ربما لا تكاد تخلو ذاكرة سعودي من برنامج كان اسمه «أبناؤنا في الخارج» يقدمه اللامع ماجد الشبل، حيث تظهر صور الشباب السعودي المبتعث للخارج وهم يتحدثون عن مشاريعهم وآمالهم وحياتهم في الغربة والوعود والأمنيات الطويلة التي يحملونها للوطن حين عودتهم، ذلك البرنامج كنا نشاهده مأخوذين بصورهم الجميلة وهم يرتدون القميص والبنطلون حاسري الرؤوس ونحن نتطلع إلى هذه الوجوه التي ستعود للوطن فتحاً علمياً متعدد التخصصات والمهن، وتلك صورهم وأهاليهم تتقاطر دموع بهجتهم لهذه الوجوه الناصعة وطنية وجهداً وسهراً ودراسة وغربة حتى يكونوا ويتشكلوا أفراداً على هيئة سواعد.. وعقول وطموح يفتح لوطنه أبواب الرخاء ويوسع فيه دوائر الإنتاج والأداء والقوة. وهم في ذلك يبنون من أنفسهم قدرات وطاقات وذوات واعية وطنية متمدنة لها همها المنطلق من الوطن والعائد إليه. «أبناؤنا في الخارج» سحنتهم التي بدت عليها آثار المناخ الجديد وتصالحهم السريع مع المجتمعات الجديدة والتحامهم في مشروع يبدأ طرفه لديهم ويمتد بامتداد الوطن البعيد عنهم. تلك ارهاصات ودلائل بارزة على صورة الشاب السعودي التي تمثل نموذج الوطنية والبناء والمدينة.. وهي الصورة التي يكون عليها الرهان الحقيقي حين نتحدث عن وطن قائم بأبنائه، وهي الصورة التي يجب أن تمثل مشروعاً وحلماً للجميع لتمثله وبناءه. ولقد واصلت هذه الصورة حضورها واكتمال فصولها وتعددها، لتكون هي المثال الحي والشاهد اليقيني على تشكل منطقي راجح وفق أعلى وأكثر الأنماط تحضراً وحداثة واتزاناً.. ولم يحدث ان غادرت أذهاننا تلك الصورة اما حقيقة أو أملاً. في رجفة غير متسلسلة انتقل إلى مشاهد أخرى لشباب سعودي ينفخ نار الويل في جبهات مشتعلة في العالم لا شأن له بها ولا بمن أوقدها ولا بمن احتطب لها ولا بمن قدر زيت الخديعة حتى تواصل أوزارها.. شباب سعودي في أفغانستان.. في الشيشان وشباب سعودي يمثل خمسة عشر فرداً من تسعة عشر كانوا مجموعة من قاموا بعملية الحادي عشر من سبتمبر.. تلك الحادثة التي لا زالت شظاياها تتطاير في كل مكان بل.. وسعوديون في الفلوجة يفتحون أبواب الموت على كل جهة ويقدمون أنفسهم حطباً نخراً لنار لا قرار لها. بل كن أكثر نكاية بخيالك.. وحاول أن تنتقل من صورة شاب سعودي في معمل علمي أو في بعثة جامعية أو في ميدان عمل إلى صورة شاب سعودي يهيء حزاماً ناسفاً حول خصره أو يتهيأ للموت في جبهة أو أخرى. بالتأكيد أن الأصل والطموح والواقع هو ما تعكسه الصورة الأولى ومثيلاتها وكل ما انتمى إليها وأدى في النهاية إلى تشكيل مواطن قضيته الأولى في وطنه ومشروعه في بناء ذاته التي هي خلية حية في جسد وطن قرر أن يكون.. ثم تجاوز المظاهر البدائية لكينونته ليكون بأبنائه وموسساته وطناً متحضراً وفاعلاً في منظومة الحياة الجديدة. وذلك الأصل.. وذلك النموذج المأمول والمنتظر.. هو الذي من أجله تقام المؤسسات ويتم التخطيط في انتظاره كمخرج طبيعي لتلك الخطط وحين تعم لديك صورة المواطن الحقيقي في كل المؤسسات والأعمال والدوائر وقطاعات المصالح والفعاليات الوطنية المتعددة.. فإنك بذلك ترتب الدائرة الوطنية وفق التقسيم المنطقي للمدخلات والمخرجات. لكن.. هل حدث ان كانت المدخلات التي تقدمها كل المؤسسات أو التجمعات أو الهيئات.. رسمية كانت أو غير ذلك.. هل حدث أن انحرفت عن مسارها لتخرج مجاهدين، وهل اتجهت ما من شأنه أن يغيب نموذج المواطن الفاعل لتبرز نموذج الفرد المجاهد؟ مبررات الموت.. المشهد في الثقافة نظرة خاطفة لا يمكن أن تشير إلى شيء من ذلك.. فالمؤسسات والهيئات والنخب بمختلف أشكالها لم تسع في يوم إلى إعلان مشروع ، تسعى لتشكيله.. وإذا كانت الحالة إنما تخضع للقراءة والبحث انطلاقاً مما هو متاح ومعلن.. فإن ثمة حاجة لتتجه القراءة إلى ما ليس بمعلن ولا متاح ولا مشهود. ذلك أن المجتمعات ذات الثقافات التقليدية انما تخضع خطاباتها ويخضع أداؤها الحياتي وما تتلقاه وما تنتجه لمستويين المعلن المجازي.. وهو الذي يمثل حجة دائمة لتسيير الحياة كما نرغب ووفق الأطر التي نأمنها ونطمئن إليها سواء أكانت نافعة أم ضارة، والمستوى المضمر وهو الذي يشتمل على الخطابات ذات التأثير الفعلي وغير المجازي والحقيقي.. وهي خطابات تتحرك بحرية لانها تتخلص من ضريبة الافصاح والإعلان.. وبذلك تشكل عاملاً مؤثراً في أداء المجتمعات ذات الثقافات التقليدية.. لكن كيف يمكن ربط هذا بما سبق، وهل القضية التي تتمثل في صورتين للشاب السعودي الأولى: صورة بناء ووطنية والثانية مشروع انتحاري - مع ما بين الصورتين من تفاوت - ومع ما للثانية من تأثير أكبر على ما هية الفرد السعودي وموقفه من العالم لأنها هي التي تهم وتشد الانتباه إليها أكثر من سواها. ما العلاقة بين كل هذا وبين تلك الصورتين وهل الأزمة أزمة خطاب داخلي سعودي ومؤسسات سعودية، أم أنها أزمة ثقافة بالدرجة الأولى.. وخاصة ان جبهات القتال والموت الحقيقي منها والمفتعل في بقية أنحاء العالم.. ومثلما أنها تشهد كذلك حضور سعوديين فهي كذلك تشهد أشكالاً وجنسيات مختلفة، بل إنه لا توجد جبهة من تلك الجبهات يمكن ان يكون كل زبائنها سعوديين.. وأقل نظرة إلى أي إحصاء في هذا الصدد تكشف ذلك. هذه الحالة تقودنا إلى أولى لحظات الإجابة وتتواجه رداً على الاحتمال القائل بأن هذه أزمة سعودية فقط أو ان هؤلاء الأفراد الذين تحفل الجبهات بدمائهم والأحزمة الناسفة بصدورهم هم سعوديون فقط، بل هي قضية في الثقافة الدينية والوعي الديني بالمقام الأول.. تلك الثقافة وذلك الوعي الذي يمتد من مناطق قديمة مر بها الذهن الإسلامي أثناء تشكله وحوادث وقضايا متعددة خلقت له سياقات جديدة وافتعلت له أخرى، بالإضافة إلى ما في الثقافة عبر درسها الديني والمدون التنظيري من تأزمات وخروقات متبادلة إما بين النص الديني والمتلقي أو العكس وشهد التاريخ الذي شكل هذه الثقافة ودونها كثيراً من الظواهر التي فتحت الباب واسعاً لجوانب غير منطقية ولا متسقة مع الحالات الأصلية للنص السماوي الكريم، بالإضافة إلى عدم توافقها مع أبرز متطلبات المصلحة ومنافع الأفراد والجماعات. وعليه فإن ثمة علة ثقافية وتاريخية.. نحن مشمولون بها كغيرنا لأننا شركاء أصلاء في ذات الثقافة