لم يعد مجدياً أن تشتم الإرهاب وتحرّمه أو تصفه بأنه مشين .. بل لم يكنّ ذلك وحده مجدياً في يوم من الأيام..، ولم يحدث أن كان خطاب الرفض والتشويه سلاحاً يمكن من القضاء على حرب لها أطرافها الواسعة والمتعددة.. ومنذ ثمانية عشر شهراً والشارع السعودي يشتبك في أشكال متعددة مع الظلام والجهل وحَمَلة الموت والدمار.. الذين اتسعت المواجهة معهم وباتت هاجساً وسلوكاً وصفة يتمتع بها رجل الشارع، بل تحوّلت إلى عقيدة يرتفع معها الوطن كمحور أول وأوحد للفداء والتضحية، ويصبح التطلع إلى غد أوسع وأنقى حلماً جماعياً.. تسقط معه كل الاختلافات والفروقات ليقف الوطن محجة للعمل والفداء وكسر أطواق العنف والتخلف والدمار.. لكن حين تكون المواجهة مع خصم على شاكلة الإرهاب وبصفاته وخلفياته وآلياته فإن المواجهة تأخذ أشكالاً أوسع وأطول وأكثر حين يكون الإرهاب منطلقاً من خلفية النص الديني ادعاءً والتصاقاً ووهماً خارجاً من خرفات إدعاء الحقيقة وخرف الجهل الموغل في ظن عكسي أنه هو تمام العلم.. التصاق غير موفق ولا منطقي.. فالدين الذي بدأ وعاش توافقاً وانسجاماً وطريقاً باتجاه الحياة لا يمكن تقديمه على أنه مدعاة غيلة وقتل وانتحار.. وحين تكون هذه الحالة في وسط مجتمعي كالسعودية .. البلاد التي يمثل فيها الدين والتدين هجساً دائماً، فإن الإشكالية تضيق لتنفرج أو تتسع لتضيق حسب رؤية الناظر في شأن اختلطت فيه الرؤى والتصورات التي يجمعها جامع الانتماء للدين.. هذا الجامع الذي سبق وأن كان محل جدل واختلاف في أزمنة عدة عبر التاريخ.. ولكن الصورة المثلى في أن يكون هذا الجدل والاختلاف نزيهاً وواعياً ومتسامحاً غابت كثيراً وحلّ محلها ذلك الخلاف الذي يقوم على التخطئة والرفض، وادعاء الحقيقة.. هذا فيما يتعلق بالنخب الفقهية ودوائر الدرس الشرعي.. ويؤكد ذلك حالات الخلاف الواسعة التي شهدتها الفرق والمذاهب والتوجهات الفقهية. لكن الصورة أخذت شكلاً آخر فيما يتعلّق بالوعي الديني العام والهاجس القائم لدى كل الشرائح والذي لا علاقة له بالدرس الفقهي أو التنظير وإنما يمثل الدين بالنسبة له قيمة حياة يتصالح بها مع كل متطلبات الحياة.. هذا النموذج العام وقع أيضاً في حالة تصادم وارتباك مع الإرهاب فكراً وأحداثاً.. إذ أن كل عملية إرهابية تتكئ على النص الديني وتدعي انطلاقها منه فإنها إنما تجرح الوعي الديني العام والهادئ والمسالم لتوقعه في صدام يمتلئ ريبة وظناً وشعوراً بالتمزق.. حيث لا يمكن لأي مؤمن مسالم مطمئن أن يستوعب النموذج الجهادي المنحرف.. في الوقت ذاته يمكن لرجل الدين والفتوى أن يفهم ذلك النموذج وأن يتداخل معه ناقضاً ومساجلاً.. وفي جميع الحالات فإن حالة من العصف بالوعي الديني في صوره العامة أو الخاصة قد أدى إليها الإرهاب.. بأحداثه وبخلفياته النظرية والفكرية. مرة أخرى.. ففي الوسط السعودي ساد الحس الديني في هيئة بسيطة ومتسامحة وعفوية كمستوى أول بينما كان المستوى الثاني يسير وفق درس تنظيري وقرائي وبحثي.. وبطبيعة الحال كان الثاني هو المؤثر والمسهم في توجيه جزء من خطاب المستوى الأول، لكنه