ساعة الإرهاب الرملية تحثو سوادها في آخر أيام العام 4002م الذي ودع العالم قبل أيام قلائل..، هذا السواد الذي لحق بآخر أيامنا كان جزءاً من خارطة العام بأكملها التي عاش فيها السعوديون بمؤسساتهم وعائلاتهم وأفرادهم حرباً فعلية مع الإرهاب. ومع كثرة ما كُتب عن الإرهاب وقيل عنه إلا أن تتابع الحوادث وتكشفها على أكثر من وجه وأكثر من هيئة أمر يفتح أبواب تعدد القول واتساع النظر.. بدءاً من معاينة أي حادثة وانتهاءً بالخلفيات النظرية أو المعرفية التي تقف خلف الإرهاب.. وليس العام الفائت إلا امتدادا لأشهر سابقة له اطلّ فيها الإرهاب برأسه بدءاً من حادث غرناطة والحمراء في الثاني عشر من مايو 3002م، وحتى ذلك الحادث لم يكن بداية بقدر ما كان تدشيناً لمرحلة أكثر قتامة وعنفاً وجرماً..، فقد سبقت هذه المرحلة حوادث سابقة شهدناها في المملكة وشهدنا ما صنعته من دوائر وما قامت عليه من خطابات.. بل إننا نستطيع ربط كل ذلك بحالة نظرية مرّ بها الفكر المتطرف وخرج معها من حالات الرفض والنفي والأحادية والإنكار والتجريم والتكفير وفق الطرق السلمية.. إلى حالة امتد معها الزمن وتوافرت الظروف التي أنجبت أفراداً قادرين على تحويل ذلك الإرهابي اللفظي والتنظيري إلى إرهاب عنفي وحربي وإجرامي. وقبل هذا فإن أبرز ما يلفت النظر ويستوجب المساءلة في ظهور الإرهاب في السعودية أنه لم ينطلق من منطلق عرقي أو اثني أو انفصالي أو انتقامي أو غيره.. وإنما انطلق من منطلق ديني..، أي من دين الإسلام كفكرة.. يرى أنه يمثلها ويمتثل لها ولتعاليمها وأنها هي التي تحرضه وتحثه وتدفعه إلى عمل كل ذلك، وهنا تسقط مسألة القياس بين ما يحدث لدينا في السعودية وبين الحوادث والجرائم التي قد تحدث في أي مكان في العالم منطلقة من خلفية غير دينية..، فلا مجال للمقاولة أو القول ان الإرهاب وحوادث العنف أمر ظاهر في مختلف بلدان العالم.. كلا.. فما لدينا إنما يمتّ بصلة لذلك الإرهاب «الجهادي» المنطلق من اتخاذ الإسلام مرجعية له كيفما اعتسف النص ووجهه.. فهو ليس حركة سياسية أو اثنية.. بقدر ما هو حركة دينية.. وهو بذلك قد يتقاطع مع مثيلاته من الحوادث التي شهدتها بعض مناطق العالم العربي والإسلامي.. بالإضافة إلى هذا المدّ الجديد الذي مثلته القاعدة كفكرة وكسلوك نظري أولاً.. ثم واقعي وحقيقي ثانياً. ولا مجال للمواربة في القول ان القاعدة انطلقت وتحركت وتشعبت وفق رؤى دينية خالصة.. هي ذاتها الحاضرة الآن في عمليات الإرهاب في السعودية.. والقاعدة ليست تجمعاً مستقلاً ولا جديداً بقدر ما هو النموذج الذي يمكن التعامل معه على أنه أبرز تجليات الإرهاب الديني، أو الإسلام حين يُخرج إلى سباقات العنف والتطرف..، وبالتالي فالإرهاب في السعودية إنما يتصل ويتقاطع مع كل عنف منطلق من الدين.. فقط.. بينما لا يلتقي مع أي عنف له خلفية أخرى أو وازع آخر..