بكل تحولاتها وحسناتها وأخطائها.. وبالتالي شركاء في ذات الامتثال والاستجابة لما تطرحه هذه الثقافة ولم تبثه تلك التحولات من اعتناقات مفبركة وضارة، ومجانية للصور الأصلية.. فكرة المطلق.. الجهاد المتفرغ فإذا كان الجهاد خطاباً دينياً حملته الشريعة فإنها لم تأت به معلقاً في الفضاء دون قيود أو شواهد أو متطلبات أو سياقات، وإذا كانت الشهادة فكرة حضرت في النص الديني الإسلامي وغيره، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال ان تخضع قراءتها لطاقات التهور وأفكار الحذر الذي تمليه اعتناقات اليقين المطلقة المستجيبة لأفكار قادمة أصلاً من خارج النص وطارئة عليه، ومنشقة على شروطه وسياقاته التي جاء فيها واستلهم بها أمراً دون آخر. تلك الحالة السابقة مثلت خطاباً قائماً في الذهنية الإسلامية وأصبح يضخ عليّ امتدادات واسعة مستفيداً ومعتمداً على ما هو موجود في الموروث أصلاً من انسياق واتباع مطلق لمثل هذه القيم والأنماط، وهو انسياق يتم دون مساءلة أو تحر أو مراجعة لما عليه تلك القيمة وما إذا كانت قائمة على شروطها أو مقحمة في سياقات مفتعلة وظرفيات مستجدة. لتبرز الحاجة فوراً إلى مشروع تنظيري وقراءات جديدة تسعى لتهذيب تلك المعطيات وتقديمها وفق صورها الصحيحة وإحالتها والتعامل معها وفق ظروفها وسباقاتها والبحث عن خطاب جديد ورؤية أكثر التصاقاً بالواقع وأكثر فهماً له وتحاوراً معه والتخلص من إدارة الحالي والمعاش وفق سياسة المجلوب والمستعار من ظروف وأحداث تاريخية معينة، فهل حدث من ذلك ما يمكن ان يدل على مثل تلك المراجعة أو الشروع في القراءة الجديدة التي تمتد الحاجة إليها بامتداد التاريخ الإسلامي؟ الإجابة هنا تقتضي حالة من الفصل بين الخطابات المضطلعة بهذه المهمة أو التي يفترض ان تضطلع بها في العالم العربي المسلم، حيث يمكن تقسيمها إلى خطاب مسالم وخطاب حركي عنفي وأمام هذا التقسيم.. نصبح أمام خطاب متطرف وآخر مسالم، وأما المتطرف فهو خارج دائرة الأمل بأن يراجع موروثاً فقهياً أو يقدم خطاباً جديداً لأنه مرتهن تماماً لظرفيات وسياقات قديمة وجهت النصوص والأوامر والنواحي وكبلتها في تلك الأحجام التي يفترض بها ان تكون أحجاماً مؤقتة لتصبح أحجاماً دائمة، فيما ذهبت التجمعات والدوائر ذات الخطاب المسالم إلى إعادة إنتاج ما سبق وكانت الأقرب والأكثر اشتمالاً على فرص ومبررات اعارة القراءة.. ولا يمكن هنا تجاهل أصوات ظهرت في العالم العربي تتحدث عن فقه الواقع وعن تعديلات وتداخلات واسعة مع مسلمات فقهية وموروثات نمطية عديدة.. ولكن هذه الأصوات لم تأخذ شكل المشروع أو المؤسسة، وإنما ظلت مبادرات وأنشطة فردية.. وهي لم تحظ بالتأييد لتلك الأسباب.. ولأسباب أخرى من أبرزها ان سيطر في العالم العربي صوت التنظير المسالم.. متبادلاً الساحة.. سلماً أو اشتباكات مع التنظير الحركي والعنفي أضف إلى ذلك إلى ان هاتين الحالتين لهما ما يبررهما ويشد من أزرها في الثقافة العربية وطريقة التفكير التي شب عليها الذهن العربي، اما باللجوء إلى الساكن والراكد.. وإما بالاتجاه نحو المتهور