ظل ينمي خطابه حتى تفرّع وانقسم بين تيارات رأت ضرورة تفعيل البسيط والعفوي والمسالم، وأخرى جنحت إلى المصادم والمغالي والمتطرف.. وقد كسبت حضوراً واسعاً وصنعت تأثيراً واسعاً جرّاء بروزها في بعض المنابر وجرّاء موافقة تلك الصفات لبعض صفات الذوات التقليدية والمحافظة.. وبالتالي .. فلا يمكن إنكار أن هناك تياراً غزّى التطرف وساهم في انتشاره.. وهو الانتشار الذي استقلت معه تلك الآراء بنفسها حتى أصبحت تيارات وأصواتاً تكفّر وتشنّع وتتصلب وترفض دون أدنى وعي أو اعتبار لأي حسابات.. فالتعصب سلوك مدان والأدلجة المتطرفة تؤدي إلى انفلات نظري ومعرفي لأنها حين تبلغ حداً من الأحادية والتطرف تتحول الى عقيدة من خلالها يقوم صاحبها لمحاكمة الحياة والناس وكل جديد ومستحدث.. النموذج المتطرف ضد الحياة.. باتجاه الموت والجانب المتصلب في هذه العقيدة يمثل ورطة فكرية حيث يسيطر عليه الرفض المطلق كآلية تعامل مع الحياة والكون...، وتستعر حدة الرفض المتعلقة وهما بالغيبي والسماوي والمقدس لتتعلق بعناوين تجرها الى افعال يغيب فيها الوعي بالحياة ليتحول الى بحث مطلق عن الموت.. مثلما هو مشاهد في العمليات الانتحارية.، ان الارهاب ليس بقادم من الخارج.. كما انه من العبث ان ينظر الى الإرهاب على انه سعودي او وهابي او خاص بمنطقة دون غيرها.. كلا.. بل هو حالة يمكن لها ان تظهر في أي ثقافة اذا ما تحول الى عقيدة ملكت نفس الفرد وكانت نافذته الوحيدة للنظر الى العالم؛ لكن في حالة القراءة النظرية لأي جماعة او سلوك متطرف فإن الظرف الخاص ربما تعدد او اختلف.. ولكن التطرف في النهاية لا يمكن ان يلصق ببلد دون غيره.. ودليل يسير على ذلك ان ما شهدناه في المملكة من عمليات ارهابية لم تأت وحيدة في العالم العربي وانما رأينا مثيلاتها في اليمن ومصر والمغرب وغيرها من بلدان العالم. في صفات النموذج الجهادي المنحرف الظرف الذي نشأ فيه الارهاب سعودياً واستمر منذ ثمانية عشر شهراً على الاقل له حيثياته وتفصيلاته وخلفياته التي لا تنفصل عن ذات المؤثرات والخلفيات التي تصاحب اي عمل يقوم به اصحابه استجابة لوازع ايدلوجي.. هذا الوازع الذي حصرته مجمل الاعمال الارهابية التي شهدها العالم في الاسلام.. كمحرك وحافز على القيام بتلك الاعمال وتلك هي الصورة التي دبجتها الجماعات المتطرفة في كل ما قامت به من انشطة وما استهدفته من مواقع.. وهي في ذلك كله تنطلق من مشكل نظري في قراءتها للدين ولنصوصه ولتوجيهاته واذا كانت الفكرة المفصلية التي تقف خلف المواجهة الحربية والقتالية التي تخوضها الجماعات الاسلامية هي فكرة الجهاد.. كركيزة من ركائز الدين الذي تنتمي إليه.. فإنها أيضاً تدخل بها في ذات المشكل النظري.. حيث يظهر التعلق بالعناوين ومحاولة ملء الفراغات باجتهادات ذاتية تسهم في زيادة حدة التوتر بين الحياة وبين الاتباع العميان لتلك النصوص وفق التأويلات غير الموفقة.. لتصل الرؤية الى حالة كتلك التي حملتها احد خطابات زعيم القاعدة اسامة بن لادن حين قسم العالم الى قسطاطين والارض الى بلاد حرب وبلاد سلم.. وهذه الرؤية ربما تختصر كثيراً من حالة التوتر التي يتجنى فيها على النص الديني حين يؤول وفق رؤية متطرفة ليتحول صداما مطلقا مع كل مختلف معه.. وابن لادن في مختلف خطاباته انما يكاد أن يكون صورة للنموذج المقاتل الخارج من النص وفق حالات القراءة والتأويل المرتبكة.. ويحوي كل الصفات التي يمكن ملاحظتها في اي خطاب ارهابي سواء أكان تابعاً له او يعمل بعزل عنه.