، ذلك أن الإرهاب غير الديني ينطلق من قضية محددة أو مطالبة معينة.. يسقط بمجرد تحصيلها فيما الإرهاب الذي ينطلق من رؤية دينية إنما تكون هذه طريقته في الحياة وهذا نهجه في قراءة العالم والناس وأن الدين بكل مقدراته إنما يدفع به تجاه هذا السلوك فهو يقرأ التطرف على أنه حالة الإخلاص الفعلية للدين والالتزام الحقيقي بأوامره ونواهيه..، وهنا تتحول المسألة إلى الجانب الفكري والقرائى الذي يسيّر النصوص ويطرح فهماً معيناً لها وهذه من أوسع القضايا وأكثرها خطورة في بحث مبررات الإرهاب وخلفياته. إرهاب بالدين.. إرهاب بالدليل!! إذن.. الإرهاب الذي ضرب بكل سواده وقتامته في السعودية كان إرهاباً منطلقاً من الدين متخذاً من اعتساف المنطق الديني ومفاهيم النص الديني آلية للتطرف تحدث بعدها نسبة كل أفعاله وربطها بالدين كمحفز لها وحاث عليها. وفي السعودية البلد الذي يقدّم الدين كخطاب تنتسب إليه كل أفعاله وإحداثاته وسلوكياته الاجتماعية والمؤسساتية.. هذا الدين العمومي والشامل تخرج منه أطراف لتمثل حالة انقلابية في هيئة تمرد قليل على كثير أو تمرد جزء على كل..، فالذين يقدمون أنفسهم كمجاهدين في السعودية يتفقرون للمبرر الأولي للجهاد وهو أن يكون ضد كفّار أو معتدين ولكنهم يدخلون إلى ما هم فيه وفق مبرر انتجته قراءتهم للنصوص والدين والمجتمع.. فتحول من يفترض أنه شريك لهم في الخطاب العام ليصبح خارجه وكافراً به، وهذا ليس انشقاقاً أو انحرافاً بقدر ما هو مبالغة في الصوت العام إلى درجة التخصيص.. أي مبالغة في التدين إلى درجة التطرف ومبالغة في الإنكار إلى درجة العنف.. إذن.. فأنت أمام إسلام مطروح بصورة سلمية وطبيعية عامة..، وأمام إسلام مطروح بصورة عنفية وغير عامة.. والثاني فرع عن الأول.. ولكنه تفرّع تمردي وانقلابي وليس تفرعاً طبيعياً..، وبالتالي فلا يمكن الجدال في أن المستويين يشتركان في كثير من الأفكار والقيم والرؤى بدءاً من القيم الكبرى التي لاجدال فيها كاعتناق الدين والايمان بأركانه وانتهاءً بالقيم الأخرى ذات التقاطع الشديد البالغ الحساسية مع قيم وأفكار التطرف كالجهاد والإنكار وقتال الأعداء وإقامة الشرع.. فالدرس الفقهي والأصوات الفقهية التنظيرية.. تقول بالجهاد.. ووجوبه، فيما يمثل القول بالجهاد احدى دعائم التفكير الإرهابي.. وأمام هذا التقاطع فنحن هنا لسنا بين خيار ان نكون بهذا التدين المتطرف أو أن نكون بلا دين..، بل هناك ما هو تدين حضاري وسلمي وتآزري وله العديد من النماذج التي يمكن ان يستدل بها عليه في العالم الإسلامي الواسع. أمام هذا التقاطع والاشتباك الواضح والقوي فلا يمكن الجدال في أن الإرهاب يقوم حيثيات ومسببات انطلقت من هنا.. من الداخل السعودي.. فالذين يقومون الآن بعمليات التفجير والقتل ليسوا طارئين على المجتمع ولا قادمين من خارجه بل هم حصاد لحالات من الانفلات النظري التي سادت