والمتسرع. المشهد سعوديا.. من أفغانستان إلى العراق أولا حين يتم تناول المشهد سعوديا فلا يمكن بأي حال من الأحوال فصله تماما عن الظرف الثقافي والاسلامي العربي الذي يسهم في تشكيل الأفراد والجماعات ولا يمكن التعامل مع الداخل السعودي في العديد من تفاصيله على أنه واقع خارج كل هذا الحراك الذي يمتد لقرون طويلة.. ولا خارج حالات التأثير والتأثر، واذا كانت تلك مسلمة أولى.. فإن مسلمة ثانية لا يمكن اغفالها وهي أن منظومة من الظروف والتشكلات الداخلية أسهمت في صناعة ظرفنا الداخلي.. هذه الظروف ترتبط في قيمها الكبرى بالمنظومة العامة والمشهد العام فيما تختص هي بمنظومتها صغرى يحتم اختلافها من قطر عربي إلى آخر ضرورة بحثها ومحاكمتها بحثا عن نقاط ودوائر الخلل وتقديمها وفق وضوح ومصارحة هي أولى عوامل حلحلتها وابدال ماهو سلبي وضار منها.. بما هو ايجابي ونافع وبما انها مواجهة مع خطاب، فالإبدال يحتاج إلى تفكيك واعادة قراءة.. ثم إن عملية الاحلال لا تتفق والنيات المؤقتة أو القادمة لظرف دون غيره.. وإنما هي سعي لصناعة خطاب متزن هادٍ وطني مسالم متصالح.. تحثه هذه الصفات وتلقي بظلالها على كل اتباع لهذا الخطاب وتؤثر على كل المتحلقين حوله.. وطالما وجد خطاب مسالم فانه سيسهم مليا في صناعة أفكار وسلوكيات مسالمة.. تنحسر معها كل الأفكار السلبية ويشترك الجميع في خطاب لا يقدم صوتا على آخر.. او يلغي فكرة لصالح أخرى. وبما أن الخطاب الديني كما يعرفه د. يوسف القرضاوي هو بيان باسم الاسلام يوجه للناس مسلمين أو غيرمسلمين ويأتي هذا الخطاب في اشكال متعددة كالخطبة والمحاضرة والرسالة والمقال والكتاب والمسرحية والأعمال الدرامية أو نحوه وهذا الحد.. بالاضافة الى أن الفقه والتفسير والشروح وغيرها من الخطابات كلها عبارة عن كلام بشر».. فالكتب والآراء والمصنفات الفقهية أو التفسيرية.. أو أشكال الخطابات الدينية حديثة كانت أو موروثة كلها من كلام الناس.. وليست لله تعالى أو من كلام نبيه الكريم.. مما يسوغ ويحفز أكثر اخضاعها للمراجعة والقراءة والمحاكمة. أمام كل تلك التقدمات فان تجنب بحث الخطاب الديني أو الخوف من ذلك أو رفضه احدى علل ومسببات الركود والموات الفكري والنظري.. واذا كانت الحالة عربيا - كما تقدم الحديث - قد اعتنقت مفاهيم تم ضخها في الدروس والتنشئات أدت لاعتناق افكار الجهاد والشهادة في صور مقلوبة ومفتعلة فإن جزءا من تلك الحالة كان حاضرا في الداخل السعودي.. ولنفترض أن ما كان في أفغانستان حدث كلعبة سياسية فإن الجانب الأخطر في ذلك هو كيف أن أفكار الجهاد والمقاومة تم تلقيها كعناوين معلقة دون أدنى ضابط أو توجيه.. بدليل ان الفكرة لم تعش في أذهان الذاهبين القدامى الى أفغانستان على الأرض الأفغانية وانما جاءت على شكل تورمات عادوا بها الى أراضيهم وفتحوا «الجهاد» ضد كل ما رأوا فيه مخالفا لهم، وذلك الاعتناق المطلق جاء بفعل الضخ المتهور والمفتعل لتلك القيم وغيرها من القيم الاسلامية مع تنحية بليدة لكل قيم التصالح والحياة التي تحملها وحملتها النصوص الدينية.. وجميعنا يتذكر