، حيث يتواصل الاشتباك والاستيلاء على النص والدليل المقدس وإدعاء ان هذا هو التعاطي الامثل والاصدق معه وان هذا الفهم هو الصائب والأنسب.. وتحتد هذه الحالة حين النظر الى قضية «الجهاد» وموقعه من البنية الدينية لدى كل تلك الرؤى..حين يتحول الى هدف لا غاية.. وفق الفهم السطحي للشهادة والموت والفداء الذي يلتبس صاحبه يقين الصواب والفوز وان كل من خالف ذلك فهو ذاهب الى الخطأ والخسران. ان هذا النموذج الجهادي المضلل انما يمثل ازمة وقع فيها الخطاب الإسلامي المتطرف واركس فيها بفعل تلك الواقعة خارج الحياة والباحثة عن الموت تغيب كل خطابات الإسلام التي تحث على الحياة الكريمة والاستعداد للآخرة.. بل القادمة لتتصالح مع الحياة وتسهم في ترتيبها واخراجها من كل ما هو سادر ومنفلت الى ما هو واع ويقيني وحقيقي.. ولكن حالة الخطاب الإسلامي المتطرف الذي تم توجيهه للعالم وكان مؤثراً لم يأت من أي رؤية مسالمة واعية وانما تم تقديمها وفق افظع الصور بدءاً من الحادي عشر من سبتمبر وانتهاء بالحوادث التي تشهدها المدن العربية.. ووسط هذا تحولت السلطة المؤثرة في نفوس المتطرفين من سلطة الدين المباشرة بنصوصه وتوجيهاته الراقية المتسامحة الى سلطة الفرد المتعالم.، الذي ربما يمثل اسامة بن لادن وغيره من دعاة التطرف مختلف العالم الاسلامي ومهما اختلفت توجهاتهم مثالاً حياً على سلطة المتعالم الجاهل الذي لا يقوم خطابه إلا صورة ساذجة تذهب الى حث الشباب والاتباع على تأجيل غرائزهم وشهواتهم في انتظار يوم القيامة.. ليتم استعجالها عن طريق حقن اليأس والنفور والغربة والتخطئة والانكار على الحياة.. ثم يرتفع هذا الانكار ليصبح استعجالاً متهوراً للموت وفق اليقين غير المنضبط بأن كل ميتة انتحارية باركها متطرف فهي ميتة خير وشهادة وفوز.. ليعتنق وهما فادحاً يرى من خلاله أنه سيكون في الجنة بعد أن ينفجر جسده في وجوه الناس، وتلك هي طاقة الخدر التي تملأ نفس هذا ال «مجاهد» الانتحاري وهو يشق طريقه وسط القتل ليربك الحياة والأمن ذاهباً إلى «جنته المزعومة». تلك هي بعض ملامح الخلفية النظرية للإرهاب وذلك بعض من تصوّرالإرهابي الهش والساذج والمتهور.. والذي يلحظ كل خطابات الإرهاب وما تبثه المواقع ووسائل لإعلام من صور ومشاهد سابقة للعمليات التي نفذوها وما في تلك المشاهد من إيحاء وافر بما يمثله الهجس بالموت والخروج من الحياة من قيمة كبرى لدى التفكير المتطرف الذي تسيطر عليه رؤية أن لا حياة ولا رأي ولا مصداقية ولا قبولاً إلا لما جاء من الشرع نصاً وفق فهمه هو للشرع.. ووفق تغييب قسري لأي نشاط بشري جاء الشرع ليوجهه ويدفعه لبناء الحياة والحضارة هكذا تنشأ المواجهة بين