من حسن الحظ أن معظم المهرجانات التراثية ذات الطابع الهادف لإحياء واستعراض تراثنا وموروثنا الشعبي، أن لها صلة قوية بالإنتاج ( وأعني كل ما له إنتاج مفيد ونافع ليس لهوا ولا مضيعه) والذي كان أجدادنا وآباؤنا من قريب يرتبطون به ويحترمون وسائله ويتمسكون به ويطبقونه كأسلوب حياة وليس باعتباره موروثا فقط بل لأنه واقعهم الفعلي. ولولا اختلاف الظروف العامة العالمية والتأثر بالبيئات المتعددة الخارجية والتبدل العالمي والانفتاح على عوالم مختلفة، لم يتغير شيء من ماضينا وبقي حاضرا بيننا الآن، لكن التغير أخذ في طريقه كل شيء بما في ذلك وسائل إنتاجنا القديم اليدوي وطوى أساليبه أيضا وأدخلت أرشيف الحفظ في طريقها للنسيان. لقد تغيرت الحياة المعاصرة كلها عن القديم الذي ألفناه زمنا طويلاً لككنا اليوم نحيي ذكراه لكي لا يختفي من واقعنا وينفصل عنه جيل الغد. إن في ذاكرة الكثيرين منا طرق وأساليب وخبرات يحتضنها تراثنا، ثمينة غالية عندنا لا يمكن التنازل عنها، وغيابها لا يعتبر فقدا لها بقدر ما هو انتظار لفرصة استعادة مكانتها الفعلية التي كانت عليها، وهذا لا يعني العودة فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، ولكن أساليب أجدادنا الإنتاجية جيدة وتتجدد. معظم الأسر لديها خبرات موروثة تحتفظ بها لكنها على شكل منفرد ومنفصل عن بعضه لا يجمعها رابط يمكنها من العيش والانتعاش، خبرات وأساليب إنتاجية في كل مجال من مجالات الحياة ولكن العقبة أمام ظهورها عدم وجود التشجيع وكذلك ضعف المردود المادي أو الكسب الذي يحقق الاستمرار والتمسك بها وتطويرها، ولعل المهرجانات ذات الطابع التراثي والموروث الشعبي وإن كانت في البداية مكلفة من حيث التنظيم والتمويل والمتابعة والإدارة والإشراف إلا أنها تحقق فرصا كثيرة للأسر المنتجة لكي تستعيد مراكزها التي تخلت عنها جراء التغيرات المعاصرة، ويشجع الإقبال من كثير من الأسر المنتجة على عرض المنتجات بمقابل مادي ضمن كل فرصة على مواصلة إقامة المهرجانات وإحياء هذه الأساليب التي توارت زمنا وكأنها تفقد مقومات البقاء أمام المستجدات. مهرجان الوطن يسير في اتجاه نفع الأسرة المنتجة ويخدمها بالدرجة الأولى ويحتاج الهدف إلى ضبط المسيرة في الاتجاه الإيجابي هذا، لأنه يعد أبرزها وأكثرها جدوى، ومن خلال تطبيق أمثل تراقب سلبياته وتعزز إيجابياته وهذه أمور تتم من خلال التقويم الدوري والأخذ بكل ملاحظات الزوار والمتخصصين، وهو يعرض بعضا من موروث ومنجزات الوطن تحت سقف واحد، باسم المهرجان الوطني للتراث والثقافة وفي هذا التجمع تكون المقارنة، وعندما يكون مهرجانا وطنيا فمعنى هذا أنه يعني الوحدة التراثية والاجتماعية بغض النظر عن التنوع الإقليمي والتباعد الجغرافي وسعته، فمثل هذا التنوع لا يتعارض مع وحدته، بل بالعكس تماما يعني شمول هذا التراث والموروث الشعبي وتكامله بحيث يفتح مجالا أرحب أمام المتلقي فتتلاقح الأفكار حول ما يطرح فيه. في مهرجان الجنادرية على سبيل المثال تعرض أشياء كثيرة نتسلمها بيد الحاضر من ملفات التاريخ والأمس، من أجل أن تبقى ذات حضور بيننا كعهدة نعتز بها فلا تموت ويطويها النسيان، ثم نسلمها للأجيال بعدنا سليمة غير مشوهة. لا نستعرضها من باب الترف أو التسلية بالطبع فهي في الحقيقة ليست مجالا للتسلية، ولكنها تستحق منا أن نمنحها وقتا كافيا بقدر قيمتها ونجعل الفعاليات انعكاساً أصيلا لأصالتنا وديننا وعاداتنا الطيبة، وهذا يتطلب جهدا كبيرا بحيث نخلص موروثنا من أي شائبة تشوهه وإن كانت جزءا منه فليس كل موروث يبقى بعلله بل نعرضه على العقل والدين والعادات الطيبة والنفع العام والفائدة ونقدمه بعيدا عن أي ضرر. لقد كان مجتمعنا زراعيا ولهذا أخذ هذا النشاط من موروثنا الشيء الكثير فهو مرتبط بالزراعة ولهذا تقدم المهرجانات عناصر هذا النشاط الغائب اليوم بكل إيضاح عملي وتطبيقي، من مشاهدة حفر البئر وطيها بالحجارة وتركيب السانية ومن ثم عملية إخراج الماء بواسطة الحيوانات(الابل) وصب الغروب للماء في اللزا، في منظر حقيقي يحاكي ما كان في الماضي مما يجسد المعاناة والصعاب التي كان أجدادنا يقاسونها، ويقدم دروس الصبر التي تنقلها لنا الصور الحية أمام أعيننا، نشاهدها كسياحة