كتاب «آيات الرحمن.. في جهاد الأفغان» وكيف انتشر انتشار النار في الهشيم.. ومثل مرجعا تهييجيا ولعبا على عواطف الشباب بل ومثل في كثير من جوانبه تزييفا وتأويلا مفتعلا لنصوص دينية كريمة عرفناها ونشأنا على اعتناقها وهذا الكتاب مثال حي على تلك الخطابات التي اتجهت الى العاطفة لا الى العقل ولعبت لعبتها، وكما وجدت هذه الأصوات لها قبولا وذواتا تتمثل لها وتعتنقها، فقد وجدت اصواتا تتبناها وتقوم لسعودتها ومحاولة بثها من جديد، وهنا لابد من الاشارة إلى الأصوات العاقلة والمتزنة التي خرجت محاولة تهدئة هذا التهور والتحذير منه والذي يراجع كثيرا من البيانات والآراء والفتاوى للعديد من العلماء سيرى ذلك جلياً. سوق الشهادة .. لقد وجدت خطابات الجهاد والشهادة من يتبناها ويحث عليها بل ووفق صورتها المنفلتة والمنفعلة.. وضاعف ذلك ما كان لدينا من أخطاء وما حدث من اداء عكسي وقعت فيه بعض الأجهزة واستحضرت بعض الأصوات كل أحبالها الصوتية ودشنت مسلسلا من الصراخ لا يمت الى العقل أو المصلحة بصلة... وحملت ذلك الصراخ رؤوس غضة رأت في حماسته وتهوره نصرة لله وللدين.. واتسعت فكرة الجهاد في انتفاخات واسعة تحولت معها الصورة إلى معان تتجه ضد الحياة.. وتنبش باتجاه الموت.. شكلت هذه المعاني عقيدة صلبة ابرز أطرافها هي الرفض والتهور والافراط في توسيع دوائر القطعي واليقيني.. ورأينا كيف أن أجسادا لشباب سعوديين تناثرت على جبهات مفتعلة في أفغانستان استجابة لسلطة ذلك القطعي المطلق.. والبحث عن الموت تحت طائلة البحث عن الشهادة وشكلت كل تلك الاحتقانات والنماذج المثقوبة طريقة في قراءة العالم والحياة والتعامل معه واتسعت المشكلة حين تم ملء فراغات الأسئلة بربطها بما يحدث في مناطق متعددة من العالم على أنه تأكيد على صحة تلك المفاهيم، وظهرت تأويلات متطرفة للنص الديني جنحت به عن حقيقته وسياقاته الى ما ليس كذلك.. واحتدت ابرز جوانب ذلك الهياج النظري في صورتين هما: النصرة والانكار.. ارتفعا عن حالتيهما الى ذات الانفلات والهياج فأصبح قذف النفس في ساحات الموت بالمجان نصرة، وأصبح الانكار يقتضي قمعا ثم قتلا وانتحارا.. هذه المواصفات لا يمكن فصلها او تغييبها حين قراءة مشهد الارهاب في السعودية.. الذي لا يختلف في وازعه النظري والتأويلي عما سبق.. ليتحول الحديث عنه بأكمله الى تعامل مع بنية كاملة.. لها صفات ومقومات خاصة في كل تجمع.. فيما تشترك في القيم والمعطيات الكبرى، ولربما مثل تنظيم القاعدة بما قام به وبما يشتمل عليه من أدبيات وتنظيرات أبرز نموذج يمكن من خلاله قراءة تلك البنية.. وحتى يكون السياق متصلاً.. فإن تنظيم القاعدة قد فرّخ ابرز زبائنه وأتباعه في السعودية فيما يُعرف ب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» حيث تمثل خطاباته حالة استظهار وافية لكل تقاليد التهور والمجازفة الموروثة وتلك أنماط العلل التي يمكن أن توجد في أي ثقافة.. مع الأخذ في الاعتبار ارتباط هذا التنظيم نظرياً وفكرياً وتعانقه مع تلك السمات السابقة للخطابات المتطرفة التي ظهرت في السعودية، وعليه.. فإن