سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
التجربة العربية بين الأنظمة الملكية والحكومات الجمهورية من طرابلس إلى بغداد.. ومن أدبيات العقيد إلى زبيبة والملك.. هكذا يبدو المشهد بين الحقيقي والمفتعل
دولة تحتل جارتها.. ونظام يتآمر للقتل والاغتيال وجامعة عربية مثقوبة من كل زواياها.. هكذا تثبت مقولة النظام العربي.. أنها ليست أكثر من حالة مجاز مفتعلة حين ينكشف لك المشهد عن نماذج فادحة السواد لمثل تلك الأنظمة، وأخرى خرجت من أبسط درجات الالتزام والوعي والمسؤولية لتتحول إلى حرب ووبال على شعوبها وعلى العالم. ولتسقط نظرياً كل الآراء التي تتحدث عن شأن عربي واحد. فمشكلة هذه الأمة لم تكن في يوم من الأيام مشكلة خارجية فقط.. ولا هي ضحية لتآمرات ومكائد قادمة من الخارج بقدر ما أن مشكلتها في ذاتها.. وفي أنظمتها وفي حالة الخرف السلوكي التي طالت بعضها وما اشتملت عليه تبعات لذلك من صعلكة وتخلّق بخلق العصابات ورص سجلات طويلة من الجرائم والفضائح والسلالات المديدة من التآمر والعنف وافتعال الإثارة والزوابع الضئيلة. إلى غيرها من نواقض الحديث عن وحدة أو نظام عربي مشترك أو همّ عربي واحد.. إضافة إلى ذلك يغيب صوت الرؤية الواحدة حين تسعى أنظمة إلى الخروج من أبسط دوائر الوفاق والتلاقي إلى حالات النقض والخلاف والتحول إلى خصم دائم ومتاح لكل ما عداه، وإذا كانت المنطقة العربية قد شهدت حالات وصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية فإنها بمجرد تسلمها للسلطة عادت لتبني ذات الخطاب وذات السلوك الذي كانت تناضل من أجله أو تزعم ذلك، فالذين علقوا شعار أنهم قدموا لإنقاذ البلاد والعباد واستعادة الأرض المغتصبة وإنهاء الظلم والاستبداد والطغيان.. ما لبث أكثرهم أن تحوّلوا إلى نفس الحالة التي برروا إراقة الدماء من أجلها وتسجية الجثث التي عبرت عليها عساكرهم وأعوانهم. وقد خلف الاستعمار الحالة العربية في مشهد لم تبحث معه نخبها السياسية عن أي احتمالات للاستقرار والأمن وإنما دشنت سلاسل من الانقلابات والاغتيالات وظهرت حكومات العسكر والحكومات ذات التاريخ الذاهب في الزنازين والمعتقلات. عربياً.. أعطني شعاراً أعطيك ديمقراطية وكان أن ظهرت وامتدت شعارات وعناوين لها أصلها وما يبررها في الثقافة العربية.. فاشتعل سوق التسميات الرنانة «الزعيم» «المناضل» «الثوري» «الفاتح» «القائد الرمز» وغيرها، وهي تسميات ذات نسب في أطراف من الثقافة التقليدية التي تتعلق بمثل هذه التسميات المنتفعة... وأياً كان الوضع فإن العديد من هذه الدول وجدت طريقها إلى الاستقرار والبناء .. فيما بقيت بعضها تدور في دوائر العسكرة والاغتيالات والتصفيات. وقد كان لهذه الأنظمة غير المستقرة ولا السلمية تأثير كبير وواضح على المشهد السياسي العربي وإذا كان يمكن تقسيم ما يسمى بالنظام العربي إلى «جمهوريات» و«ملكيات» فإن ما يواجهه هذا التقسيم هو السؤال عن مدى مصداقية والتزام كل حالة بشروطها. إن النظم: ملكيات حقيقية .. ديمقراطيات مفتعلة، تقدم ذاتها على أنها نظم ملكية وتطرح تعاملاتها وسياساتها الداخلية والخارجية على هذا الأساس، وتسعي لترتيب كل شؤونها وفق هذه الحالة، لكن، هل عرف النظام الرسمي العربي ما يمكن تسميته بجمهوريات حقيقية.. وليتجه السؤال إلى ما هو أعمق.. ليصبح: هل انتجت السنوات الطويلة الماضية أي تجربة جماهيرية ديمقراطية حقيقية في العالم العربي؟ هذا السؤال تختلف الإجابة عليه باختلاف الحالات الخاصة بأي من تلك الأنظمة، فالتي هدأت واستأنفت مشروعاً داخلية تحرّكه رؤية وطنية هادفة استطاعت أن تخرج أنظمة وشعوباً من ركام فتوات «النضال» وغبار الانقلابات والدعاوى المفتعلة.. واتجهت إلى داخلها الوطني لبنائه وكفّت عن تخدير رعاياها بخطابات المعركة الكبرى والنصر الكبير وتحرير الأمة و«أمة واحدة» و«حرية - عربية - اشتراكية» وغيرها من الشعارات استطاعت أن تقارب واقعاً مقبولاً ومنفتحاً على احتمالات أوسع. واستطاعت أن تقدم حالات متفاوتة من الحراك الجماهيري أو الديمقراطي، وان اختلفت درجته من نظام إلى نظام.. وهنا يبرز مرة أخرى الفرق بين الأنظمة الملكية والأنظمة الجمهورية.. فكل الحكومات ذات الطابع الملكي لم تصل إلى الحكم من خلال قوة أو انقلاب ولم تنشئ مؤسساتها وفق خلفية نضالية أو ثورية.. إضافة إلى أنها لا تلزم نفسها بما لاتستطيع القيام بها وفي ذلك تترك الباب مفتوحاً لحركة الداخل اجتماعياً وثقافياً.. ولأنها متخلصة من خلفيات الشعارات والصفات الانقلابية.. والخوف من الداخل فقد اتجهت إلى تحديد موقعها من العالم ومن الداخل انطلاقاً من تلك الخلفيات المادية البعيدة عن الضجيج والانفلات من مسؤوليات الداخل إلى حالة جعلتها أكثر توازناً واعتدالاً في ترتيب أولويات النص السياسي الذي تقوم عليه.. ولأن الثقافة العربية والعقل العربي على امتداد تاريخه لم يحدث له أن تعرف على تجربة ديمقراطية أو جماهيرية حقيقية.. كانت هذه الأنماط السياسية الملكية أقرب إلى طبيعة الثقافة والوجدان الجمعي.. وهذا ليس تحزباً ضد الديمقراطية والجماهيرية وشعبية الحكم.. لكن هذه الحالات السياسية إما أن تكون كما يجب بالفعل وإلا فإنها لا تقبل حالة ناقصة أو قائمة على طرف دون طرف.. فالمشاريع الحقيقية لا تخضع للانتقاء والاحتراز وإنما تقبل بشروطها.. ملكيون أم ديقراطيون خُدّج من هنا.. فليس ما سبق هو تحيز سافر للملكية أو ما شابهها من أنماط الكم لأني أكتب من بلد يقوم على نظام ملكي.. ولا هو صوت مفاضلة بين نموذجين مستقلين.. وإنما يمكن فهمه على أنه قراءة للمطروح عربياً في هذا الصدد.. وبحث مسيرة تلك الأنماط الحاكمة.. واليقين الذي لا جدال فيه أن أي نظام يقدم ذاته على خلاف ما هو عليه في الأصل لا يمكن أن يحوي أي منفعة تذكر.. ولو نظرنا إلى الخمسين عاماً الماضية من عمر الأنظمة العربية وفق تقسيمها القائم إلى ملكيات وأنظمة حكم جماهيرية وديمقراطية وأردنا قياس حالة الخطاب الصادر من كل جهة.. فسنجد بما تثبته الأدلة أن الأنظمة الملكية والتوارثية التي تقدم ذاتها على أنها كذلك كانت أكثر فائدة للداخل الوطني وللخارج العالمي.. وأن خطابها كان أكثر سلامة ووعياً وهدوءاً من غيره، ومحصلة السنوات الماضية من عمر الأنظمة تطرح أبرز دليل على ذلك حيث تتضح الفروق ابتداء من الخلفيات والتراكمات المحركة لكل نظام وانتهاء بمخرجاته على الأرض، فيما أن