هل أمامنا محطات أخرى في طريقنا إلى مكة؟ محطتان يا حجاج.. مسجد قباء ثم الميقات.. استعدوا. ولم يكن استعدادنا المرتجى سوى التطلع بشوق جديد لأول مسجد في الاسلام، والمسجد الذي نزل فيه قول الله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالُ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» ..ولم يكن الطريق طويلاً.. خلتها دقائق فقط.. ووصلنا لقباء. لم يكن عندي استعداد أن أجد هذا المسجد العتيق تحديدا في تلك الحالة التي وجدت عليها جغرافية جبل أحد الواسعة في المخيلة والواقع، بعد أن لمست ذلك الفرق الشاسع في صورة ذلك الجبل وما يحيط به بين المخيلة والواقع. لم أكن أريد أن أجد ذلك المسجد الذي ارتبط اسمه بمعنى الطهارة معنويا وجسديا يشبه حالة معظم المساجد التي صلينا فيها هنا وهناك على الطريق.. كنت أريده رمزاً خاصاً وخالصاً للطهارة كما أعرفها في ذلك المعنى القرآني ذي الأبعاد المتوالدة من بعضها البعض.. وصلنا فعلاً.. وجدته كذلك تقريباً إلا قليلاً. كان في استقبالي وأنا أنزل مع رفاق الرحلة باتجاه مدخل النساء فتاة صغيرة جميلة جدا ببشرة بيضاء وعينين خضراوين ترتدي عباءة سوداء وحجاباً أسود للرأس نفرت من تحته خصلة شقراء اللون.. ملاك صغير بملابس سوداء.. هكذا تخيلت تلك الطفلة التي أقبلت نحوي تحديدا مادة لي يدها بمجموعة من العقود اللؤلؤية الطويلة.. ابتسمت في وجهها ولم أفهم مقصدها.. اقتربت مني حتى التصقت بي تقريبا وهي تتلفت بما يشبه الخوف، وهمست لي؛ الواحد بعشرة ريالات!! هي بائعة لتلك العقود إذاً.. كيف لم أنتبه؟ شدهتني بعينيها الخضرواين المذعورتين من شيء ما عن ذلك. أخذت منها العقود وأنا أسألها عن اسمها؛ فقالت الفلوس بسرعة.. ما الذي يخيف ملاك صغير كهذا بهذا الشكل اللافت؟ قلت لها لا تخافي.. لماذا تخافين أصلا؟ فقالت بأن البيع ممنوع هنا.. انتبهت أنها ليست سعودية أو حتى عربية، فقد كانت تنطق كلماتها بلكنة شعوب جنوب شرق آسيا، سألتها مباشرة من أين هي فقالت: من باكستان. أنقدتها المبلغ المطلوب ثمناً لعقودها الجميلة الرخيصة ومسحت رأسها فابتسمت لأول مرة وأشارت لي الى باب المسجد.. يبدو أن جميع من في الحافلة من الرجال والنساء قد سبقوني الى المسجد وبقيت وحدي منشغلة بملاك اللؤلؤ كما أطلقت على تلك الصغيرة في ذاكرتي.. متمنية أن أكتب شيئا بهذا العنوان عن هذه الفتاة ذات يوم. في المسجد الذي بدا لي أنيقاً ونظيفاً من الداخل والخارج أديت صلاتي بحرص من يؤدي عمرة كاملة بهذه الركعات القليلات.. ألم يقل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ «من توضأ فأحسن الوضوء ثم جاء مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان ذلك كعدل عمرة»؟ لله مقاييسه الخارقة لعادات البشر ونواميسهم، وعلينا الخضوع لتلك المقاييس الخارقة ما دمنا قد رضينا بهذا الدين وما يحيلنا إليه من معانٍ لتلك المقايسس عبر ما نتلقاه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. لم أكن أبحث عن عمرة إضافية في تلك القياسات الحسابية ولم تكن تثيرني حتى وأنا أقبلها كمسلمة، لكنني كنت أبحث عما وراء تلك الركعات الأربعة التي ركعتها على سجاد مسجد هو الأول في تاريخ الإسلام على الاطلاق والذي شارك النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته في بنائه.. صحيح أن المسجد قد رمم وجدد ووسع مرات عديدة بالضرورة على مدى التاريخ الاسلامي كله وما مر به من عصور، لكن الصحيح أيضا أنه ظل يحتفظ بتلك النفحة النبوية التي عطرت أجواءه ومست كل أحجاره.. لقد كان نبي الأمة يحمل أحجار البناء الثقيلة بيديه في مشاركة حقيقية أرادها أن تكون مظهرا من مظاهر البدايات في تاريخ الدولة الاسلامية.. وكانت. خرجنا من المسجد، والتقطت لي إحدى الرفيقات صورة وأنا اقف بجانب اللوحة التي كتبت فيها حديثا يشير الى فضل الصلاة في مسجد قباء وعندما ابتسمت للعدسة لاحت لي ابتسامة ملائكية مضيئة من فوق السياج الأسمنتي المقابل لمدخل النساء.. كانت بائعة العقود الباكستانية الصغيرة قد باعت كل ما لديها من عقود لذلك اليوم كما يبدو فجلست على السياج لتستريح وتوزع ابتسامات مضيئة على من اشترى منها تلك العقود. أخذت الهاتف من يد الرفيقة المصورة وصوبت العدسة للفتاة أريد التقاط ابتسامتها الرائقة تلك.. فأشاحت بوجهها ثم نهضت تركض في نهاية الممر الى ان اختفت تماما.. في الحافلة المتجهة الآن الى الميقات، كما أعلن قائد الرحلة، عدت لأفكاري التي تستسلم للنصوص وسطوتها أحيانا وتشط عنها بعيدا لتحلق في الملوك المفتوح أحيانا أخرى.. من أين تأتي الأفكار؟ وكيف تتكاثر بهذا الشكل الكثيف كلما سارت بي الحافلة؟ ينام الآخرون بيسر وهم جالسون في مقاعدهم وأبقى يقظة أحرس أفكاري ما بين شرودها وشرودي. أسجل بعض أسئلتي في هاتفي وأراجع ما التقطته من صور، وأعود لهمهمات التسبيح في الملكوت العظيم.. سبحانك ربي ما أعظم شأنك، فتخفي الأسئلة مؤقتا وتحل محلها طمأنينة من طمأنيناتي المختبئات في ثنايا أسئلتي المشاغبات غالبا. أغمضت عيني فيما يشبه ظلمة ما فتغشاني عطر بعيد.. عطر الورد الذي أعرفه تماما، والذل لم أكن أحبه الى أن رحلت والدتي رحمها الله عن حياتي، وتركت لي عطرها في الزجاجات الصغيرة وفي ثيابها وفي سجادة الصلاة.. من أين أتاني عطر الورد الآن؟ كيف عبر الأزمنة والأزمنة كلها ليتغشى غفوتي الناقصة في حافلة تتجه بي الى محطة من المحطات المؤدية الى بيت الله الحرام؟ آخر مرة زارني فيها ذلك الخاطر الوردي المعطر كان في آخر زيارة لي الى قبرها صبيحة عيد الفطر الماضي في مقبرة الجهراء.. المقبرة كلها بالنسبة لي منذ أن رحلت صارت حقلا من الورد الذي يتفصد عطرا مع كل قبر أجاوره مشيا..، ولكنه الآن هنا.. انتشر وتغلغل في ثيابي وتضاعيف قلبي.. ثم تكثف بسرعة أسطورية وركد في زاوية القلب البعيد كطيف من طيوف الجنة.. أليس عطر أمي هو عطر الجنة كما أتخيله؟ وقفت الحافلة وصاح قائد الرحلة بنا: وصلنا. (يتبع..)