الدائرة العامة للتدين وانقلبت عليها وتمردت على سلميتها وقد تمثل ذلك الانفلات النظري في مظاهر متعددة لعل من أهمها صورة المتدين الأممي الذي يمتد همه من أفغانستان إلى فلسطين إلى الشيشان.. وما يتبع ذلك من توسيع لدائرة الأعداء لتشمل منهم من المسلمين وذوي القربى وارتباط ذلك بالخطاب المسيّس الذي نشطت فيه الفتاوى والاجتهادات والتحفيزات والتوسعات وأصبح الإسلام لدى هؤلاء مادة سياسية مع إغفال تام للجوانب الشخصية والإنسانية التي يفترض بها أن تكون المشروع الفعلي لأي متدين.. وتناسيها وافتعال أنماط دينية حادة ومتشددة يزدهر معها فضاء الصراخ والتجريم والتشهير.. بل تتجاوزه لتصل إلى افتقار لأقل درجات الأدب والسلوك الإنساني ناهيك عن كونه سلوكاً إسلامياً واتسعت تلك الصورة بسبب القراءات العاطفية والمنفعلة لما هو حادث من حالات صراع أو حروب في مناطق متعددة من العالم الإسلامي وما نتج عن ذلك من تخبط نظري وتحليلي اتخذت معه بعض الحركات الإسلامية في العالم أسلوباً فيه من الغلظة والفجاجة، ولم يتأثر الداخل السعودي بذلك عموماً.. ولكن بعض الأصوات الفردية والقليلة أخذ تجرّ صوتاً متأسلماً وتابعاً وبدأت تظهر كنتوءات وكدوائر صغيرة داخل الدائرة الكبرى التي يمثلها التدين بصورته الفطرية والسليمة التي نشأ المجتمع عليها. لكن السؤال الذي تجب مواجهته هو: هل قامت النخب الفقهية والشرعية بدور ترشيدي وتهذيبي لحالة الانفلات تلك؟ في الحقيقة لا يمكن إغفال الدور الذي قامت به مؤسسات شرعية وفقهية سعودية تنبهت منذ البداية إلى ذلك الانفلات وقام العديد من العلماء الأجلاء بالنصح والمكاشفة والتحذير من ذلك والحث على التمسك بكل ما من شأنه الحفاظ على الوحدة ونبذ الفرقة. ولكن تلك الأصوات أخذت تواصل انفلاتها وتمردها وانقلابها.. وسعت إلى أن تصبح مثل تلك الأفكار خطاباً شائعاً ومنتشراً.. مستغلين انقياد بعض العامة الذين تخضع رؤاهم لسلطة أي شخص يسمى ب «الشيخ» حتى لو لم يملك المقومات، والعامة لا تمتلك أداة فرز فعلية تفرّق بها بين ما هو نافع وسلمي وبين ما هو متهور ومتطرف..، بل يستجيبون لكل صوت يقدم نفسه انه يحمل الإسلام هماً وطاعة الله سلوكاً. أوليات في التطرف.. تكفير بالمجان ومنذ بداية الثمانينات.. وتبعاً لظروف في الخارج... وتفاصيل واسعة في الداخل ظهر المد المتطرف المنتسب إلى تلك الدوائر الصغرى سابقة الذكر وأخذ يمثل لها مرجعية وتنظيراً ويقيم معها نسباً وثيقاً، وبدأت تسطع ما يمكن تسميته ب«نجومية الشيخ» وتحوّل عدد من أولئك الخطباء والفقهاء والدعاة إلى نجوم يتبارون في مبيعات الأشرطة والحضور الذي تحصده لقاءاتهم، كل ذلك مع تنبه المؤسسات الدينية الرسمية إلى هذا والتحذير منه وكان من عوامل الداخل التي مثلت سوقاً واسعاً لهؤلاء.. حين نشطت فترة «الحداثة» في الثمانينات.. وما وازاها من دخول المجتمع في