الخطاب الذي انتجته أنظمة تصنف ذاتها وتقدم نمطها على أنه نمط ديمقراطي وانتخابي لم يكن لأكثرها أن تثبت شيئاً من ذلك.. ففي الداخل عاشت تلك الأنظمة على تقديم كل المصالح الداخلية قرابين لاستقرارها هي وأمنها هي.. وامتدت قوانين الطوارئ فيها لعشرات السنين وتحولت في خطابها إلى تبني الخلفية القديمة المتمثلة فيما حفلت به الذهنية التقليدية العربية من احتفاء وانصياع لشعارات «العزة» و«الوحدة» و«البطولة» وللخلفية الجديدة المتمثلة في تاريخها القريب الذي شكل ظروف وصولها إلى الحكم وما تبع ذلك من تبن لصوت أممي عروبي قومي.. كشفت الأيام أنه لم يكن أكثر من خدر موضعي رصّعت به الخطابات والأحزاب والنقابات لينتهي إلى حالة من الكساد الحياتي داخلياً والمواجهات والخسارات الدائمة خارجياً. وعليه.. فلا يمكن الحديث - غالباً - عن تجربة ديمقراطية عربية بالفعل، وإنما هي حالات افتعال واستناد ومكاء وتصدية ديمقراطية.. لا حقيقة فيها ولم تنجز ما يمكن تقديمه نموذجاً لحالة ديمقراطية عربية.. حيث انشغلت تلك الأنظمة فيما انشغلت به بأن جعلت مشروعها هو تمرير هذه المجازات وتسويقها حتى لو وصلت إلى حالات يفوز معها أفراد بنسب تصل إلى 001٪ من الأصوات. إن الديمقراطية مبدأ لا جدال في حيويته وعالميته.. لكن لا جدال أيضاً في أنه يصبح من أقسى أنواع الاستبداد إذا ما كان مجرد شعار أو أغنية وطنية.. دون أن يكون له أدنى صورة حقيقة على الواقع. من بغداد - سابقاً - إلى طرابلس حالياً نحن أمام مشهدين على الساحة السياسية العربية: !) أنظمة ملكية تطرح نفسها وآلياتها على أنه كذلك.. إذن.. نحن أمام حالة حقيقية وأنظمة تقدم ذاتها على أنها ديمقراطية انتخابية حرة.. فيما هي تعلم قبل غيرها أنها ليست كذلك.. وإذا كان النظام الملكي يقوم على جذر راسخ في الثقافة ومتقبل منها وسائغ لديها وبالتالي فهو يرتبط بها لأنها هي ذات صفاته وذات صفات المجتمع الذي يتحرك فيه فإن النظام الديمقراطي لا يمكن له أن يستتب إلا وفق حالة متخلصة من علل الموروث ونماذج السلطة القديمة إلى نظام الجماعة المنتخبة.. التي تتولى إدارة البلاد لفترة ثم يتم تغييرها..، وإذا كانت ظروف في بعض البلدان العربية «الديمقراطية» قد حالت دون استمرار آلية التغيير مع الحفاظ على حد أدنى بين البناء والحرية.. فإن أنظمة أخرى حين وصلت للحكم كانت قضيتها الأولى أن تكون استبدادية بوجه ديمقراطي.. وأحادية بوجه جمعي والخارطة السياسية العربية تؤكد أن كل القواصم والمصائب التي مرّت بالوطن العربي كانت خلفها أنظمة تتدعي الديمقراطية والحرية وتستثمر قاموس الصراخ العربي الغني بكل تلك الشعارات الحادة. ولأن هذه الأنظمة جاءت على خلفيات انقلابية ودموية.. فقد كان صوتها العالي والأكثر أذية للاسماع والقيم.. موقفهم من الخارج وعزفهم على الأممية كمشروع.. فكم من قادم إلى الحكم أعلن أن قتل إسرائيل وتعليقها على جدران غرفته ورمي أحفادها في البحر ستكون قضيته الأم، وكم من قادم أجل لكل مصالح وطنه وشعبه في انتظار الخلاص من العدو الكبير.. وتحرير الأرض العربية، وكم من قادم علّق كل ما يحدث في العالم من كوارث إلى انفجار إطارات السيارات في رقبة أمريكا