فكرية ثقافية ولم نقاسِِ ما قاساه أسلافنا، لكننا نستطيع الإحساس بالتعب الذي أصابهم من أجل لقمة العيش. وفي ركن آخر يقدم أهل الحرف والمهن مهاراتهم التي ورثوها من آبائهم. في عرض متكامل متنوع للمصنوعات والمنتجات اليدوية، وفي ذلك كله إحياء لفكرة وثقافة النشاط والعمل اليدوي، الذي كان أسلوباً سائدا بالأمس، فلم تكن المصانع قد وجدت ولم يكن المجتمع وقتها يعتمد على الاستيراد في شيء وإنما كان يكتفي بخبرات أفراده إلا ما انعدم ودعت الحاجة الماسة إليه، إن حرفة العامل الوطني وخبرته وصناعة يده كانت تلبي جميع الطلبات من أدوات الطبخ والأواني المنزلية من صوان وقدور ومغارف ودلال وفناجيل ومهفات (مراوح) وزبلان(مكتل) وسفرة طعام وفرش...الخ إلى بقية الاحتياجات من مصنوعات كثيرة تخدم كل مناحي الحياة لديهم، من المنقاش الذي تستخرج به الشوكة من الجسد إلى الملقاط الذي يلقط به الجمر وحتى المنفاخ الذي تنفخ به النار وتذكى، وما يلزم الدار من فرش وساحات ووسائد وغيرها وكل أنواع زينة المرأة من الهامة التي توضع على الرأس إلى الحجول والخلاخل التي تلبس في الأرجل والمفتول في الأيدي والخواتم في الأصابع والعباة والبخنق والثياب وغيرها وفي عرض جناح المهن هذا ثقافة تزرع في جيل اليوم احترام العمل وأنه كان محط اهتمام أجدادنا الذين لم يمنعهم كسل ولا تواكل على غيرهم أن يخدموا أنفسهم ويكتفوا. وأما بيع المنتجات فهي العملية النهائية وما يطلق عليها: التجارة وهي ثمرة مجهودهم في كل مجالات الإنتاج سواء الزراعي أو الصناعي وهو نواتج الحرف. ورغم أن العديد من الجهود الفردية والجماعية قدمت وبشكل مصغر مهرجانات وأسواق ونشاطات تراثية وثقافية زارها الأفراد والأسر ربما عدة مرات، وتكررت أمامهم في مناطق عديدة على شكل محلي أو إقليمي، إلا أنه في كل مرة يجدون إضافات على المعروضات والبرامج ومشاركين جددا، وأساليب تستجد في كل مرة وإقبالا له صفة المشاركة الإيجابية وقد تعدى مرحلة الفرجة والتسلية. حتى تحولت إلى نوافذ آمنة يطل منها الزائر على الأمس بكثير من مكوناته البسيطة في محتواها المهمة في وظائفها وما قدمه أجدادنا. إن المهرجانات عموما والوطني للتراث والثقافة خصوصاً يعود بنا سنوات عديدة عبر التاريخ، وفيه نقلب صفحات من التراث والموروث المادي وغير المادي الفكري والثقافي والأساليب وهي المهمة، وإن كان البعض منا يتوقف عند المادي الذي له أهميته بلا شك لكنه أقل أهمية من غير المادي الفكري والثقافي والطرق والوسائل والأساليب الحياتية الماضية. يهتم المهرجان بالمحافظة على التقاليد الحسنة الطيبة والطرق والأنشطة وما يندرج تحتها مثل نقش الحناء وصبغ الملابس وتلوينها وتحديد أماكن الزينة ولمسات الجمال، ووجود البدائل الجيدة التي كانت في مجتمعنا بدلا من الوسائل الحديثة ذات الضرر أو تعتمد على مصدر خارجي وبأيد غريبة وغير وطنية لا تهتم بتقاليدنا وفيها استنزاف لاقتصادنا. وتقوم المهرجانات بتشجيع خياطة وتسويق الملابس التراثية ذات المنشأ اليدوي المحلي من أجل دعم دخل الأسرة والمحافظة على حقوقنا التراثية في تصميم الأزياء الساترة الجميلة التي تتوافق مع ديننا وعاداتنا وحشمتنا، وكذلك الفرش والسدو والمداد وتطوير حرفتها بما يتلاءم مع عصرنا ويتناسب مع المنازل الحديثة من حيث المساحة والشكل، والإبقاء على أسلوب الحرفة باعتباره امنا من الحاجة للآخرين ودرعا ضد الفقر فتبقى حرفة الصائغ والحائك والحداد والنجار والخباز والخراز والنداف والخياط والبناي والنقاش وغيرها من الحرف، تبقى كأسلوب تتم المحافظة عليها في مشهدنا الثقافي المتكرر بغض النظر عن المردود المادي الآن، وإن كان المتوقع من هذه المهرجانات توفير دخل مناسب لأصحاب المعروضات بكل أنواعها، مما يشجعهم على المحافظة على حرفهم ومشاركاتهم في كل مرة. وإذا كنا نهتم بكل ما سبق وبالتنشيط السياحي أيضا وهو حق لوطننا علينا والتراث جزء من المنظومة السياحية، إلا أن الأهم في كل المهرجانات التراثية على مختلف توجهاتها وأهدافها مادامت قد اتخذت من التراث والموروث الشعبي طريقا ومنهجا ورسمت أهدافها لتعبر منه إلى منافع كثيرة أخرى متعددة هو: أن يتم تنفيذها بشكل مناسب ينطلق عمليا من ديننا وتقاليدنا.