كثيرة هي الشخصيات التي تتعدى محيطها وتنسب إما للأماكن التي انتقلت إليها وإما التي انتقلت آدابها وحكاياتها وحكمها الشعبية إليها، ولعل من أشهرها الشاعر محمد بن لعبون - رحمه الله - الذي ينسب إلى نجد والكويت والبحرين والعراق، فأهل نجد يرونه نجدياً لكونه ولد فيها من عائلة نجدية وانطلق منها، وأهل الكويت يرونه كويتياً لكونه قال الشعر النبطي على فنونهم وبلهجتهم ومات في الكويت، وأهل البحرين يرونه بحرينياً لكونه قال شعره ذاكراً أماكن بحرينية، وأهل العراق يرونه زبيرياً لكون شعره وصل إليهم عن طريق الزبير. قرأت في "الرياض" بصفحة "الخزامى" يوم الخميس 27 رجب 1434ه الموافق 6 يونيو 2013م العدد 16418 مقالاً للزميل صلاح الزامل جاء تحت عنوان "الرميضي يكشف عن شخصية الحميدي بن منصور المثيرة للجدل" حيث تحدث فيه عن تحقيق الباحث الكويتي طلال بن سعد الرميضي في كتابه "شخصيات من تاريخ الكويت"، وحيث إنني لم أطلع على الكتاب بعد إلا أنني سأعقب على ما ذكره الزامل في قراءته على جوانب مغلوطة ذكرها وتوصّل إليها الرميضي إذ إن من أهمها اسم الحميد بن منصور، حيث ذكر بما اشتهر اسمه لديهم بزيادة حرف الياء لتصبح "الحميدي" وهو اسم شائع في الخليج ونجد، وكان ما ذكره الزامل: "فقد كشف الأستاذ طلال عن بعض جوانب هذه الشخصية التي اختلف الناس حولها وما جنسيتها وأين عاشت طوال حياتها؟ وهي شخصية مثيرة للجدل والنقاش والتوقف كثيراً، ولما كانت الكويت إحدى المناطق التي قيل إنها مسكن للحميدي بن منصور جعلها المؤلف من هؤلاء الشخصيات الكويتية في كتابه، مع أن الأقوال كما يذكر المؤلف متضاربة في مسقط رأسه، فمنهم من قال إنه من البحرين، وقيل إنه من عمان، وقيل إنه من السودان، ولكن من خلال أشعاره اتضح أنه عاش في الخليج العربي أو على الأقل عاشر كثيرا من أهالي الخليج العربي وتأثر بهم" أ.ه .. كما يذكر إلى أن الرميضي يرجّح: "أنه من مدينة ينبع البحر" أ.ه قلت: إن الحميد بن منصور ليس من البحرين ولا عمان ولا السودان ولا ينبع البحر، وإنما هو شخصية شعبية شهيرة من أهالي اليمن السعيد، وقد كان فلاحاً ولهذا اشتهرت قصائده ومقطوعاته وحكمه بين الفلاحين قبل أن تنتقل لسكان الساحل لتنتقل بعدها إلى البحر عن طريق البحارة، ولأن البحارة يجوبون البحر فلربما انتقلت حتى وصلت إلى الكويت، ولكن لم يستقر رأي على نسبته إلى أي المناطق اليمنية، ولكن الآراء جميعها اتفقت على أنه من جنوب اليمن المطل على البحر، ولعل هذا ما جعل شعره ينتقل عن طريق البحارة، فهناك من نسبه إلى شرق مدينة البيضاء كما يبدو من أحكامه ومن التسميات التي أوردها، ويتفق آخرون مع هذا الرأي إذ يرون أنه سكن أسفل منطقة صرُوم بين البيضاء ومنطقة خورة، وهناك من يذكر أن الحميد بن منصور يرجع أساساً إلى أسرة بني هلال وموقع سكناها تحديداً في "مرخة" ناحية من نواحي شبوة حالياً، وقد تنقلت أسرته في المناطق اليمنية وسكنت في كثير من المناطق اليمنية فيما بعد، وهناك من يراه من يافع وهي التي تطل على ميناء "المخا" البحري المطل على بحر العرب الذي يطل عليه ينبع البحر، و"المخا" هو الذي انتقل عن طريقه البنّ اليافعي إلى أوروبا وسمّيت القهوة الإيطالية الشهيرة "موكا" نسبة إليها كما يقول الباحث الروسي د. أوليغ بير يسيبكين في كتابه "اليمن واليمنيون في مذكرات دبلوماسي روسي" وأكّد هذا في إحدى محاضراته بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات بالرياض، ويظل الاختلاف اليمني في تحديد منطقة معينة بذاتها مسقطا لرأس ابن منصور إذ يقول د. عبدالعزيز المقالح في كتابه "شعر العامية في اليمن" أن: "بعض الذين كتبوا عن الحميد بن منصور لا يذكرون إلاَّ أنه نشأ في المنطقة الشرقية، والمنطقة الشرقية من البلاد تمتد من عمان إلى عدن" أ.