يعاني عامة السعوديين من عدم تملكهم للمنازل، ولا يملك أحد منهم منزلاً إلاّ إذا كان ذا حظ عظيم، لكن صاحب الحظ العظيم هذا غالباً ما يندب حظه حين تبدأ ما تسمى برحلة "العمار" لمنزل الأحلام؛ فالقرض الذي منحته إياه الحكومة بعد سنين من الانتظار، أو ذلك القرض الشخصي الذي أقترضه من أحد المصارف المحلية لا يكفي غالباً للاستعانة بمقاول يتسلم المشروع ويسلمه كما يقال (على المفتاح). من هنا تبدأ مراحل الارتباك في حياة ذلك المواطن منذ أن يألف حمل الأوراق، ويبدأ يمارس علم الرياضيات بشكل يومي، يجمع وينقص والنتيجة دائماً أن التكلفة أعلى من المبلغ المرصود لمنزل المستقبل، يُسعّر المواد، ثم يشتريها بعدما يمشط المدينة بحثاً عن الأرخص، وحين يُكدس مواد البناء تلك في أرض المبنى الموعود، يبدأ في رحلة التفاوض مع مقاول البناء، ثم يولي وجهه شطر تجمعات العمالة السائبة بحثاً عن السباك، والدهان، والمبلط ليعقد صفقات تبدأ باتفاقيات، وتنهي بأزمات وخلافات في الغالب. جودة العمل مرهون بقدرات الأيدي العاملة يمر عام العمار - إن صح تسميته - في حياة المواطن بعد ما كسا لحيته الشيب إن كان في مقتبل العمر، وبعدما تعرف هذا المواطن خلال ذلك العام على أفضل علاجات الضغط، وربما تعود على تعاطي إبر مرض السكر.. عام من أصعب الأعوام في حياة المواطن ذلك الذي يبدأ فيه رحلة البناء تحت وطأة ضعف الملاءة المالية، والتي تدفعه لأن يتعاقد مع كل صاحب صنعة على حدة؛ مما يجعله يطاردهم جماعات وأفراداً كلما انشغلوا بعمارة أخرى ووعدوه بأنهم سيعودون له يوماً من الأيام لإكمال عملية البناء تلك. ترى هل كان بإمكان المواطنين أن يتجنبوا صعوبة عام العمار هذا؟، وهل الخلل في العمالة أم أن الخلل في ضعف القدرة المالية لذلك المواطن؟، وهل هناك حلول يمكن أن تجعل مرحلة بناء المنزل سنة عادية، ليس بها كل ذلك الضغط النفسي؟. د.م. يحيى كوشك مهمة صعبة وقال "د.م. يحيى كوشك" أن مسألة البناء يجب أن تتم على أسس مهنية، وأن يكون المهندس حاضراً في العملية منذ بداياتها، مشيراً إلأى أن عملية البناء يجب أن تبدأ برسم الخريطة للمنزل، وتحديد الاحتياجات والمرافق، ثم تحول إلى رسم يتم من خلاله مناقشة الأسرة وملاحظاتهم حوله، ثم تعد الخرائط المعمارية والإنشائية ويقدم للبلدية لفسح البناء، موضحاً أنه بعد ذلك تبدأ المهمة الأصعب التي تتمثّل في البحث عن مقاول البناء، مؤكداً على أن مشكلات المواطنين في مرحلة البناء تبدأ من عملية البحث عن المقاول. وأضاف: يجب أن يشرف المهندس على كل خطوات البناء وأن يتعامل مع العمال وليس صاحب المنزل، مشدداً على أن بحث المواطن عن سعر أقل هو ما يدفعه للتعاقد مع عمالة ليست لها أي علاقة بالمهنة التي يتعاقد معهم عليها، مبيناً أن ما توفره قنوات التمويل التي يحصل عيها المواطن حالياً لا تسمح له بأن يتعاقد مع مؤسسات ومقاولين متخصصين، وقد طالبنا بوجود مكاتب تؤجر العمالة، وأن تكون مسؤولة عن أي سلوكيات أو أخطأ يرتكبونها تجاه صاحب البناء، لذلك وجود مكاتب توفر عمالة متخصصة في الأعمال البسيطة كالدهان، أو السباكة الخفيفة هو أمر ضروري. د. تركي العطيان وأشار إلى أن 30% من المواطنين يلجأون إلى عمالة لبناء مساكنهم، فيما أكد أن بعض المقاولين يلتقطون العمالة المخالفة ويكلفونهم بأعمال لدى المواطن بسعر أعلى، مشدداً على أن لدينا ما أسماه أزمة عمل نظيف، كما أن المواطن في عملية البناء يخسر أموالاً ولا يحصل على الجودة المطلوبة في ظل وضع العمالة الحالية. الأمن النفسي وأوضح "د.