وأنها ستدفع الثمن. البعث العراقي.. حرية الاحتلال.. ديمقراطية الجوع لا يمكن في حالة كهذه الاستغناء عن أبرز نموذجين يمكن من خلالهما قراءة الوبال والخسران الذي خلفته «الديمقراطيات» العربية التي عبارة عن مجموعة من العسكر والجنود الأميين والهاربين من الخدمة مثل: أولاً: النموذج العراقي السابق الذي طرح نفسه نظاماً ديمقراطياً جاء تحت المظلة ذاتها الذي تحركت فيها معظم حركات الانقلاب في العالم العربي معلنة تخليص البلاد والعباد من ظلم وطغيان سابق.. وتحت المظلة ذاتها كان القادمون إلى سلطة كاملة من العسكر والأميين ما إن وصلوا حتى بسطوا جهلهم وبطشهم وأحرقوا بالأرض والناس وأخذوا يسوقون شعارات الحزبية والتعددية في حين مارسوا أقسى أنواع الفردية والأحادية والاستبداد.. وظهرت نماذج حكومات الحزب الواحد في أبرز تجلياتها في الحالة العراقية وكان النظام لا يفتأ يكيل الوعيد والتهديد لعدو الأمة ولإسرائيل وأن موعدهم البحر الذي سيرمون فيه و«عاشت فلسطين حرة أبية»، واللعب على هيئة: جبهة الصمود، ومفتاح التحرير، فكان أن شاهد الجميع ما قام به ذلك النظام «الجمهوري» «الحر» «الديمقراطي» من بطش وتنكيل في سبيل أن يستتب له حكمه ولو ضاعت الأوطان وهلك الناس وبدأت سلوكيات الجهلة والمغفلة تظهر على ذلك النظام بدءاً بالمناصب والتسميات وانتهاءً بالأسماء والألقاب.. ومحاولة الدخول إلى كل فن وحرفة والانتشار في كل الأرض علماً واحداً وحاكماً لا شريك له من الناس.. ونامت الوعود السابقة في خبال الدعاوى والألقاب المنتفخة.. ومثل صدام حسين وأعوانه واحدة من أكبر كذبة للديمقراطية مرّت بالوطن العربي وأخذ يدخل الانتخابات الرئاسية وحيداً ليفوز بما نسبته 001٪ فقط من الأصوات ولقضايا لا مد لها.. خاض النظام بالعراقيين حروباً لوجهة دون أدنى قضية أو مبرر، وكما سبق من حديث عن أن أعظم الكوارث التي حلت بالأمة وقفت خلفها تلك الأنظمة «الديمقراطية» «الشعبية» وشهد العالم كله جريمة الغزو الصدامي للكويت العام 0991م وما تبع ذلك من شقاق وانقسام حاد في الصف العربي.. جاء ليمثل انعكاساً فعلياً للحالة في داخل تلك «الجمهوريات» ولقد كان ذلك الغزو دليلاً مادياً وفعلياً على أن «عصابات» هي التي تمثل بعض الأنظمة العربية.. امتدت «بلطجتها» السياسية من حالات القمع والتنكيل في الداخل إلى القيام بأبشع الجرائم والانتهاكات في الخارج.. الأمر الذي يمكن معه القول إن الأمة عاشت وتعيش بلاءً حقيقياً تورطت فيه الشعوب والأنظمة الباحثة عن الاستقرار مع هذه «الشلل» الحاكمة مما أكد أن إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام هي مشكلة الأمة وحدها، ولا أن أمريكا هي التي قسمت المنطقة العربية وبثت الخلافات في داخلها.. وإنما حالات المجاز والكذب والأحجيات السياسية التي تمثلها بعض الحكومات المفتعلة.. وتحول تلك الأنظمة من حالة الإدعاء والكذب إلى المجاهرة بطيشها ونزقها.. وانقلابها لتصبح حربة تطعن أي أمل في عالم عربي مستقر. لقد مثلت الفئة الحاكمة في العراق سابقاً نموذجاً على حكومات عربية.. أعادت أبرز وأخطر العلل التي شهدها العقل العربي في أكثر فتراته تخلفاً.. فعادت السيرة الهلالية