حداثة على مستوى الوسيلة والتواصل مع العالم.. حيث نشطت بالمقابل حركة التطرف النظري وحملت محاضراتهم هذه الفئة وأشرطتهم ألواناً من التكفير والقذف والرجم بالمنكر تحت دعاوى كشف هؤلاء العلمانيين والحداثيين، ولقد مثلت هذه اللحظة عاملاً تاريخياً ليس في انها كسرت الحداثة أو أخرّت مشروعها أو غير ذلك، بل هو عامل خارج الحداثة كحركة.. فقد أدى ذلك المد إلى اشاعة نمط جديد من التطرف تمثل في ترويج بضاعة التفكير وتوسيع دائرة المشمولين بها وتحويله من كونه حكماً خطيراً ومؤثراً يحذر منه العلماء والفضلاء الحس درجة من الاستسهال والتبسيط وتحوّل مع ذلك بعض رجال الوطن الذين يشهد لهم الجميع بالاخلاص والوطنية إلى مرمى سهل للتهم والقذف والتفير، وبث حالة من العدائية وسهولة الانكار الذي تحولت معه بعض الآراء المتطرفة إلى مسلمات وحقائق اعتنقها بعض العامة وأخذوا يرددونها. وانتهت تلك الحالة تاريخياً مورّثة ما لايمكن تجاهله من اشاعة وبسط لثقافة التكفير.. واتخاذها لطابع العمومية واتهامها بالفوضى والعاطفية والتهور.. وهو الأمر الذي امتد ليمثل واحداً من روافد الإرهاب. إن الذين دشنوا موجة التكفير في تلك الفترة بذروا مانحصده الآن من إرهاب.. في جوانب متعددة كان لهم الاسهام الابرز في تنشيطها وتغذيتها. امام هذا المد لم تستجب تلك الأصوات المتطرفة لتلك الآراء التي كانت تنادي بالوحدة الوطنية وتغييب الفرقة.. وقد ظهر علماء حاولوا التركيز على تهور هذا الفكر وتسرعه وخاطبوا الكثير من افراده والذين انقسم بهم الحال إلى صمت مرتبك وانشغال بردود وجدالات لا قرار لها. وامام ذلك كله يمكن القول ان حالة من التدين المتهور برزت لدى تلك الاصوات في الداخل السعودي ووجدت لها منهم منظرين لتأتي ظروف محيطة ومستجدات عالمية ولتمثل مادة سائغة واصلوا بها النفخ على نارالتطرف التي امتدت وانتشرت لتكون ارهاباً يضرب بكل جهله وقتامته في أيامنا ومدننا وشوارعنا. ولعل من أبرز الآليات التي يمكن النظر اليها مايحدث من تعاطٍ قسري ومختل مع النصوص لتتحول إلى وقود نظري.. ثم مبرر للعنف ويكفي لتأكيد ذلك قراءة أي بيان من بيانات التنظيمات الإرهابية لترى كيفية التعاطي مع الشاهد وطريقة استخدام الدليل.. والتعلق بادلة دون اخرى وهو جزء من الآليات المتهورة في التعاطي مع النصوص الدينية. هكذا غاب الوطن.. هكذا ظهر الإرهاب في هذا السياق تأتي أسئلة المواجهة التي لابد من طرحها، والتي يمكن تلخيصها في هل سعت تلك النخب المتدينة والوعظية إلى تقديم أي خطاب وطني.. وهل طرحت ترسيخ المواطنة مشروعاً لها في يوم من الأيام، وكم فقيه منهم أوعالم دين ينتمي اليهم تحدث أو ألف أو حاضر عن الوطن وضرورة أن يكون قيمة فوق الخلافات والفروق، وهل شهدت مباحثهم أي تحرك باتجاه تقديم خطاب وطني.. خاصة مع ما هو معلوم من قدرة تأثيرية لهم في نفوس العامة