الحياة والبقاء وبين الفناء والخوف من الحياة الذي قام على فهم مقلوب للشرع وعلى إعلان أن هذا الموت والانتحار على أنه اتجاه إلى الله وطريق إلى الجنة فيما أن الله تعالى أوجد الحياة فكرة منطلقة وحيوية داعياً إلى العمل والإنتاج والحياة والتطور مع عدم إغفال الاستعداد للآخرة. ذلك الضلال المعرفي والعقلي هو الذي يقود الأجساد لتصبح قنابل آسنة تكتظ بالبارود والغفلة والتوتر وهو الذي صاغ لنا مشاهد الدمار في طرقنا وأحيائنا وليالينا بعد أن مثل ذلك الفكر بمجمله عائقاً في سبيل تطور هذه الأمة ونمائها. في جدة.. هلوسة «الجهاد» لم تكن حادثة الأسبوع الماضي حدثاً فردياً ولا جديداً ولا منفصلاً عن سلسلة حوادث سابقة له. حيث تم الاعتداء على مبنى القنصلية الأمريكية في جدة وانطلاقاً من ذات الخلفية النظرية وباستخدام ذات الأسلوب الإجرامي.. وتم دخولهم إلى القنصلية عن طريق استخدام المتفجرات وتحول المشهد إلى صورة من الدخان والدمار والبغضاء. وانتهت العملية بأسرع ما يمكن بعد التدخل القوي من قبل قوات الأمن السعودية خط المواجهة الأول وصوت الفداء الحقيقي الذي جابه ويجابه بكل أحقية واقتدار وسجل من الشهداء الحقيقيين الكثير.. وقد كان التدخل تعاملاً فورياً مع الحادث انتهى بمقتل ثلاثة من المجرمين والقبض على اثنين منهم، ومشهد الحادث تفاصيل مضحكة مؤلمة ك «إنزال العلم الخاص بالقنصلية».. واشتعال النيران في بعض المباني.. وبعد الحادث بفترة وجيزة تبنى ما يُعرف ب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» الهجوم الإجرامي على القنصلية..، وجاء في بيان التبني العديد من اللقطات الهزيلة والتي تحيل على أجزاء عديدة من الوازع النظري والجازف لكل هذه الأفكار..، وأول ما يلحظ في البيان هو تسمية العملية ب «غزوة الفلوجة» وفي هذه التسمية ما فيها من دلالة على نسب واضح بين ما يحدث في الفلوجة وبين هذه العملية فما يحدث في الفلوجة هو أيضاً بحث عن الموت وهرب من الحياة إلى ما هو انتحار. وفي التسمية أيضاً دليل على حالة الخلط بين ما هو خارجي وما هو داخلي.. فكيف لهذا الإرهابي أن يصل بين ما حدث في الفلوجة وبين عمليات تقوم في أرض كالسعودية التي لا مكان فيها لكل تلك المحفزات التي دعته للذهاب إلى العراق.. لكن حالة الخلط المنطلقة في أصلها من حالة التأزم الكبيرة مع الحياة إنما تجعل كل مخالف وغير متفق قابلاً لأن تنصب عليه رؤى المواجهة والدفاع المتمثلة في تفسيره الخاطئ. إن في تسمية تلك العملية الإجرامية بغزوة الفلوجة دليل قاطع على أن النسب قائم ووثيق بين ما كان في عملية جدة وبين الزخم المفتعل باسم الجهاد والشهادة. وجاء في البيان كذلك: «قام اخوانكم في سرية أبو أنس الشامي بغزوة الفلوجة المباركة فاقتحموا قلعة من قلاع الصليبيين في جزيرة العرب واخترقوا حصون القنصلية الأمريكية في جدة والتي تحكم من خلالها بلاد الحرمين ويساس فيها شؤون الحج والحجيج وينتشر فيها الجواسيس والخونة وبعد ساعات تمكن اخوانكم من الانسحاب من مبنى القنصلية والانحياز إلى مكان آمن وقد استشهد في العملية اثنان من