ه قلت: لا أعلم لما ذكر المقالح منطقة عدن، إذ إنها لا يشملها الشرق لكونها منطقة غربية مطلة على خليج عدن الواقع على باب المندب وهو يمتد من البحر الأحمر. أما الأديب عمر الجاوي (1938-1997م) - رحمه الله - فيرى أن ابن منصور مزارع من شرق مدينة البيضاء، كما يبدو من أحكامه ومن التسميات التي أوردها، ويتفق آخرون مع هذا الرأي إذ يرون أنه سكن أسفل منطقة سرُوم بين البيضاء ومنطقة خورة، وهناك من يذكر أن أسرته تنقّلت في المناطق اليمنية وسكنت في كثير من المناطق اليمنية فيما بعد، منها قرية "منكث" ناحية من نواحي يريم، ومنها منطقة تسمى "الهَجَرْ" غربي قرية "المضبي" عند أهل برمان من قبائل آل حميقان ناحية الزاهر محافظة البيضاء حالياً، فيما يذكر آخرون أن موطن ابن منصور هي منطقة "بُور" الواقعة في الوادي الرئيسي بين مدينتي تريم وسيئون في حضرموت، وأنه انتقل فيما بعد إلى "رداع" في شمال اليمن من جراء إذلال الأقرباء له. ووفقاً للروايات الشعبية المتداولة فإن كثيرا من المناطق التي تنتشر فيها أقوال الحميد على ألسنة الكبار والصغار تدعي كذلك أنها مسقط رأس ابن منصور وموطنه الأصلي، وهي تحفظ أقواله وتتناقلها وترددها بلهجتها، وهناك ازدواجية وتداخل في كثير من أقوال ابن منصور وتلك التي تُنسب إلى الحكيم علي بن زايد الذي يشتهر في مناطق شمال اليمن، بحيث يصعب أحياناً التمييز بين أشعار وأقوال كل منهما. وقد أشار المقالح إلى هذا الخلط الواضح بين أحكامه وأحكام زميله ابن زايد، وفي رأيه يكاد الفرق بينهما يقتصر في كثير من الأحيان على تغيير صيغة الفعل "يقول" من المضارع إلى الماضي فهو عند ابن زايد "يقول" وعند ابن منصور "قال". وعلي بن زايد في الموروث الثقافي لمناطق شمال اليمن شخصية مماثلة لشخصية الحميد بن منصور، والتشابه في كثير من الأقوال المنسوبة إليهما يرجع أساساً إلى التواصل الذي كان قائماً بين مناطق اليمن عبر الأزمنة المختلفة، ولا شك أن هذه الأقوال كانت تنقل مع تنقل الناس كالبضاعة الرائجة المطلوبة شعبياً من قبل المزارعين فيقبلون على سماعها وحفظها، فتُنسب هنا إلى حكيمهم وفيلسوفهم ابن منصور وتُنسب هناك إلى حكيمهم وفيلسوفهم ابن زايد، والأرجح أن هذا الخلط يرجع إلى أخطاء الناقلين الذين يأخذون هذه الأقوال لمضامينها من دون عناية بالتحقق من قائلها الحقيقي، وما لا يختلف عليه اثنان أن أشعار وأقوال ابن منصور ومثله ابن زايد وأبو عامر وغيرهم، قد أضيفت إليها كثير من الأقوال والأشعار المنحولة التي أبدعتها قريحة عشرات المزارعين ممن يداهمهم الهاجس الشعري ويتغنون بما تجود به قريحتهم الشعرية وهم يحرثون الأرض خلف ثيرانهم التي تجر المحراث، وكثير من تلك الأقوال والأشعار قد نسبت إلى هؤلاء الحكماء في أزمان مختلفة ولا يعرف قائلها الحقيقي، وهذا يرجع إلى شهرة ابن منصور وابن زايد من جهة، ومن جهة أخرى لأن مبدعي هذه الأقوال لم يكونوا يبحثون عن شهرة، بل نظموا ما قالوا من أقوال على السجية وأخذت عنهم لجودتها ولتطابقها لحناً ومضموناً مع ما يُقال عن ابن منصور أو ابن زايد أو أبو عامر فأضيفت إلى ما تختزنه ذاكرة الشعب عن هؤلاء الحكماء لشهرتهم في هذه المنطقة أو تلك. والحقيقة أن أقوال ابن منصور أكثر شهرة وأوسع انتشاراً في أرجاء كثيرة من اليمن ومحيطها، من أقوال ابن زايد وأبو عامر