احداث الإرهاب التي شهدناها في المملكة.. كانت بذات الأيدي التي تعتنق فكرة النصرة والرحيل إلى الجبهات بحثاً عن الموت والشهادة، بل إن أكثر من قام بهذه العمليات هم ذو ماض راسخ في جبهات القتال في افغانستان وغيرها. أبناؤنا في الفلوجة فتح المشهد العراقي ابواباً واسعة لأن يتم تلقيه وفق مصفوفات التلقي السابقة ووفق أنماط التهور والمجازفات سابقة الذكر.. واشتعلت الجبهات على أشدها حاملة لافتات وعناوين مستنسخة تماماً من مثيلاتها السابقة في افغانستان.. وفتح قاموس.. العزة - الشرف - الفداء - التضحية - الشهادة - الجهاد - النفرة - الرباط - المناصرة وغيرها.. لتبدأ حالة الحض والتهييج التي جاءت على أذهان جاهزة ومستعدة لحالة معينة من التلقي المنساق والمرتهن والاعمى.. والذي تمنحه تلك العناوين والنصوص المرتبكة اصلاً حالة من الخدر واستثمار العاطفة لتجده بعد حين قنبلة بشرية تبحث عن ساحة أو تجمع أو منزل لتنفجر فيه وتتعدد شظاياها بتعدد سدنة هذا الويل النظري وباعته. حدث ذلك بالفعل.. شباب سعودي يكسر دوائر حياته الآمنة والمطمئنة والرغدة والطبيعية، ويترك مشروع حياته وما يتبعه من عائليات وذكريات وآمال علقت عليه.. وينسلّ من كل ذلك عقوقاً ليتجه إلى الموت.. تؤزره أفكار الخلاص ومجازات الشهادة.. قصص متعددة تروى في هذا الصدد تكشف عن حجم الألم الذي خلفه هؤلاء الذاهبون لأهاليهم ولأسرهم.. بل ولوطنهم.. وقد عثرت في سياق بحث عن هذه القصص.. اما من مصادرها أو منقولات يتناولها الناس.. كلها تشير إلى فجيعة خلفها هؤلاء الشباب. وجوه الأمهات وحسراتهن وبكاؤهن الدائم خير شاهد على فظاعة هذه المشاهد، أمُ لم تنم منذ أشهر.. حين اختفى ابنها ليجدوا بعد اسبوعين من البحث رسالة تخبرهم انه ذهب إلى العراق. شاب يأخذ زوجته الحامل إلى بيت اهلها في ثاني أيام العيد لتسلم عليهم ثم يعود اليها.. فيتجه من فوره إلى غياب طويل.. يهاتفهم بعد اسبوعين ليقول بانه «مع الأخوة في الفلوجة»، امرأة بطفلة على الأرض وجنين في جوفها يتغشاها قلق غياب زوجها لأيام ليأتيها احد اشقائه ويخبرها انه هاتفهم من الفلوجة.. ذاهباً لنصرة «اخوانه المجاهدين» شيخ طوقته السنون الطويلة وهو يربي أبناءه ليفجع باثنين منهما نفضا يديهما من آماله وتعبه وسمع بهما انهما دخلا إلى العراق عن طريق بلد عربي مجاور.. عائلات يظلها صمت مطبق وحشرجات موزعة على الجميع وهي تحاول أن تلملم صدمتها في ابنها الذي يتّعب عن الموت.. كما نقبوا له طويلاً عن حياة أفضل ومعيشة أفضل. وقد فتحت «الفلوجة» كثيراً من ذلك.. ليس كمنطقة.. بل كفكرة.. أربطها ابتداءً من حالة المقاتلين وانتهاءً باسم البلدة.. حيث كانت هذه العوامل حافزاً عاطفياً جرّ الكثير من الشباب إلى ذلك الطوفان اليومي من الموت الذي لم يفرز الا دماراً.. هؤلاء الشباب خرجوا من بلدهم مسالمين ولم يحدث أن اشتركوا في أي عملية في الداخل السعودي.. تماماً كما هو حال الذاهبين القدامى إلى افغانستان.. لكنهم ما أن عادوا حتى كان الداخل السعودي الآمن هدفاً لهم وبدأوا يمررون كل أفكارهم وأحكامهم