في شكل سيرة صدامية.. وظهرت «أم المعارك» و«الحواسم» و«معارك الشرف» بل فتح المشهد ستاراً من الغبار عن نماذج لا أرض لها ولا سماء.. وامتلأت الذوات الحاكمة في تلك النماذج غياً وبطراً واستبداداً فظهرت حالات «التسعة والتسعين اسماً» و«المهيب الركن» و«رب الأسرة العراقية» وتحول صدام حسين إلى أديب وروائي وكاتب ومؤلف.. في دلالة على مشهد الزيغ المعرفي الذي يحاول أن يمتد ليشمل كل ما من شأنه أن يضيف إلى رصيدها زهواً وعجباً ضمن الهيمنة التي تمتد على مؤسسات الأمن والثقافة والتربية إلى دور الألعاب والملاهي. هذا مثال على حالة حكومة،، «ديمقراطية» عربية. فيما لم يحدث أن شهدت الساحة العربية نماذج لهذا الإيذاء للطويل والواسع للأمة من قبل أنظمة هادئة وحقيقية تقدم ذاتها كما هي دون إدعاء أو تزييف..، فلقد تحول العالم العربي في بعض أقطاره وجراء تلك النماذج إلى وطن طوارئ وكوارث ومقابر جماعية.. وتحول في نظر الآخر القوي إلى بلد يقوده المراهقون وتسيّره العصابات. عن النظام الليبي.. نكتب.. لا نكتب!! النموذج الثاني.. «للجمهوريات» العربية المنتفخة صوتاً.. النموذج الليبي وقبل الكتابة عنه لابد من الإشارة إلى السياق الذي جاء فيه هذا التناول.. والذي ستكون فيه قراءة هذا التناول وآلياته.. أولاً: هناك مشكل واسع فيما يتعلق بحالة التعاطي الإعلامي مع قضايا الوطن العربي بأكمله. حيث يغيب النقد وتتراجع المواجهة غالباً ما دامت الحالة بين دولتين أو نظامين تعيش سلماً وهدوءاً وما أن ينفرط ذلك الهدوء حتى تبدأ القراءة الناقدة والتي تأخذ مسلكين إما تجريحياً عدوانياً وإما كشفاً ومواجهة بالحقائق.. والقراءة التقليدية الصرفة لهذه الحالة تذهب فوراً إلى انه نوع من النفاق والحرب الكلامية.. لكن البحث عن المنطق والصواب والسعي والمواجهة بالحقائق أمور كلها تقلل من مصداقية التصور التقليدي إذا ما التزمت هذه المواجهة بآداب النقد وارتفعت عن الولوج في مهاوي المشاتمة الرخيصة.. مثلما هو حادث الآن - وللأسف - في الإعلام الليبي، ثانياً: ستتأثر قراءة ما يكتب هنا على انه نوع من الرد والانخراط في سلك المواجهة القائمة.. على انني مسؤول هنا عن القول ان الموقف من النظام الليبي في أبسط حالات النظر إليه لا يمكن أن تمر على منصف دون أن ينتقد ما يحدث، إما على مستوى الخطاب أو على مستوى «التقليعات» السياسية.. أو حتى على مستوى تلك الأحداث التي مرت بليبيا وكان ضحيتها الشعب الليبي الشقيق. واتخاذ ليبيا مثالاً على أن جمهوريات طاعنة في الأحادية والاستبداد، إنما يسهل فتحه حين يتحدث العالم عن المؤامرة الليبية لاغتيال ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وهي ذات الحالة.. لو أن هذه المؤامرة جاءت لاغتيال أي شخصية عربية معتبرة.. بل ان تناول النظام الليبي في سياق الحديث عن الجمهوريات العربية «الديمقراطية» مسألة لا يمكن إغفالها سواء أظهرت جريمة المؤامرة الليبية أم لم تظهر. فالنظام الليبي من أشد الأنظمة العربية تعلقاً وتمسحاً بكلمات «الجماهيرية» «الليبية» «الشعبية» «الاشتراكية» «الحرية».. وغيرها.. بينما يشهد الواقع الليبي في أبسط صوره على خلاف ذلك ولئن كان