الأخوة الأبطال قاموا بتغطية عملية الانسحاب وأصيب ثلاثة أخوة بجروح تتم معالجتها» إلى أن يقول البيان: «وتم تدمير وحرق بعض مكاتب القنصلية، وثم ضم معدات تنصت واتصال وأسلحة خفيفة وأجهزة إلكترونية متطورة وبعض الوثائق الهامة. من الفلوجة إلى القنصلية الأمريكية يفصح هذا البيان عن حالة الهلوسة النظرية والفكرية التي تسوق هؤلاء الأفراد وتجنح بهم إلى طلاب موت.. فقط.. فأبسط حالات الوعي تؤكد للناظر بأن عملية أو عمليتين أو ثلاثاً أو عشراً أو مئة لن تؤدي إلي خلخلة أي حالة أو التخلي عن مبدأ أو فكرة أو موقف فلن تقوم هذه العمليات مثلاً باسقاط أمريكا أو بزعزعة الحالة السلمية والتواصلية أو العلاقات بينها وبين المملكة.. أي ان الجدوى من هذه العمليات تكاد تكون صفراً اللهم إلاّ ما يتصاعد من دخان الجريمة وحالة الاجرام التي تمتد لتسقط أبرياء وضحايا لا شأن لهم بما تحيكه الرؤى الجهادية أو الإرهابية من مواقف. ولعل ما يجب التوقف لديه هو ما أشيع من ان هذه العملية جاءت لتقول بأنها تضرب العدو مباشرة ذلك العدو الذي يضرب «اخواننا المسلمين وبالتالي فهي حرب على العدو الحقيقي. وهنا يجب التنبيه إلى ان الوازع الذي يقف خلف هذه العملية هو ذات الوازع الذي وقف خلف عمليات 12 مايو والمحيا ومبنى المرور وغيرها.. إضافة إلى ان ما يسميه هؤلاء بالعدو.. إنما يمثل من خلال القنصلية حالة من التواصل السياسي والعالمي كما هو حادث في كل مكان في العالم ووفق النظم السياسية القائمة.. لكن الإرهاب والتطرف إنما يعيش خارج ذلك وبل إنه يمثل حالة تصادم مع كل نمط حياتي أو تنظيمي أو عالمي جديد لأن العالم بالنسبة له فسطاطين.. وبلاد حرب وبلاد سلم.. وهي ذات الرؤية المرتدة التي جاءت في خطاب فارس بن شويل الزهراني والتي كان يقول فيها بأنها قرأ التاريخ ولم يجد ما يشير إلى جنسيته.. وبالتالي فهو ليس بسعودي لأن الجنسية لم تكن فيمن سبقنا ولا مثيل لها في التاريخ وهذه الرؤية دليل واضح على ما سبق ذكره من ان رؤية التطرف تقوم على أنه لا يقبل شيئاً ما لم يكن له مكان في الشرع وجاء به الدين. دون أدنى اعتراف بالحاجة والمصلحة والاجتهاد البشري.. وعليه فلم يكن لأي متطرف ان يعرف ماذا تعني القنصلية لأنها لم يأت بها الشرع، إضافة إلى ان التعميم والذي يأتي كأبرز مؤثرات التفكير التطرفي يذهب إلى تعميم الخصم حسب تصوره فلا يفرق بين مافي العراق مثلاً وبين قنصلية في أي مكان في العالم.. ويظهر هذا في تلك الجملة القائلة: فاقتحموا قلعة من قلاع الصليبين. وتكشف لغة البيان كما هو الحال في غيره من البيانات عن البنية المعرفية التي يمتلكها الإرهابيون ويقوم عليها التطرف.. والتي في مجملها معرفة تراثية على مستوى المضمون وحتى على مستوى القاموس التعبيري في دلالة على حالة الفقر التواصلي مع الحياة وعلى حالة الارتداد الدائم والنظر إلى الخلف الذي يمثل نمط التفكير الأبرز لدى هذه الجماعات، ويأتي البيان على شاكلة الوصف التاريخي للمعارك وأمور الميسّرة والميمنة والحصون.. وكل هذه من الهلوسات التي يغذيها التاريخ حين تتم قراءته ارتماء