياب المعيار لمثل ذلك، حيث لا نستطيع الحكم بهذا لمجرد القبول والرفض أو الحفظ من عدمه أو ترديدها ونسيانها.. الخ لكن نستطيع أن نحكم بقرب وبعد مناسبتها للذائقة من قبل المتلقي من خلال حضورها ورواجها وقبولها. إن قصائد اليوم ذات ذائقة جديدة، متبادلة بين الشاعر والمتلقي والوسط، وبالتالي فإنها متأرجحة بين الاعتدال والتقليدية المعتادة وهي أهون الأضرار كلها، وبين الهبوط جدا حتى التشويه وهو ما يتوقع في ظل خوض هذا الميدان ممن لا يجيده وفي الوقت نفسه يريده. أما الارتقاء بالذائقة والأسلوب والإبداع فإنه يأخذ نصيباً لا بأس به ولا تزال نخبة مميزة من المتلقين والشعراء الشعبيين تمسك بزمام هذا التوجه، تكبح جماح المعاني والتراكيب حتى لا تنزلق نحو منحدرات التقليد أو الانسياق وراء تخريب الذائقة وقلة الحياء أحياناً بل تشويه الإحساس والشعور في ثوبه المقدم على شكل قصيدة. من الإبداعات التي يمكن أن نتوقف عندها، قصيدة للشاعر خلف الكريع والتي يبدأها من خلال الانزياح الفعلي وتقديم مزيج من التقليدية في أجزاء من القصيدة ولكنه يرتقي بمعانيها ومضامينها وتشبيهاتها واستعارتها ولغتها بحيث تكتسي بأساليب بلاغية وبيان ورمزية نتلقاها غموضاً وندركها وضوحاً يسمو بمعانيها ويترفع بمحتواها، يبدأها بالخطاب للأم وينتقي أعذب المواقف في تقدير لها، ويعطي رسائل غاية في الأهمية مما يرتفع كلا الأمرين الذائقة العامة للمتلقي من ناحية، وبمستوى الشعر الشعبي، محافظاً على تماسك السرد والنص العام، معترضاً بفاصل ينتقل فيه من أهمية إلى أهمية تأخذ باهتمام المتلقي تأييداًَ وقبولًا للصور الشعرية في تتابعها، وقد لا ندرك مباشرة رابطة الأم ببعض المضامين ولكن هنا يكون إبداع شاعرها. يقول في قصيدته: هذا ماهو شيب لا تبكين ماهو شيب يمه لا يهوْلك منظره في راسي وتبكين، عادي لا يغرّك لونه الأبيض ولا يفجعك كَمّه صدقيني ما هو من الشيب، هذا اللون بادي تذكرين أصابعك لما تبعثره وتلمه؟! يوم كنت أوسده رجلك و أروّض لك عنادي كل ما مشيتي أصبع بين شعراتي تشمه لين صارن بيض من كبر الغلى وطهر الأيادي شرّعي لي حضنك المعطور بالمسك أخمه خمةٍ تبرى بها روحي من جروحي وَأنادي ما أبي من الناس غير أذكارك وريحتك لمه ولا أبي من النور غير سراجك ألن به حدادي وما أبي من العز غير اللي تحت قدميك قمه ولا أبي من الأرض غير جلالك أعلن به بلادي ودي ارجع طفلك المغرور واللي كان همه يصعد أطول نخله وَيشرب من حثال العوادي يغسل نعاسه بأذان الفجر، واصوات الأئمه ويونّس الشيبان لا رتّل لهم : ( قُل يا عبادي ) وينهب أول خبزه لصاجك ويخفيها بفمه قبل ما يصحى حدا اخوانه ويحتد التمادي طفلك اللي ذنبه انه ما غسل بالدمع كمه لين صار الكم الابيض من بطا دموعه رمادي ما يخاف إلا: بكاك، ودعوتك: ( حمىً تحمّه ) لا ركض جنب القليب وسمع نبضاتك تنادي ولا كشخ بشماغ أبوه وشفتي الانظار يمه تغصبينه, يشرب (القروه ) بخوف ٍ لا إرادي ودي امسح دمعة ( استاذي الفلسطيني ) وأضمه لا بكى في حصة التاريخ من ظلم الاعادي واعتذر له عن سخافة جيلي وخذلان الامه واتعلم منه كيف اروي يقيني باعتقادي ودي ارجع طفل بعض عيوبه أجمل من شِيَمّه يوم كان أصغر رفاقه عمر و اكبرهم مبادي ودي افتش بتاريخي عن احلامي المهمه قبل ما تهزم جيوش اليأس صبري واجتهادي ودي أوشي بحزني الحاضر لماضيّي وانمّه يمكن انقذ جمرة سنيني من الموت برمادي بس وشلون اقدر ارجع ؟ ليه ماقلتي لي يمه ؟ ليه ماقلتي لي ان الشيب مشتاق لسوادي ؟ ليه فهمتيني ان الخوف من بكره مذمه ؟ ليه خليتيني اكبر واحمل ذنوب اعتدادي ؟ وين اعيّن خير يمه والأمل من غير يَمه ؟ الحطب يا يمه قليّل وبرد الليل سادي كل ما غرست غصني سال في الحرمان دمه واشعر اني وردةٍ مزروعة في بطن وادي وانا والله، ما رضيت بهالعنا من قلّ همه ولا كبا غير الدروب أما انت وافي يا جوادي احمد الله جاعوا عيالي وانا شبعان ذمه ما زرعت الا الوفا والناس تاكل من حصادي ما عرفت الا يا خال لخاله وعم ٍ لعمه يوم ما ياسع هموم القوم غيرك يا شدادي و انتِ يُمه لو بكيتي شيبي وهوّلك كمه قلت يُمه : ماهو من الشيب هذا اللون بادي تخبرين الثلج لا منه تكدّس فوق قمه ؟ هذا ثلج . وراسي القمه ولا تبكين عادي يجبر شاعرها من يتلقى القصيدة أن يندمج في معانيها، متصورا تلك الطفولة ثم مخترقاً زمنها ومرحلتها مرتحلا مع شبابه نحو مستقبله، بين تشاؤم وتفاؤل، وواقع وحلم، في وسط رمزية لا تقبل أن يطلق عليها غموض التعمية، ولا مباشرة الواقع المجرد من الإبدعات الفنية، تزينها النقلات في إطار متقارب، لا يوغل في المثالية ولكنه يطرح الممكن بشيء من الجمال في طريقة العرض والمضمون. ما يخاف إلا: بكاك ، ودعوتك: ( حمىً تحمّه ) لا ركض جنب القليب وسمع نبضاتك تنادي ولا كشخ بشماغ أبوه وشفتي الانظار يمه تغصبينه, يشرب (القروه ) بخوف ٍ لا إرادي وهذه فعلا حال الأمهات، دعوات غير مقصودة (حمى تحمه) وهي في الوقت نفسه بدافع المحبة والخوف عليه من الخطر ، وأيضا الخوف عليه من العين عندما يبدو في زي الرجال ومظاهرهم وهو صغير، فتقدم له (القروة) أو الرقية والماء المقري فيه لحمايته من نظرة هذا أو ذاك، والقلق يسيطر على الأم بالذات بشكل واضح بخلاف غير. وفي هذا البيت يقول: احمد الله جاعوا عيالي وانا شبعان ذمه ما زرعت الا الوفا والناس تاكل من حصادي مقابلة وتضاد في اللفظ بين الجوع فيهم، والشبع في ذمته، وطرح المعنى أمام المتلقي في صورة فنية بديعة مما يعطي قيمة فكرية في ثوب بلاغي جميل. وفي هذا البيت يقول: ودي امسح دمعة (استاذي الفلسطيني) واضمه لا بكى في حصة التاريخ من ظلم الأعادي فالشاعر يوجز قضية بكاملها في بيت وصورة فنية، قد لا نستطيع شرحها في صفحات. هي مزيج من التعاطف والتوافق والتلاقي والافتراض والواقع مع بعضها، وانسياب عاطفي وألم و أمل، وقد نكتفي بهذا البيت عن قصيدة وكتاب. وتبقى في الميدان قصائد تزرع الأمل في كون الذائقة والعطاءات الشعرية لا تزال تنبض بالحياة رغم موجة الاجتياح وعاصفة الدمار.