النظام الليبي يصر على أنه حكم شعبي يؤديه الشعب تجاه مصالحه فإن الصورة لا تقول هذا بأي حال من الأحوال.. وإذا كان ذلك النظام يقدم نفسه على أنه نظام سياسي راشد وصامد.. فإنه أكثر الأنظمة مراهقة وإثارة للشغب.. وفي حالة تكاد تتطابق في معظم جوانبها مع الحالة العراقية سابقاً فإن الطيش والأذى اتجه للداخل وللخارج.. فكما عاش العراقيون أيام الحكم السابق سنين طوالاً من الحصار والجوع والفقر والعوز في الوقت الذي كان فيه النظام يبيع أوهام الصمود والغذاء للناس.. عاش الشعب الليبي - أيضاً ذات السنين العجاف حين كان رئيسه مطارداً من قبل العالم لاتهامه بجريمة «لوكربي» التي باتت أشد «الألفاظ» وقعاً وتأثيراً في مسمع المواطن الليبي.. حيث ظل النظام رهين «صموده» و«بطولته» التي جرت حصاراً وعزلة عن العالم في حين كان الرئيس ينفي تلك الحادثة تماماً.. لمدة 41 عاماً ظلت فيها ليبيا في حالة حصار.. استفاد منه النظام لكي يسوق من خلاله نموذج البطل الذي تآمر عليه العالم.. ولكن بعد كل تلك السنين من الجوع والعزلة قام النظام بالاعتراف بالجريمة وتسليم المطلوبين ودفع تعويضات تجاوزت 5,2 مليار دولار. جمهورية لوكربي وأمام هذه الحادثة المعمرة فإن السؤال يصبح مباحاً عن اختفاء أي مظهر ديمقراطي أو جماهيري.. فالحصار الطويل كان ضحيتة الشعب.. وكان بأمر النظام، والاعتراف والتنازل كان أيضاً ضحيته وكان بأمر النظام.. حيث مثلت هذه الحادثة مسابقة في السياسة الدولية.. كشفت طرفاً من حالة «المجاز الديمقراطي» الذي تعيشه أنظمة عربية روجت كثيراً للهتاف والزفاف السياسي الذي انتهى وفق حالة درامية بائسة لا بطل فيها ولا حصاد لها إلا سنين من الخسارات والوبال.. وتعاظماً في زيف ادعاءات الديمقراطية وتسليم الحكم للشعب.. في حين أنه آخر اهتمامات حضرة العقيد. النظام الليبي.. ورث فتات الصراخ الذي ابتلي به الوطن العربي في بعض فتراته.. فأخذ يهيج على كل ما عداه في ارتهانه الطويل لذلك الموروث الهوائي.. فبدأ يعلن عداءه للغرب ولأمريكا، وركب على صورته صورة المناضل الذي سيعيد موازين العالم وفق كتابه العظيم وربما كانت عزلة التأليف التي اتخذها لكتابة كتبه الخطيرة.. جعلته يعتاد حالة الانعزال عن العالم والحياة.. ويجمع ما تناثر من أرباب الهزائم في المشهد العربي والإسلامي فذهب إلى تبني كثير من الحركات المسلحة والعصابات الخارجة عن النظام.. وأخذ يبالغ في الاستعداد والمواجهة التي كان يعلم هو تمام العلم أنها لن تنتج شيئاً ولن تسهم إلاّ في اشغال الشعب بقضايا توسع جوعهم وعزلتهم وتطيل أمد الاستبداد الذي انطلق قبل عشرات السنين.. ولا زال قائماً. وواصل النظام طيشه مع الخارج وعزل عن المجتمع الدولي.. وتأكيداً على ان أكبر قواصم الوطن العربي إنما جاءت عن طريق مثل هذه الأنظمة غير الحقيقية في ذاتها.. فلم تكن بحقيقية ولا واعية مع غيرها.. فلقد مثل النظام الليبي أكبر شرخ في الأنظمة السياسية العربية.. وهو شرخ مسرحي درامي أكثر من كونه شرخاً واعياً فالجميع يترقب لقاءات القمة ليشاهد آخر صراعات الفنان القذافي الذي تميز على كل الأنظمة العربية والعالمية والإنسانية بأن أدرج في شعاراته كلمة.. طز.. طز