وانكفاء.. وحين يصبح الماضي هاجساً دائماً، والطريف في البيان حين يتحدث عن «الغنائم» وهي دلالة على ان الحياة بأكملها إنما تدار في الذهنية المتطرفة من خلال الماضي المقنن مع تغييب كامل لأي منطق تطوري أو عقلي أو بشري.. وذكر البيان ان الغنائم شملت معدات تنصت واتصال وأسلحة خفيفة وأجهزة إلكترونية ومتطورة وبعض الوثائق الهامة، وهذا الحديث لا يمكن ان تركبه إلاّ على مشهد غزوة يثور الغبار فيها لوقع حوافر الجياد وتبرق فيها السيوف ويلتقي الفريقان عند نبع ماء، أي غنائم وأي أجهزة متطورة.. بل وأي وثائق هامة.. وماذا تقول هذه الوثائق.. وماذا سيفعل بها أصحابها والعاثرون عليها، هذا الكذب والتهويل والدجل القائم على نفخ الأوداج والمفردات واستعارة القاموس التاريخي لتركيب الحدث على خلفية تاريخية.. كل هذا نتاج حالة الوعي المقلوب والتوتر القائم بين هؤلاء الموتى دائماً وبين الحياة في أبسط صورها. «الجنة» خلف سور القنصلية الوازع النصي - الوازع الظرفي ذلك النهار في جدة كان ضحية لتلك الهلوسات النافقة.. التي لا شأن لها بالحياة ولا بأي قيمة يمكن للبشرية ان تصطلح عليها.. وبحث سافر عن الموت وتعلق بسطحيات ومظاهر ساذجة كانزال العلم من القنصلية وغيرها من المظاهر التي لا تمثل نصراً بأي حال من الأحوال. وقد تسبب الحادث في حالة من الذعر كسرت رقة ذلك النهار في مدينة حية وآمنة كجدة بيد عباد الموت والساعين إليه والذين احتقنت نفوسهم بتعجيل الرحيل بحثاً عن الآخرة التي يرسمونها على غير هدى. يأتي الوازع النصي والدليلي في مثل هذا الحدث اعتماداً على عنصرين: الأول هو ما تشتغل عليه هذه الذهنيات من ضغط وإلحاح على بعض الأدلة بعض النظر عن ظرفها أو مكمنها كحديث: «اخرجوا المشركين من جزيرة العرب» والثاني هو محاولة توسيع دائرة العدو من خلال اعلان الحرب على أمريكا بوصفها عدواً لهم.. وربط اي وجود أمريكي في أي مكان.. بما يحدث في ظروف معينة كالعراق ونحوها.. فاما الاول.. فإن حالة التعامل مع النصوص كلها تقوم على الامتثال لظروف النص وليس للنص.. وعلى الاستجابة العمياء لظروف الدليل ومرحلته وليس للدليل... وهي حالة ظاهرة ومعروفة في الذهنية التقليدية وتزداد حدتها حينما يضاف التطرف كنمط تفكير وكسلوك للتقليدية السابقة.. وهذا انحراف بالدليل عن كونه حياً ودائماً دون ارتباط بالظروف.. وانما تتم قراءته وفق كل مستجد ومستحدث من الظروف والوقائع.. وامام حالة كتلك.. يتحول النص من عنصر دفع وبناء الى عنصر موت واتحاد.. وتأتي المرادفات الدينية المستعارة.. فيصبح الموت والانتحار شهادة والخسران فوزاً. والذي يشاهد حالة جثث المجرمين وهي مسجاة على الأرض تفوح منها روائح الجهل ونتن الردة والتخلف.. يعرف مدى الهلوسة التي أدت بهم الى ان تخيلوا - ضلالاً - الجنة وهي على مرمى حجر من سور القنصلية الأمريكية في جدة.. وهي الهلوسة الخارجة من ذلك العجين الذي يختلط فيه الجهل بالعلاقة غير السوية مع الدليل.. وبالغربة التي تعيشها كل الافكار المرتدة والمختلفة.. والتعلق العكسي بالغيبي.. لتتحول الحياة الى عبء