الجواب.. بكل وضوح.. هو انه لم يحدث شيءمن هذا.. بل حدث ما هو خلاف ذلك.. ولم يكن ان ظهر الوطن كخطاب أو كقضية تمحورت حولها أي رؤى فقهية أو دينية لدى هذه الفئة وانما وببالغ الحسرة انطلقت كثير من تلك الأصوات إلى بث وترسيخ كل ما من شأنه ان يزرع فرقة وتناحراً بين من يضمهم الوطن كسماء ويقلهم كأرض.. وظهرت حالات من المبالغة في القدح والذم لمن هم مواطنون مثلهم مثل غيرهم.. وما كاد ينتج عن ذلك من اشاعة لخطاب التفرقة والنبذ وابعاد كل ما من شأنه ان يسهم في خلق مناخ وطني واحد تسقط امامه كل التمايزات والفروق ويكون معه الوطن هماً للجميع وملكاً لهم ويقف الإنترنت شاهدا على ذلك حيث ارتفع صوت التكفير من هذه الفئة ليشمل طوائف وافراداً وليقدم حالة من الشقاق والتناحر داخل المجتمع، ما من شأنه ان يلغي الوطن كمرجعية وأن يفتح الباب لمرجعيات وخلفيات متعددة لا يصبح للوطن موقع معها.. الأمر الذي ادى ولو بشكل جزئي إلى أن يكون كل ارهاب أو عنف شهدناه ونشهده في الداخل السعودي منطلقاً من رؤية دينية ومدعياً لشرعية ما يقوم به. والذي يراجع أفكار بعض أولئك فلن يجد ما يخرج به عن الوطن وسيجد كيف اثارت هذه النقطة حفيظة كثير من العلماء الاجلاء الذين قدموا النصح والتحذير من ذلك، ومما تطرحه الاصوات المتطرفة من تضاد مع فكرة الوطن، وقد كان تحذيرهم في محله إذ لو تذكرنا تلك الرسالة التي وجهها احد الإرهابيين لسمعناه يقول بفكرة: أن الدين هو الوطن وما عداه فليس رابطة ولا يمثل قضية أو تأثيراً تترتب عليه حقوق أو واجبات بل يصرح بعضهم بأن الأخوة انما تكون في الإسلام وأن الأوطان انما هي حدود صنعها الاستعمار.. وهذا الخطاب الذي يخرج بالإسلام من صورته الداعية للوحدة والتكاتف إلى حالة من الشقاق لايقرها الدين بل ان واحدة من ابرز صور العبث بالوطنية تلك التي تظهر حين يتم التعرض لاي من رجال الوطن والمشهود لهم بالاخلاص والذين قدموا للوطن انجازات واسعة.. تحت دعاوى كشفه والقيام بتصنيفه بأي من تصنيفات التشويش المفتعلة.. ووصفه بما ليس فيه.. وتناسي كل حسناته ومجهوداته الوطنية وتقديمه للناس على انه علماني أو ماسوني أو حداثي.. وبالتالي يسقط الجهد الوطني من حسابات التقييم لتحل محله حسابات مفتعلة ومصطنعة والمواطنة التي هي اساس التسامح والمساواة حين غابت عن الخطاب الديني فقد اسهم تغييبها في تسويق خطابات العنف والتطرف والاقصاء والأحادية. النسب المشترك.. التطرف كفكرة ..