في أمريكا، وفي العالم وفي الجامعة العربية وفي كل شيء. كل ذلك مضافاً إلى تاريخ طويل من المشاكل التي صنعها هذا النظام «الديمقراطي». فالجميع يتذكر كل تلك المشاكل التي أثارها النظام الليبي مع مصر الأمر الذي قارب اشتباكاً مسلحاً كادت ان تقود إليه مراهقة النظام وتهوراته. وشنت صحافة الأخ العقيد.. حملة واسعة على الأشقاء في مصر والحكومة المصرية.. وازدادت حدة المشكلة إلى درجة طبع معها جواز السفر الليبي بعبارة «غير صالح للسفر إلى مصر» وللناظر ان يقارن مثل هذه الأحداث مع خطاب الوحدة والعروبة التي ينام النظام الليبي ويصحو عليه. واتسعت حدة المشاكل التي ابتكرها النظام مع الجيران فتدخل في الشأن السوداني عن طريق دعم وتسليح حركات الانفصال والتمرد والتدخل السافر بمختلف الطرق والأساليب الحالة التي انتجت اشكالات لا يزال أثرها قائماً فيها بشهادة الوضع في دارفور. والملف التشادي يقف كذلك شاهداً على سلوكيات النظام الليبي بدءاً من عمليات الدعم لمتمردي انجامينا واحتلال الشمال وفرض دستور الكتاب الأخضر والحالة كذلك في النيجر وتونس والجزائر بل وحتى خارج دول الجوار. وبعد ان استنفذ النظام كل مراهقاته في الداخل العربي.. أعلن ذات شبهة من شبهه الطويلة أنه غسل يده من العالم العربي لأنه تأكد له الا فائدة منه.. فهو لم يستجب لأطروحاته السياسية العظيمة.. والتي كان من أشهرها مشروع «اسراطين» الذي كان طرفة الموسم في حينه. الرؤساء الأدباء.. بعد ان نفض الزعيم الفاتح يده من العرب لأنهم لم يكتشفوا مواهبه العظيمة ولم يقتنعوا بقدراته الخارقة قرر التوجه إلى أفريقيا.. ذات التاريخ الطويل من المعاناة مع نظام العقيد. وإذا كان صدام حسين قد أصبح أديباً وروائياً ومثقفاً.. فالحالة ذاتها لدى القذافي.. والتي يمثلها «الكتاب الأخضر» أولاً.. ثم أدبيات القائد أعمالاً مثل: «الأرض.. الأرض» «المسحراتي» «الموت».. لتتقابل هذه الأعمال سياقياً مع «زبيبة والملك» و«القلعة الحصينة» وغيرها من منجزات المفكر صدام حسين. وبين الكتاب الأخضر.. وزبيبة والملك.. وبين ديمقراطية نظام صدام السابق وديمقراطية النظام الليبي الحالي.. تبرز أكثر الصور مخاتلة في نموذجين على صورة الديمقراطية في العالم العربي.. التي لم تنتج إلاّ حالات التشرذم والشقاق داخل كل المؤسسات التي قامت على صوت أممي واحد.. وباعدت بين الواقع العربي وبين أي أمل في حالة تصالح أو وفاق عربية. أمام هذا.. فإن أبرز ورطة وقعت فيها النخب الثقافية والإعلامية هي حين انساقت خلف مثل هذه الأصوات وباتت تؤطر شعاراتها وتصب ماء الوشاية على أيدي كهنتها.. وتبالغ في خطأ تأويل قضايا العالم العربي وتعليقه في عنق خارجي.. دون النظر إلى أنه مهما كان عدوله قوياً أو ضعيفاً فإنك لا تستطيع ان تواجهه بأسماء وأنظمة كالمطروحة عربياً. هذا نموذج على حصاد السنوات الماضية وعلى أحقية المقارنة بين ما أفرزته هذه الجمهوريات الورقية.. مقابل ما طرحته غيرها من الأنظمة التي يكفي أنها كانت حقيقية.. لتتجه إلى مشاريع أخرى بينما كان مشروع تلك الجمهوريات ان تثبت جمهوريتها.. وان تسوق ديمقراطيتها عبر الزنازين والمقابر الجماعية. [email protected]