يجهدون باحثين في التخلص منها ركضاً ساذجاً الى امل شوهته افكارهم وتصوراتهم.. الوازع الثاني في الهجوم على القنصلية يأتي من حالة الاعتساف والربط بين مايحدث في العراق.. وبين اي شعار أمريكي في اي مكان.. ولاحاجة للخوض التام فيما يحدث في العراق إلا ان آراء العقلاء تكاد تجمع على ان الفلوجة واخواتها ليست قضية في حد ذاتها وانما تجتمع فيها ميليشيات محاربة من كتائب طلاب الموت... اسهموا في خراب العراق واهله وتأجيل أمنه واستقراره.. لكن الرؤى الجاهلة والمتطرفة لاتقيم اي وزن لحسابات إسلامية والخير وانما هي تؤمن بقتال المختلف والمخالف.. ولعل الذي ساهم في اشعال حدة الفتنة في العراق ان المقاتلين الذين ينتصرون له هم ثلة من الإرهابين والعابثين بالأمن في اوطانهم وخارجها وقد وجدوا في العراق دائرة سانحة للموت المجاني.. في حين ان العلماء الحقيقيين والعقلاء من الفقهاء هم الذين رأينا مواقفهم تحذر من القتال ومن الفتن المترتبة عليه، اما اولئك المقاتلون فإنهم هم بذات الذهنية والخلفية والوازع النظري والمعرفي حتى ان بعض التقارير التي تحدثت عن حادثة جدة أن أحد المجرمين الذين شاركوا في العملية كان أحد الذين يستعدون للذهاب للعراق من أجل «الجهاد» وحين لم يستطع ذلك قرر أن يقوم بعمل مماثل في جدة، إذن هي حالة بحث دائب عن الموت في جدة أو في العراق او في شمال الأرض وجنوبها القضية ان يموت لأن حالة الخدر وافيون العتة الذي يتحكم به ويصنع هلوساته يسول له ان الموت هو اللحظة التي ستعقبها حياة في جنة خضراء.. حتى لو كان طريقه الى جنته المتخيلة يمر عبر جثث الضحايا والأبرياء.. ومثل هذه الاصناف من الاجرام هي التي اثبتت للجميع ان كل ماتقوم به الحركات الارهابية المتأسلمة في كل مكان لايمكن ان يتم قبوله حتى لو انطلق من رؤية حاولوا بها تبرير ذلك.. ويكفي هنا الاشارة الى حالات الذبح والسحل والنحر التي تفخر هذه الجماعات بالقيام بها، التي تسوقها الى كل ماهو وحشي ودموي وانتحاري. وبين ظرف النص/ الدليل والقراءة المفتعلة لظرف الواقع.. وبعد حادث جدة الاليم في الاسبوع الماضي.. فإنه لامناص من الربط بين ما قد يفهمه او يصنفه البعض على انه جهاد.. وبين ذلك الحادث، واذا كانت هيئات فقهية ودعوية قد انساقت خلف العوام واتبعتهم فإنها لاتعدو ان تكون عوناً على هذا الشر.. وهو شر واحد امتد من الفلوجة الى جدة... ليثبت انه واحد لا يتجزأ مما يجعل تلك الهيئات الفقهية على محك حقيقي.. فلا هي بالقادرة على فض الاشتباك ولا هي بالتي تقوم بدورها التنويري الحقيقي وانما ارتدت لتصبح جهادية متطرفة جراء ذلك الانسياق غير الواعي. تلك هي جثث القتلى من المجرمين.. وتلك هي ارواح الشهداء من الابرياء.. وبكل شهادته.. اما القتلى فحين ارتدوا على حياتهم وبشروا انفسهم هلوسة بجنة لاقرار لها استبشروا بها بعد العملية بدقائق... كانت ثمرتهم المتحورة أنهاراً من الدماء ودخان الكراهية والجريمة.. واما الشهداء والأبرياء فثمرتهم اليانعة ان ينام الوطن آمناً وسليماً ومعافى.. من اختناقات التطرف وعبث النصوص. [email protected]