الإرهاب كتنفيذ.. امام ظرف كذلك.. وامام خطاب ديني متطرف تحمله هذه الفئة بكل تصوراتها عن الوطن والدين وامام وطن ومجتمع متدين بالفطرة تحضر فيه كل الخطابات الا خطاب الوطنية، وامام ذلك الضخ الطويل لمفاهيم ومقاييس تحتكم إلى كل شيء الا الوطن.. وبالنظر إلى القراءة الاساسية لكل الظروف المحيطة.. امام كل ذلك.. فليس من المستبعد ان يشهد الوطن من ينقلب عليه ويضربه وليس من المستبعد ان يخرج الارهاب أو يطل برأسه إذا ما اجتمعت له كل تلك الظروف واحتشدت كل تلك المناخات التي كانت الأحادية واحتكار الحقيقة وتغييب المظلة الوطنية أبرز عناوينها فلابدأن يتم ابتكار مظلات تتخذ من تلك السمات مقومات لها فيتحول مثلا ايمانها بحقيقة ما تعتقد به إلى الدرجة التي تضحي بكل شيء من أجله.. وان تصل بها أحاديتها درجة الكفر بما عداها، وان يصل بها التباس مفهوم التدين والالتزام إلى درجة العنف والانتحار، وكل تلك السمات وتلك الظروف والارهاصات هي أبرز اسباب ودوافع مانعيشه الآن من مواجهة فعلية مع الإرهاب.. هذا الفصل الساخن نشهده الآن ومنذ ما يقارب العشرين شهراً اندلع اكثر فصول الإرهاب حدّة وايلاماً واكثرها عنفاً وطيشاً بل وأشرها جرأة على الوطن والناس والأمن والحياة.. وهذا الإرهاب في فصله الحالي قادم ومتأثر بكل تلك الخلفيات السابقة وقائم على نسب واضح ومتأصل لتلك الظروف التي قعّدت له وأوجدت منطلقات نظرية وفكرية متعددة فإذا كان هذا الإرهاب قائماً على ادعاء الدين كخلفية له ووازع يحركه وإذا كانت أبرز تجليات خطاب الإرهاب الحالي كما هو ظاهر في أفعاله وبياناته تتمثل في غياب تام لفكرة الوطن، بل ومقاومتها والتعامل معها على أنها فكرة منحرفة ووصفية وغير حقيقية.. فليس هذا إلا جنياً يانعاً منخوراً لذلك البذر واتصالاً حقيقيا بتلك الخطابات المتطرفة السابقة التي غيبت مفهوم الوطن وكممارسة ليأتي الجيل الثاني ويحولها. جزيرة العرب.. من لسان «الشيخ» إلى جسد الإرهابي ويكفي في هذا الصدد الإشارة الى تسمية «جزيرة العرب» التي تأتي متضمنة إنكاراً صريحاً للاسم الحقيقي والحالي وهو «المملكة العربية السعودية» وكل بيانات القاعدة في جزيرة العرب.. وكل أدبيات الإرهاب تتخذ من تسمية «جزيرة العرب» مدخلاً دائماً لوصف أفعالها ومسرح أحداثها.. وهي التسمية التي تتضمن عدم اعتراف بشرعية هذا الكيان الكبير ولسنا بحاجة الى كبير فحص أو تدقيق للعثور على الأصول الفعلية لهذه التسمية لدى العديد من يدعون أنهم علماء دين والذين لا زال بعضهم الى يومنا هذا لا يستخدم مسمى الدولة الفعلي وانما يستبدله زوراً وتطرفاً باسم جزيرة العرب. أيضاً.. يقوم الإرهاب في فترته الحالية على ذات الآلية التي شهدناها في التعاطي: مع النصوص والأدلة الدينية.. من أحادية وإصرار على التوجيه الواحد للدليل ورفض الآراء الأخرى.. والانطلاق من ذلك الفهم للقيام بما يقومون به الآن. واستمع كذلك الى أي خطاب «لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب» أو أي من رموزه لترى التقاطع الكبير في ذات القضايا التي كانت مادة دسمة. من الوقود المجاني الى المساجلات الباردة اذن اشتعلت حرب الإرهاب واتكأت على الوقود السابق.. وطورت في ذلك أفكاراً ومضامين أخرى.. وبدأت الحرب حادثة حي الحمراء وغرناطة، حادثة مجمع