لتنسحب على الوطن، وتعالت أصوات الانفعال والتكفير والانكار لتنتهي إلى مشاهد الدمار في غرناطة والمحيا والوشم والخبر وينبع وجدة.. ولن تختلف التجربة الآن عن الحالة السابقة.. فالذين ذهبوا إلى الفلوجة لم نسمع عنهم شيئاً من قبل بل انهم خرجوا من حياة أقرب ما تكون للعادية.. الا انهم حين يعودون.. ستكون حالة الهياج النظري أتت على كل ما مامهم.. استجابة لاعادة التأهيل التي يتم انجازها في الجبهات.. ولأن الظرف القتالي الذي هم فيه منفلت اصلاً فإن حالة الانفلات تمتد إلى ما هو أبعد، بل ان في العملية التي كانت تستهدف القنصلية الامريكية في جدة ثبت أن أحد منفذيها كان ذا صلة بشكل أو بآخر بالعراق.. اما ذهاباً أو استعداداً للذهاب، مما يعني أن كل الذين ذهبوا.. لم يكتفوا بذلك الدمار النفسي الذي خلفوه في نفوس آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم.. بل انهم مرشحون وجاهزون لأن يعودوا حَمَلة للدمار والموت ويسكبونه ذعراً وجريمة في أيامنا وليالينا. وأمام تقارير تشير إلى ظهور متعدد لسعوديين في العراق.. وهو ظهور اشتد في الفترة.. الفلوجية.. في دليل على لا مشروع تؤديه تلك الجماعات.. فلا الفلوجة دولة لتحررها ولا هي بدين ولا عرق أو اثنية.. فكان الالتحاق بها التحاقاً بجيب مقاومة فقط.. وهو الالتحاق الذي غذته ظروف ومحفزات واسعة.. وقد كشفت تقارير ومواد اعلامية عن ظهور سعوديين بشكل ليس بالقليل في الفلوجة انخرطوا في تجمعات وتنظيمات متعددة.. فقد أظهرت أشرطة فيديو سعوديين دلّت على سحنتهم، أو لهجتهم حين يكونوا ملثمين وهم يستعدون لعمليات انتحارية أو ينفذون بعضها بالفعل، ولفتت نيويورك تايمز في لقاء لها مع لبناني عائد من العراق النظر إلى المقاتلين القادمين من دول الجوار وخاصة من السعودية، وفي نهاية الشهر الماضي تناقلت وسائل الإعلام وصحف عربية ومحلية تصريح وزير حقوق الإنسان العراقي بختيار أمين حول عدد 335 معتقلاً من المقاتلين العرب موضحاً أن بينهم 59 سعودياً بالإضافة إلى 130 آخرين يجري البحث عنهم.. وفي آخر قائمة نشرتها سلطة الائتلاف المؤقتة على موقعها على الانترنت ظهر عدد 11 سعودياً معتقلاً على خلفية عمليات ملاحقة المسلمين التي تقوم بها القوات العراقية وقوات التحالف، والى هذا تضاف عشرات الاخبار والتصريحات عن سعوديين تورطوا في اعمال عنف في مختلف ارجاء العراق. ومما تجب الاشارة اليه في هذا الصدد هو الموقف السعودي الرسمي من خلال تصريحات عديدة كان فيها واضحاً وصارماً ومحدداً وبأن من ذهب الى العراق انما ذهب للاضرار بنفسه ولقتال اخوانه ولامساعي لاسترداده، او بحث عنه.. إلا من عاد منهم مسالماً فهو في مأمن. والحالة تقتضي بالفعل متابعة حقيقية للعائدين بذات النموذج القتالي والرؤى المطلقة، فلن يعودوا الا كما عاد اسلافهم من افغانستان، وسيشكلون قلقاً طويلاً حيث لم تمنحهم افكارهم والاجواء التي استتبت فيها لهم افكار القتل المطلق والاعتناقات السافرة لكل ماهو دموي وعنفي الا تصرفاً ارهابياً كالذي نشهده الان، بل ان دلائل هذه المشاهد قد بدأ بعضها في