وشَرْقة وغيرهم، حيث تنتشر أقواله في مناطق مأرب والبيضاء وكافة المناطق الجنوبيةوالشرقية مثل شبوة وحضرموت وأبين ويافع والضالع وردفان وفي أجزاء من تعز وإب وغيرها، بينما نلاحظ أن المناطق التي يتردد فيها ذكر ابن زايد تنحصر في القسم الأوسط من اليمن بشكل خاص في سلاسل الجبال والقرى المحيطة بمدن صنعاء مثل ذمار ويريم وفي أجزاء أخرى قريبة من هذا المحيط، وعموماً فإن كثير من لهجات المناطق المذكورة وخاصة عبر الشعر الشعبي هي قريبة من اللهجة النجدية والخليجية، ولعل هذا سبب من أسباب وصولها هناك، وترجيح كونه ينتسب لبعض التي ذكرها الرميضي. كما ذكر الزامل: "ويورد الأستاذ طلال في كتابه قائلاً إن بعض الروايات تقول إن هذا الرجل عاش على ظهر سفينة خليجية طوال حياته متنقلاً بين السواحل ونظم القصائد والأشعار الخليجية ودليل هذا الكلام انتشار قصصه وقصائده بين بحارة الخليج العربي" أ.ه قلت: إن الحكمة التي اكتسبها ابن منصور يستحال معها أن يأخذها عن طريق البحر، وذلك لأن البحارة يعيشون أغلب أوقاتهم في البحر لأشهر طوال من دون أن يكون لهم معايشة مع البشر فضلاً عن معايشة بعضهم القليل مع بعض، لكون أغلبهم مشغولاً في مشغلة طوال إبحار السفينة، وهذا ما أفادني به كثير من البحّارة الخليجيين والعرب والأجانب الذين سبق لهم العمل في البحر على ظهر السفن والسفر عبرها، إضافة إلى الأماكن المذكورة في حكمه ومقطوعاته وقصائده والعلاقات الاجتماعية والأسرية والسياسية والحياة والبيئة تؤكد ذلك. ويورد الزامل توصّل الرميضي إلى أن عصر الحميد بن منصور: "الذي عاش فيه فهو في القرن التاسع عشر الميلادي القرن الثالث عشر الهجري" وهو ما لم يتوصّل إليه أي باحث ومنهم الدكتور علي صالح الخلاقي الذي وضع كتاباً - رجعت له كثيراً في مقالي هذا - بحث فيه عن الحياة والحكم والمقطوعات الشعرية لابن منصور، حيث اتفق وغيره من الباحثين وأهالي اليمن على أنه عاشق قديماً وهو من الشخصيات الشعبية اليمنية التي اشتهرت مقطوعاتها الحكيمة مثل ابن زايد وابو عامر وشرقة. ولعل ترجيح الرميضي لكون ابن منصور يعود إلى ينبع البحر لكون مقطوعاته تشابه الكسرات التي نشأت فيها، إذ يشتهر ابن منصور بأقواله الحكيمة في تدبير شؤون الحياة وعدم الغفلة عن الزمن والحث على الزراعة والعمل والسعي لكسب الرزق والتخلق بالاخلاق الحسنة، وأقواله إلى الآن تتردد بين الناس كأمثال واشعار شعبية. وقد سرد الرميضي في مؤلفه جملة من الأبيات وغيرها من المقطوعات التي أوردها الزامل وربما التي لم يوردها جميعها تأتي على تفعيلة واحده وهي: "مستفعلن فاعلاتن" وهي نفس التفاعيل التي تأتي بها أشعار الحميد بن منصور في ديوانه الذي جمعه الخلاقي في (304) مقطوعات، إلا أن الملاحظ أنه في طبعتي الكتاب لم يورد أي نصّ من النصوص التي نقلها الزامل من كتاب الرميضي، وقد لفت نظري المقطوعة الثالثة التي أوردتها أعلاه إذ إن البيت الأول منها يشابه قول حميدان الشويعر الشهير بقول الحكمة خاصة عبر الأوزان البسيطة مثلما فعل ابن منصور: طالب الفضل من عند الشحاح مثل مهدي وقت الصرام لقاح أو مثل طابخ الفاس يبغى مرق أو مثل حالب التيس يبي مناح وعلى هذا يمكن القول إنه قد تكون تلك المقطوعات الواردة عن الرميضي ليست من أقوال ابن منصور، خاصة إذا ما عرفنا أن هناك عددا من الباحثين اليمنيين يرون أن أغلب القصائد المنسوبة إليه منحولة عليه، وإن كان يعدّ من أوائل الشعراء الشعبيين الحكماء الذين تغنّى مقطوعاتهم في قديم الفنّ اليمني وحديثه. الرميضي المقالح غلاف كتاب الخلاقي