تركي بن محمد العطيان" - أستاذ علم النفس المساعد - إن من أهم احتياجات الإنسان أن يشعر بالأمن النفسي الذي أحد عوامله حصوله على مسكن، والناس غير ملامين في البحث عن الاستقرار، ورغبتهم في التخلص من الفقر؛ لأن الإحساس بالفقر أشد ألماً من الفقر ذاته من الناحية النفسية، كما أن الإنسان الذي يكدح، ويأتيه دخل ولا يستطيع هذا الدخل تأمين احتياجاته الحياتية ومن ضمنها المنزل، سيشعر بمرارة كبيرة، بينما هو محسوب أنه ليس فقيراً وأنه من أصحاب الوظائف. وقال إن المواطنين الذين يحصلون على قرض لبناء مسكن في الغالب يدخلون في مرحلة من التشتت والضغط النفسي جراء قلة المبالغ التي يحصلون عليها كقروض مقارنة بأسعار الأراضي وتكلفة البناء اليوم؛ مما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع ضغوط كبيرة تنعكس على نفسياتهم بشكل سيء. وأضاف إن طموح المواطن المشروع في امتلاك منزل يدفعه إلى الاقتراض، وفي الغالب لا يمكنه ذلك القرض من السيطرة على الأمور نظراً لارتفاع مواد البناء واليد العاملة؛ مما يدفعه للتعاقد مع عمالة سائبة في الشوارع بحثاً عن الأرخص، وهذا يوقعه في مشكلات كبيرة تجعله متوتراً، وغاضباً. وأشار إلى أنه ليس هناك أنظمه تمكنه من الحصول على حقه حين تخل تلك العمالة بتعاقدها معه؛ مما يجعله عرضة لضغوط نفسية كبيرة تؤدي في نهاية المطاف لإصابته بأمراض مزمنة قد يبقى يعاني منها مدى الحياة، مبيناً أن الصحة النفسية حينما تتأثر بشكل سلبي؛ فإن ذلك سيكون له تأثيرات كبيرة على سلوكياته وصحته، مؤكداً على أن هناك أمراضاً جسمية مسبباتها في الغالب نفسية، وهذا ما يخشى أن يصيب من قد يعانون من ضغوط مرحلة البناء والتعمير. وقال إنه قد يخرج المواطن من تجربة بناء منزل بتراكم الديون، وبمشكلات مع جهات تقاعست أو أدت أعمالها بشكل يسئ للمبنى، ناصحاً المواطنين الذين يمرون بمرحلة الإعمار أن يضع خطة مدروسة، وأن يسدد وأن يقارب، وأن يهيئ نفسه للتعامل مع الإحباطات، والصعوبات التي سوف تواجهه، مؤكداً على أن غياب التشريعات والأنظمة الصارمة التي يمكن أن تفصل في المشكلات التي قد تحدث بين المواطن أُثناء المنزل وبعض العمال قد تزيد الضغوط على ذلك المواطن، مطالباً المواطنين الذين سيبنون بيوتاً أن يتوخوا الحذر في تعاملاتهم، وأن يتجنبوا الوقوع في مشكلات قد تزيد من معاناتهم. عمالة الشوارع تهدد بيوت المستقبل! يعتمد غالبية المواطنين على التعاقد مع العمالة السائبة في الشوارع سواء من البنائين والدهانين والمبلطين والسباكين والكهربائيين كلا على حدة؛ بغية حلحلة الأمور في أن يغطي القرض