المحيا، حادثة مبنى المرور في شارع الوشم، حادثة المجمع السكني في الخبر، حادثة ينبع، حادثة القنصلية الأمريكية في جدة، حوادث اغتيالات وجرائم قتل متعددة، حوادث مداهمة ومصائب كبرى تم اخمادها بفضل المواجهة الصادقة والقوية التي قام بها الجهاز الأمني في مختلف مناطق المملكة، وانتهاءً بحادثة الأسبوع الماضي التي جاءت نهاية سوداء لعام شوّه الإرهاب ملامحه وتفاصيله..، ورغم ذلك.. ورغم هذه المدة الطويلة وهذه المواجهة التي امتدت من الأمنية إلى الفكرية إلى المعرفية.. إلا أننا لازلنا بحاجة إلى مشروع يقوّض البنى الفكرية والنظرية للإرهاب.. ويقوم على التداخل المعرفي الفعلي مع كل أنماط التحليل والقراءة المتطرفة للنصوص، بل حتى على مستوى البيانات لازلنا لم نشهد سوى تلك التي تندد وتجرّم وتقول إن هذا من الإفساد في الأرض.. ولا أتصور أن هناك من يحتاج إلى أن تمنحه هذه الفكرة العظيمة.. القائلة بأن قتل الأطفال وتدمير المدن من الإفساد في الأرض، بل إن القاصمة تظهر حين يخرج أحد الذين نأمل بهم أن يقدموا ما من شأنه نقض ذلك الخطاب ليبحث عن حجج واهية وتفصيلات تافهة مدعياً أنها هي السبب خلف ظهور الإرهاب، كدمج إدارات التعليم أو المقالات الصحفية التي تكتب هنا أو هناك. ولئن كانت المؤسسات الدينية الرسمية قد حذّرت منذ مدة طويلة من مثل تلك الأصوات وبينت ما هي عليه من تعمد الإثارة والخروج على النظام وبثّ الفتن..، إلا أن تلك الأصوات واصلت حضورها واستطاعت أن تحصد تأثيراً واسعاً.. في ظل غياب غيرها.. وحتى مع الأذى الذي طال كل أرجاء الوطن لازال أولئك يتحدثون عن جزيرة العرب وموالاة الكفار وغيرها من الافتعالات والرؤى المرتدة على ذاتها.. ولم يظهر أي مشروع حقيقي حتى بعد أن تحول الإرهاب إلى أبرز قضية عانى منها الوطن. ينبغي أن ندرك أن الإرهاب يرتكز على مبرر ديني وهي مادامت تعمل خارج دائرة الوطن لتؤسس لخطابات وأفكار تتجسد بعد ذلك على هيئة أجساد مفخخة.. تنقذ وتقرر كل تلك الأفكار السابقة. وتتحول معها ظاهرة تغييب الوطن من فكرة الى سلوك اجرامي.. خاصة وأن الوطن ظل ينمو ويزدهر.. الأمر الذي مثّل صدمة لكل تلك الأفكار.. ومنذ الثاني عشر من مايو حين انطلق الفصل الأخير من حرب الإرهاب والحاجة قائمة الى فتح ملفات الظلام النظري الذي أطر وقعّد لهذا الإجرام الفعلي.. وصاغ أوليات التطرف والعنف..، ووصولاً الى حادثة الأسبوع الماضي التي جاءت دليلاً على تلك القدرة التي تميز بها الجانب الأمني في حربه على الإرهاب حتى تحول كل رجل أمن إلى خصم مباشر. إن أزمة كبرى يعيشها هؤلاء المتطرفون في التفكير الديني وقفت خلف هذا الكائن الهجين.. وما لم يقم مشروع فقهي وديني يؤسس لخطاب وطني فعلي تسمو أمامه كل التمايزات والفروق فإن ساعة الإرهاب الرملية ستواصل حثوها لذلك السواد في طرق الوطن ورؤوس أبنائه.. [email protected]