الظهور كما في حادثة جدة سالفة الذكر. في تدليل على ان التطرف والارهاب فكرة وعقيدة تتغذى وتنمو في الاجواء المهيأة لذلك وبالتالي لاتفرق بين الأماكن والأزمنة لكن يظل المشهد الاكثر ايلاماً ان يتحول هذا الشاب اليانع عمراً وحيوية من مشروع وطني الى قنبلة بشرية يسعى بها لتكوين عنوان بليد للصورة المنتظرة والمأمولة للسعودي شاباً تحمّل مشروع حياته ووطنه بدل اراقة عمره فداءً لهياج عاطفي او تلبية لفتوى مفتعلة سعوديون يتبرعون .. سعوديون يفجرون معركة النماذج امام ذلك المشهد الذي يشكل العالم من خلاله صوراً قاتمة دبجها اولئك السعوديون بدءاً من احداث الحادي عشر من سبتمبر وانتهاء بهذه التسربات الى العراق، فان صورة اخرى اذا ما اخذنا قياسها كماً واعداداً واعتناقاً فستكون هي الاولى والاكثر حضوراً ويكفي النظر الى الحالات الانسانية التي باشرها سعوديون ووقفوا خلفها تحكرهم اخلاقهم وتسامحهم الانساني والديني ولعل نظرة الاسبوع الماضي تحيلنا على حدثين يجلل احدهما الاخر فقد تركز نظر العالم الى ذلك العرس الانساني الذي تمثل في عملية فصل التوأمتين البولنديتين وكيف مثل ذلك نصّاً عالمياً كتبه وقاله سعوديون في الداخل السعودي وانتج خير رسالة يمكن ان تشكل عليها النظرة الحقيقية الى السعودي المأمول في وطنه وفي علاقته بالعالم، وفي ذات الفترة كان المشهد الاكثر بروزاً وحيوية وانسانية ذلك التدفق الكثيف من كل فئات الشعب على صناديق التبرع لاغاثة منكوبي «تسونامي» الكارثة التي هزت العالم وكيف كانت كل التفاصيل تصب في انسانية وارفة وحقيقة شارك الجميع في صياغتها وبلغت التبرعات درجة تدل على هذا اليقين الفعلي والتواصل الرحيم مع العالم في تكذيب لتلك اليقينيات المفتعلة فصور الشباب والرجال والنساء والاطفال وهم يبذلون مالديهم والحماس الذي كان يحفزهم لذلك البذل شاهد على ان تلك النماذج العنيفة والقتالية لبعض الشباب السعودي يجب الا تصمد امام هذه النماذج الانسانية والرحيمة التي تشارك الانسان آلامه بدافع انساني ناهيك عن ان يكون الدافع اكثر تخصيصاً بل ان الرعاية والشراكة التي تؤديها القيادة في مثل هذه المناسبات والحالات انما تؤكد ان ثمة صوراً مأمولة ونموذجاً يسعى الجميع الى خلقه ومواجهة العالم به بعد ان قدمت نماذج مرتبكة ومخذولة بأنفسها وخاذلة لاوطانها. وهكذا فإن صورة «ابناؤنا في الخارج» او في المعامل والمصانع والمدارس وابنائنا في دوائر الانتاج ومد الوطن بما يحتاجه لتطوره هي النماذج المقصودة والمرجوة.. وان شباباً سعودياً في افغانستان او في الطائرات التي ضربت الابراج في امريكا او في الفلوجة هي نماذج تصنع صورة لايقابلها العالم الا بكل رفض وازدراء خاصة وانها هي النماذج الاكثر تأثيراً في العالم لأنها اكثر بروزاً ولفتاً للنظر من غيرها ومادامت كل العلل القديمة والجديدة والاخطاء القرائية والنظرية والقصائد المشهورة عنفاً وتطرفاً مادامت قائمة فإن الجميع سيظل في عراك طويل معها من اجل تنقية وتقديم النموذج العالمي والمدني المأمول والمنتظر للشباب السعودي. [email protected]