متطلبات البناء، وهرباً من أسعار مقاولي التسليم على المفتاح الذين يطلبون مبالغ طائلة. ويعمد المواطنون على التعاقد مع الأرخص من تلك العمالة لاقتناعهم بأنهم جميعاً ليسوا لا يملكون المهارة الكافية، ولكنهم قد يؤدون المهمة في نهاية الأمر، وتظهر زيارة لأحد البيوت التي للتو بُنيت مدى تأثير العمالة غير المدربة، وكذلك قلة خبرة المواطنين على مستوى تنفيذ ذلك المبنى، خاصة في مرحلة التشطيب التي غالباً ما يترك عمال الشوارع بصماتهم عليها بعد الرحيل، فاللياسة غير المستوية، والسيراميك غير المتوازي، والدهان الذي يعتقد صاحب المنزل أنه تعتيق، بينما هو (خربشة) اسفنجة عتيقة، وكذلك مشكلات السباكة والكهرباء عيوب قد يحصدها المواطن بعد عام أو اثنين من سكنه منزل العمر المنشود، إلاّ أنه يدرك أنه لم يكن أمامه مفر من خوض تلك التجارب المريرة تحت وطأة ضعف المبلغ الذي حصل عليه لبناء ذلك المنزل. وفي حالات كثيرة صادف مواطنون عمالا كانوا قد ساهموا في بناء منازلهم بمهن معينة، وهم يعرضون خدماتهم في مهن أخرى؛ فليس غريباً أن يجد أحدهم السباك الذي نفذ أعمال السباكة في منزله ينفذ أعمال الكهرباء في منزل آخر. صعوبات رحلة بناء المنزل قد يتفق كثيرون على أن مسألة التمويل وتوفر رأس المال الكافي هي العقبة الرئيسة التي تحد من تمكين المواطنين من امتلاك مساكن، وفي ظل تضخم أسعار الوحدات السكنية في المملكة خلال الخمس سنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، بات خيار العمار هو الخيار الأقرب لكنه الخيار الأصعب، فليس أمام المواطنين سوى خيارين أحلاهما مر، إما شراء وحدات جاهزة أسعارها ملتهبة، وإما خوض تجربة البناء بكل تبعاتها. وإذا ما أراد الله وتيسر مبلغ من قرض من الصندوق العقاري أو من أحد المصارف؛ فإن المواطن قد أصبح في مواجهة حقيقية مع رحلة (العمار) وتبعاتها، والتي تحتم عليه أن يشمر عن ساعديه، وأن يصبح ويمسي على وجيه عمال الشوارع وباعة مواد البناء في مهمة ليست باليسيرة. ورغم تعدد المصاعب التي تعترض طريق المواطنين الذين يبدأون في مرحلة البناء، إلاّ أن أكثرها صعوبة تنحصر في الآتي: * ضعف مبلغ التمويل مما يجعله يشتري مواد بناء رخيصة، وكذلك يتعاقد مع عمالة ليست ماهرة. * قلة الخبرة في مجال البناء مما يجعله تائهاً بين نصائح العمالة وثقافاتها ومصالحها. * عدم التفرع حيث إنه في الغالب موظف أو مرتبط بعمل ما. * عدم القدرة على التعاقد مع مقاول واحد، مما يجعله يتعاقد مع عمالة مختلفة التخصصات. * عدم انضباط العمالة في تنفيذ العمل، حيث يغيبون أسابيع ثم يعودون وذلك لتنفيذ أكثر من مشروع في ذات الوقت، وبعضهم قد لا يعود أبداً. * الاختلاف مع العمالة على الدفعات، بعض العمالة يأخذ خمس دفعات في تنفيذ عمل معين وذلك لاهتزاز الثقة بين الطرفين. * عدم وجود أنظمة صريحة وحازمة يمكنها أن تفصل بينه وبين العمالة عند وجود اختلاف ومشكلة مما يجعله يعزف عن الشكوى كسباً للوقت مما يعرضه لخسائر. * روتين الجهات المعنية في تركيب عداد الكهرباء وإيصال الماء وغيرها من الخدمات.